أخبار - 2020.03.10

الشركات الخاصّة للحراسة: بين الهشـاشـة والتّحصيـن

الشركات الخاصّة للحراسة: بين الهشـاشـة والتّحصيـن

منذ ثمانينات القرن الماضي، وأسوة بما يجري في عديد بلدان العالم، تمّ الترخيص في تونس ببعث شركات حراسة خاصّة تؤدي وظائف أمنية مخصوصة حدّدها القانون.

تعدّ تونس اليوم 205 شركات مرخّصة لها تشغّل قرابة 50 ألف عون ويبلغ رقم معاملاتها حوالي 450 مليون دينار سنويّا.

نسلّط الضوء في هذا الملفّ على دور هذه الشركات وموقعها ضمن المنظومة الأمنية الوطنية، علاوة على مختلف الإشكاليات المطروحة في القطاع في مستوى التشغيل والتكوين والتأجير في النصوص التشريعية التي تنظّمه.

انطلق عمل الشركات الأمنية الخاصّة ووكالات الاستعلامات الخاصّة ونشاط الحــــراسة وحماية الأشخاص في العالم منذ القرن السادس عشر في البلدان الانقلوسكسونية،  ثم تراجع هذا النشاط عندما ظهرت الشرطة الرسمية العمومية في منتصف القرن التاسع عشر. وعادت تلك الشركات الخاصّة إلى الظهور من جديد بعد الحرب العالمية الثانية وكان نشاطها الأساسي الحماية من الجريمة. ومرّت فيما بعد بعدّة تطوّرات راوحت بين النشاط أحيانا من عدمه أحيانا أخرى وفي اختصاصات مختلفة شملت التحقيق السرّي والتدخّل ضدّ المضربين في القطاع الصناعي والتجسّس الصناعي وحماية المؤسّسات الصناعية والتجارية وحماية المواقع الاستراتيجية بالشراكة مع الشرطة الرسمية ..الخ..

وفي خضمّ ذلك التطوّر ظهر نموذج جديد  انقلوسكسوني بداية من سنة 1960 أطلق عليه تسمية «الإنتاج الأمني المشترك» بين الدولة والشركات الأمنية الخاصّة. وإن لاقى هذا النموذج في البداية رفضا من نقابات الشرطة فإنّه فرض نفسه في النهاية وتمّ تكليف الشركات الأمنية الخاصّة بأنشطة مثل حراسة مراكز الإيقاف والسجون لتقوم بذلك بدور الشريك للدولة وليس المنافس، إضافة إلى حراسة المنشآت التجارية والصناعية وحماية الشخصيات ونقل الأموال وغيرها... وكان هذا التطوّر إيذانا بإعادة النظر في دور الدولة وموقعها في المنظومة الأمنية في اتجاه مزيد منح القطاع الخاصّ صلاحيات أمنية تستفيد منها الدولة وتخفّض من مصاريفها في هذا المجال وتستجيب للمتطلّبات الأمنية الجديدة التي تفرضها الأوضاع في العالم.

وانتهى المطاف اليوم بالمنظومة الأمنية العالمية إلى مقاربة جديدة أمريكية المنشأ هي مقاربة «الأمن الشامل» التي تبنّاها الاتحاد الأوروبي فيما بعد وتهدف إلى إعداد عون الأمن الخاصّ للتصرّف في الأزمات وفي النزاعات إن وجدت وتوقّع المخاطر وترتيبها للتعامل معها وأصبحت كلّ المؤسّسات الاقتصادية مطالبة بتعيين مستشار أمني لها في إطار هذه المقاربة الأمنية الجديدة، فازدهر القطاع في الولايات المتحدة الأمريكية لتنشط فيه أكثر من 10 آلاف شركة خاصّة تشغّل ما يزيد عن مليون ونصف شخص.

تونس ومقاربة التأمين الخاصّ

وفي تونس، وأسوة بما يجري في العالم، تمّ الترخيص ببعث شركات الحراسة في ظلّ مقاربة التعويل على التأمين الخاصّ عموما (أن يتولى صاحب المحلّ العمومي أو المنزل أم المنشأة العمومية أو المؤسسة الاقتصادية أو الشركة أو غيرها تكليف شركات الحراسة بتأمين مقرّاتها) وهي، حسب السيد الناصر اليتوجي صاحب شركة حراسة، شركات اقتصادية مستقلّة وليست شركات مناولة تعمل وفق أولويات اقتصادية تأمينية قصد معاضدة مجهودات الأمن العمومي أمام تنوّع المخاطر وتفاقمها. ولذلك يحدّد السيد الناصر اليتوجي الفرق والتكامل بين الأمن (sûreté) والتأمين (sécurité): فالأمن بالنسبة إليه حضوره ضروري كلّما حصلت تهديدات، أمّا التأمين فيوجد كلّما ظهرت مخاطر وبالتالي يتدخّل الأمن كلّما تحوّلت المخاطر إلى تهديدات. ويعتبر السيد الناصر اليتوجي أنّ هناك خلطا في المفاهيم لأنّ المفروض أنّ التأمين الخاصّ هو الذي يتكفّل بالتأمين والتفتيش كما يجري في الملاعب الرياضية في العالم مثلا بينما يتولّى الأمن بقيّة المهمّات. وأشار إلى أنّه لو كان التأمين متوفّرا في متحف باردو لما وقعت العملية الإرهابية التي استهدفته في 18 مارس 2015 وهذا التفريق في المهام حسب رأيه يجب أن يأخذه التشريع بعين الاعتبار.

وتمارس شركات الحراسة الموزّعة في غالبية الولايات «الأنشطة الخصوصية غير الموكولة ممارستها قانونا إلى السلطات العمومية الإدارية» . وتولّى المشرّع إصدار النصوص القانونية التي تنظّم القطاع فجاء القانون عدد 81 لسنة 2002 والمنقّح بالقانون عدد 14 لسنة 2008 وكذلك الأمر عدد 1090 لسنة 2003. ووفق هذا التشريع تتولّى الشركة الخاصّة مسدية الخدمة توفير خدمات «تهدف أوّلا إلى مراقبة وحراسة المنقولات أو العقارات وضمان سلامة الأشخاص الموجودين بتلك العقارات وثانيا إلى نقل العُملة والمجوهرات والمعادن الثمينة وحراستها (ومنذ 2017 أصبح هذا النشاط من مشمولات وزارة الداخلية) وثالثا إلى حماية السلامة البدنية للأشخاص». ويمنع النصّ القانوني تلك الشركات من القيام بأنشطة مثل «القيام بمهام الغرض منها الوقاية من الجريمة أو تتبّع مرتكبيها، أو المساس بحريّة تنقّل الأفراد أو بحرمتهم الجسدية أو بحياتهم الخاصّة، أو القيام لغايات أمنية بأعمال الجسّ أو التفتيش البدني، أو تفتيش الحقائب اليدوية دون الموافقة الصريحة لأصحابها، أو المطالبة بالاستظهار بوثائق الهوية أو حجز الأمتعة الشخصية». ويحجّر القانون عليها أيضا «الإكراه الجسدي باستعمال القوّة أيّا كانت صورتها في غير حالات الدفاع الشرعي ووفقًا لشروطه القانونية «ويفرض القانون شروطا صارمة على انتداب الأعوان الذي لا يتمّ إلاّ بعد موافقة وزارة الداخلية وبعد تلقّي العون تكوينا خاصّا في مجال الحراسة يؤمّنه مكوّنو وزارة الداخلية، وهذا للقطع مع التقاليد التي كانت متّبعة في البدايات بتشغيل شركات الحراسة للعامل اليومي والعامل المتقاعد...إلخ...كما تنصّ القوانين الجديدة على أن يرتدي العون زيّا خاصّا لا يشبه زيّ الأسلاك الأمنية عندما يمارس الحراسة وأن يكون عمله داخل المؤسّسة التي يحرسها.

تموقع شركات الحراسة الخاصة

تمكّنت اليوم شركات الحراسة الخاصّة أو التأمين الخاصّ - كما يريد القطاع تسميتها- من التموقع ضمن المنظومة الأمنية والاقتصادية الوطنية لتفرض نفسها شريكا استراتيجيا مهمّته التأمين الخاصّ في تونس  لحراسة المؤسّسات بشريا أو باستعمال كاميرات المراقبة وحماية الأشخاص في كلّ قطاع معني بالحراسة مثل الشركات الصناعية والتجارية والمغازات والبنوك إلخ... نظرا إلى أنّ الاعتماد التامّ على الأمن العمومي في مجال التأمين أصبح يمثّل اليوم عبئا ثقيلا عليه، ويؤكّد الخبير الأمني ع.ن أنّ وجود شركات حراسة منظّمة منتشرة في كلّ الجهات ومنضوية تحت لواء القانون أصبح أمرا ضروريا بالنّسبة إلى المواطن لمساعدة المؤسّسة الأمنية التي يثقل كاهلها الإرهاب والتهريب والجريمة المنظّمة. ويعود هذا التعاون بالفائدة على الجميع. ويشير السيد الشاذلي الغدامسي رئيس الغرفة النقابية الوطنية لمؤسّسات الحراسة إلى أنّ شركات الحراسة كانت تؤمّن قبل الثورة أماكن عمومية ومؤسّسات عمومية ومنشآت ومستشفيات ومحطّات مترو وعقّارات  وغيرها، لكن عندما تمّ إدماج أعوان الحراسة في المؤسّسات بعد الثورة تغيّرت مهام أغلبهم ممّا أثّر في نشاط شركات الحراسة وفي منظومة التأمين عموما. كما أكّد أنّ البنوك التي تعرّضت إلى هجومات معظمها لم يكن بها أعوان تأمين وأنّ عديد المطاعم والمراقص الليلية تنتدب أعوان حراسة بطريقة ذاتية ولا تلتجئ إلى شركات الحراسة لعدم كشف ما قد يحدث داخلها لأنّ عون الحراسة التابع لشركة خاصّة مطالب بردّ الخبر والإبلاغ عمّا يثير الانتباه في مكان عمله، مشيرا في هذا الخصوص إلى حاجة الأمن العمومي، في صورة وجود تهديدات، إلى الاستفادة من المعلومات التي تقدّمها له شركات الحراسة قصد التصدّي لتلك لتهديدات لتبقى تلك الشركات مجرّد مساعد للأمن العمومي قادر على الإفادة بفضل كفاءة إطاراتها ويكون وجودها وقائيا كما أكّد ذلك أيضا الخبير الأمني ش.ن.

التكوين مكلف 

يلزم القانون شركات الحراسة بتكوين الأعوان عن طريق مكوّنين تابعين لوزارة الداخلية حسب البرنامج المعدّ للغرض في فضاء تجهّزه المؤسّسة لكن هذا غير مطبّق حسب السيد الشاذلي الغدامسي لعدم القدرة على استيعاب هذا العدد الكبير من أعوان الحراسة وبالتالي يقترح رئيس غرفة النقابة الوطنية لمؤسسات الحراسة إيجاد صيغة جديدة . كما يرى أنّ التكوين كما هو اليوم يكلّف شركات الحراسة مبالغ هامّة دون إمكانية استرجاعها أو الانتفاع  بامتياز تمويل  التكوين المهني المستمر وتدفع الشركة معلوم التكوين مسبقا على أساس 600 د للعون الواحد بحدّ أدنى هو 10 أعوان (إضافة إلى 5 آلاف دينار للحصول عل ترخيص الحراسة وحماية الشخصيات). وتبقى الشركة تنتظر تكوين أعوانها الذي يطول أمده والذي يرتبط به حصولها على الترخيص دون اعتبار تكاليف أخرى تتحمّلها الشركة مثل راتب العون أثناء التكوين ومصاريف التنقّل والأكل والإقامة إذا كان العون قادما من داخل الجمهورية والعون غير ملزم بمواصلة العمل مع الشركة بعد التكوين لينتقل إلى شركة أخرى وهو حرّ في ذلك.
هشاشة مواطن الشغل.

رغم تشغيل القطاع لحوالي 50 ألف عون نلاحظ أنّ عددا هامّا منهم ليسوا قارين ولا هم منخرطون في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. لذلك يبقى هذا التشغيل هشّا حسب السيد الناصر اليتوجي لأنّ القوانين تحتاج إلى مراجعة ليصبح التأمين الخاصّ مهنة لها موقعها في سلّم المهن ولا يهجرها العون كلّما وجد مهنة أخرى بأجر أكبر، بل وهناك من ينتمي إلى هذه المهنة لفترة معيّنة لجمع المال لغرض معيّن مثل « الحرقة « ثم يهجرها. ويؤكّد السيد الناصر اليتوجي أنّ العزوف عن العمل في مؤسّسات الحراسة سببه الراتب ثمّ أنّ التسمية تبخس مكانته اجتماعيّا («عسّاس» أو «سوجيغات»)، لذلك اقترحت الغرفة تغيير التسمية لتصبح «عون تأمين»، إضافة إلى مزيد فتح آفاق الترقيات المهنية أمام العون. وهذا حارس التقيناه يؤكد أنّ عمل الحراسة متعب جدّا وأنّ راتبه ضعيف (425 د) وقال: «صحيح أنّ المستوى التعليمي للحارس هو التعليم الأساسي لكن الراتب لا يراعى فيه تعب الحارس وطول فترة عمله اليومية وظروف المعيشة اليوم». ومن جهته يؤكد السيد الشاذلي الغدامسي أنّ راتب الحارس يخضع لاتفاقية مع الاتحاد العام التونسي للشغل مبرمة سنة 2012 وأنّ الحارس يتكلّف على شركة الحراسة 875 د شهريا ( تتحمل الشركة مصاريف نقل الأعوان والأزياء  وتعويض الغائبين...).


وفي السياق نفسه أكّد السيد الناصر اليتوجي أنّ الحارس لا يكلّف المؤسّسات التي تنتفع بخدماته سوى 28 د في اليوم تحذف منها الأداءات بينما نلاحظ في مقارنة بسيطة أنّ عامل البناء يتقاضى اليوم 45 د يوميا مقابل 8 ساعات عمل وبدون أداءات.

الحراسة الالكترونية حلّ تكميلي

وعن دور الكاميرا في الحراسة خاصّة وأنّ قانون المعطيات الشخصية يمنع استعمالها في الطريق العام، أشار الخبير الأمني ش. ن أنّه رغم أهميّة الحماية البشرية فإنّ الحماية الالكترونية مهمّة جدّا لأنّها تحمي الأمن العام وتساعد الأمن العمومي باعتبارها شاهد إثبات وإرشاد يصف الأحداث كما جرت ويردّ الخبر في نطاق القانون، وأشار إلى أنّ استعمال كاميرات المراقبة يزيد من نجاعة عمل الحراسة لأنّ كاميرا وحيدة قادرة على تغطية عمل حارسين معا مع التخفيض من كلفة نشاط الشركات وتسهيل عمل الحراسة التي تغطي فترة زمنية طويلة تدوم 12 ساعة يوميا لا يمكن أن يكون تركيز الحارس خلالها تامّا وخاصّة أثناء الحراسة الليلية. وأكّد لنا ذلك أحد الحراس فأشار إلى أنّ من يشتغل ليلا يضطرّ إلى النوم لفترات قصيرة ليستطيع الصمود فترة الحراسة الطويلة . ويضرب الخبير الأمني مثالا حول ظاهرة شغب الهوليغانس في بريطانا حيث لم يتم القضاء عليهم ومحاصرتهم إلاّ بواسطة شركات الحراسة الخاصّة باستعمال أعوانها وكاميراتها لحماية المداخل والمدارج والحكم تحت إشراف الأمن العمومي.

أمّا السيد الناصر اليتوجي فيستغرب منع تركيز كاميرات المراقبة التي تطلّ على الشارع حسب القانون المتعلّق بحماية المعطيات الشخصية (عدد 63 لسنة 2014)  وقال إنّ المنطق يفرض أن نكثر من الكاميرات لحماية الأشخاص لأنّ دورها إيجابي وليس العكس وأن نعالج السلبيات إن وجدت بالقانون، مذكرا بأنّ الكاميرات في مداخل البناءات التي تفتح على الشارع قادرة على كشف عديد الجرائم وبواسطتها مثلا يمكن مراقبة تلوّث المحيط وأضاف أنّ استعمال الحراسة الالكترونية وفق قانون ينظّمها يفتح باب التشغيل للشباب العاطل عن العمل.

آفاق اقتصادية واعدة

يتأكّد من لقاءاتنا مع الخبراء والمهنيين أنّ قطاع الحراسة قطاع واعد لو لقي مزيدا من الاهتمام وتطويرا للتشريعات التي تنظّمه ببعث شهادات متوسّطة في مستوى التكوين المهني وأخرى عالية في مستوى الجامعة ممّا يسمح بتكوين المختصّين في كلّ فروع الحراسة ويمكّن حسب السيد الناصر اليتوجي، من تشغيل 500 ألف شخص فضلا عن تصدير خدمات الحراسة إلى الدول التي تطلبها. كما يمكن الترفيع في رقم معاملات شركات الحراسة التي سيزيد عدد أعوانها ليصل معدّل التشغيل فيها إلى 300 عون ممّا يمكّنها من تحقيق رقم معاملات يصل إلى  حوالي 5 مليون دينار في السنة، علما أنّ رقم معاملات القطاع حاليا يقدّر بحوالي 450 مليون دينار في السنة  نصيب صندوق الضمان الاجتماعي منها 112 مليون دينار سنويا.

خالد الشابي

قراءة المزيد:

الشركات الخاصّة للحراسة في أرقام

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.