محمد إبراهيم الحصايري: نظرة على مؤتمر ميونخ للأمن في دورته السادسة والخمسين
هذا المقال، في الأصل، مداخلة أعددتها للإسهام في ندوة "المتوسط: عقدة متجددة في الصراع الدولي" التي نظمتها جمعية قدماء ضباط الجيش الوطني ومركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي يوم السبت 22 فيفري الجاري، وقد أحببت، من خلالها، أن أنبّه إلى أن مشاغلنا في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط ليست مشاغل جيراننا الأوروبيين في ضفته الشمالية، وأولويّاتنا ليست أولوياتهم.
ومؤتمر ميونخ للأمن الذي تأسّس سنة 1962، وانعقدت دورته الأولى سنة 1963 كان تجمّعا غربيّا خالصا وكانت الغاية منه الحفاظ على مصالح الغرب وتنسيق سياسات الدول الغربيّة الدفاعيّة.
وقد تطوّر، فيما بعد، ليكتسي طابعا عالميا، ويصبح بمثابة "منتدى دافوس أمني" إذ بات المشاركون في أشغاله يأتون من مختلف أنحاء العالم وتحوّل بذلك إلى أرضية لمناقشة المسائل المتعلقة بالأمن العالمي.
وقد انعقد، هذه السنة، في دورته السادسة والخمسين من 14 الى 16 فيفري 2020 بحضور أربعين رئيس دولة وحكومة ومائة وزير خارجية ووزير دفاع، وذلك تحت شعار "Westlessness" أو بالفرنسية"désoccidentalisation" أي ما يمكن ترجمته بـ"فقدان الانتماء إلى الغرب".
وهذا الشعار يمثل إنذارا بأن الغرب الذي كان يشكّل كُتلة تتقاسم نفس القيم، وتتكلّم نفس اللغة، أصبح منقسما ويشك في قيمه ولا يؤمن بها، وهو، لذلك، بصدد فقدان تماسكه وموقعه على الساحة الدولية، ويرجع ذلك إلى عدة عوامل لعل أهمها التاليةّ:
• تعمّق الفجوة بين أوروبا والولايات المتحدة بسبب اختلاف وجهات نظرهما ومواقفهما من عدة قضايا (الخلاف حول الملف النووي الإيراني/ الخلاف على انابيب غاز الشمال/ الخلاف حول تحمّل تكاليف حلف شمال الأطلسي وإعلان موت الحلف السريري/ الخلاف حول ميزان المبادلات التجارية عبر الأطلسية).
• طُفُوُّ القوميّات العميقة على السطح من جديد، وصعود الأحزاب الشعبويّة، واشتداد النزوع نحو الانطواء على الذوات القومية، وحتى نحو الانفصال.
• انسلاخ بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وتفكير بعض الدول الأخرى في النسج على منوالها.
• حالة الغليان التي يعرفها العالم بسبب احتدام التنافس بين الولايات المتحدة وروسيا والصين وانزلاق الدول الثلاث نحو سباق جديد على التسلح دون مراعاة مصالح الدول المجاورة أو الشريكة، وهو ما يغذّي حالة عدم الاستقرار العالمي (ارتفعت النفقات العسكرية العالمية بنسبة 4 بالمائة سنة 2019، وهذه النسبة هي الأعلى منذ 10 سنوات/ سجلت ميزانيتا الولايات المتحدة والصين ارتفاعا بنسبة 6.6 بالمائة/ ارتفعت ميزانية الولايات المتحدة بـ53 مليار دولار لتصل إلى 685 مليار/ قدّرت ميزانية الصين بـ181 مليار/ الخوف من روسيا دفع أوروبا إلى الزيادة في نفقات التسلح بـ4 بالمائة/ أعلنت روسيا مؤخّرا عن إنتاج صاروخ أسرع من الصوت بـ27 مرة/ كما أنشأت خلال السنوات الأخيرةأسطولا حربيّا مذهلا وواصلت الاستثمار في التسلح دون توقف).
• انتهاء العمل بمعاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى سنة 2019، ومعاهدة "ستارت الجديدة" المتعلقة بتخفيض الأسلحة الاستراتيجية سنة 2021.
• تعدد مناطق الاحتكاك بين القوى الكبرى سواء في البحار (المتوسط والخليج العربي الفارسي وبحر الصين) أو تحتها، أو في الأجواء، أو في الفضاء، أو في الفضاء الرقمي.
• تفاقم أزمة التعاون متعدّد الأطراف، بسبب تملّص الرئيس الأمريكي غريب الأطوار دونالد ترامب من تعهّدات بلاده الدولية، ورفضه الالتزام بالمواثيق والاتفاقيات الأممية.
• تمادي روسيا، حسب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، في محاولاتها الرامية إلى بث عدم الاستقرار في الغرب، حيث أنها، كما يقول، تواصل التدخّل في الانتخابات التي تجري في الدول الغربية من خلال فاعلين خواص،أو من طرف الأجهزة،أو عن طريق الوكلاء.
• تزامن التحوّلات الاستراتيجية الضخمة التي يشهدها العالم بسبب صعود الصين واستعادة روسيا لدورها على الساحة الدولية، مع المتغيّرات التكنولوجية السريعة.
• شعور الدول الغربية بالانشغال والقلق إزاء نزعة عدد متزايد من الدول إلى التحرر من النموذج الحضاري الغربي، ومن رؤية الغرب للعالم.
• في غياب وحدة الموقف الغربي، إمكانية تشكّل كتل جديدة عادة ما تنخرط في الأحداث والتطورات الإقليمية والدولية (على غرار ما هو حاصل في سوريا وليبيا وإفريقيا...) في حين تحجم الدول الغربية عن التدخّل المباشر فيها (تؤشر المناورات المشتركة الأخيرة بين إيران وروسيا والصين في المحيط الهندي وبحر عمان، إلى إمكانية ميلاد كتلة جديدة تجمع بين هذه الدول الثلاث).
• السياسة القصوى التي تنتهجها تركيا في إطار سعيها إلى أن تصبح فاعلا دوليا وإقليميا بالاعتماد على تحركاتها وأنشطتها المتزامنة في المتوسط وسوريا والعراق وإفريقيا، وعلى التعاون، في نفس الوقت، مع حلف شمال الأطلسي من ناحية، وروسيا وإيران من ناحية أخرى،وعلى محاولة توسيع علاقاتها مع الباكستان وماليزيا وتوثيق روابطها مع دولة قطر، إضافة الى التواصل مع حماس، وتكثيف استخدام وسائل الإعلام والأنشطة الخيرية عن طريق الهلال الأحمر التركي وغيره من المنظمات.
وفي خضم هذه الأوضاع المتحرّكة باستمرار، والأحداث المتسارعة بلا هوادة، حاول مؤتمر ميونخ للأمن الإجابة على الأسئلة التالية:
- كيف يمكن تحقيق الأمن والاستقرار في أوروبا وحولها.
- كيف يمكن تأمين شروط السيادة الأوروبية.
- كيف يمكن ضمان مكانة أوروبا على الساحة الدولية كقوة سياسية وبالتحديد كقوة توازن.
- كيف يمكن تحقيق التكامل بين حلف شمال الأطلسي وبين استراتيجية أوروبا الدفاعية.
- كيف ينبغي أن تكون العلاقة مع روسيا.
- كيف ينبغي التعامل مع الصين التي تكتسح استثماراتها الدول الأوروبية وتستحوذ بالتدريج على بناها التحتية.
- كيف يمكن بناء عقيدة أوروبية للردع النووي.
وقد دعا الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، في هذا الصدد، الى تبنّي استراتيجية أوروبية خالصة تجعل من أوروبا سيّدةَ نفسها ومُوَحَّدَةً وديمقراطية.
وهو يرى أن تحقّق ذلك يتطلّب من أوروبا بناء سيادتها التكنولوجية والأمنية والدفاعية، وأن تكون لها سياساتها فيما يتعلق بالهجرة وبالغذاء والمناخ والبيئة والعلاقات مع الجوار القريب والبعيد وخاصة مع روسيا والشرق الأوسط وافريقيا.
وفي هذا المضمار، فإنه يدعو الى الحوار مع روسيا من أجل الاتفاق معها على استراتيجية لتخفيف التوتر بين الجانبين.
وفي تقييم لمُجْرَيات المؤتمر ومُخْرَجَاته يرى بعض الملاحظين أنه مثّل ما يشبه"مَرْثِيَّةً" للغرب، وهو ما يعني أن الغرب بات يصادف مشاكل خطيرة ستؤدي إلى فقدانه المكانة التي كان يتمتع بها على الصعيد العالمي.
ومع نزوع الولايات المتحدة نحو المزيد من الانطواء على نفسها، وتنامي تصرفاتها الأنانية التي تجعلها تضع مصالحها القومية فوق مصالح الآخرين جميعا إلى حد انها باتت تنكر مفهوم "المجموعة الدولية"، فإن الغرب يفقد ثقته في نفسه وفي قيمه ومبادئه، وفي عبارة مختزلة، في هويّته الجماعية، كما إن العالم يفقد الثقة فيه.
لذلك يبدو أن أوروبا تبحث لنفسها عن استراتيجية لتعزيز الدفاع الأوروبي المشترك حتى تكون أقل ارتهانا للولايات المتحدة، ومن مقومات هذه الاستراتيجية كما جرى الحديث عنها في المؤتمر:
• سياسة خارجية أوروبية موحّدة.
• استراتيجية دفاعية وردعية موحّدة، لكن دون القطع مع حلف شمال الأطلسي، وفي هذا الإطار تقترح فرنسا التي تطمح إلى الاضطلاع، رفقة ألمانيا، بدور قياديّ في هذا النطاق، إلى توسيع الردع النووي الفرنسي ليشمل شركاءها الأوروبيين، وذلك لتعويض المظلة الأطلسية التي كانت أوروبا تستظل بها في الماضي.
• بناء دفاعات تكنولوجية وتعزيز التعاون بين الأجهزة الغربية لمواجهة الهجومات التي تتعرض لها من خصومها وبالذات من روسيا.
• البحث عن شراكة أوروبية روسية من منطلق ان روسيا مجاورة لأوروبا وليست مجاورة للولايات المتحدة (علما بان الرئيس الفرنسي يرى أن التحالف الروسي الصيني غير قابل للاستمرار، وأن روسيا، اقتصاديا، لا يمكن أن تستمر في الانفاق على التسلح بالنسق الحالي لفترة طويلة قادمة).
• أن تكون "أوروبا الغد" قادرة على التحكّم في مختلف بناها التحتية بما فيها البنى الطاقية والرقمية، وعلى ألا تكون معاييرها، في المستقبل، خاضعة لرقابة الولايات المتحدة، وموانيها ومطاراتها تحت رحمة رؤوس الأموال الصينية، وشبكاتها الرقمية تحت الضغط الروسي.
ولأن أوروبا تعتقد أن المُثُل والقيم الغربية ستنتصر أو يجب أن تنتصر على النزعة الإمبراطورية عند روسيا والصين، فإنها ستعمل، دون شك ولا ارتياب، على تحقيق هذا الانتصار، وهو ما سيجعل المنطقة والعالم على حافة مرحلة من التوتر والاضطراب المؤكدين واللذين ينبغي الاستعداد لهما.
وفي هذا الصدد ينبغي أن نلاحظ أن مؤتمر برلين للأمن أكد على أهمية إفريقيا مستقبلا بالنسبة إلى أوروبا غير أنه في المقابل لم يبد اهتماما كبيرا بالبحر الأبيض المتوسط، وهو أمر يثير الاستغراب ويدعو الى التساؤل.
ثم إن بناء أوروبا الجديدة ووضع استراتيجياتها المطلوبة موضع التنفيذ سيتطلبان توافقا وتعاونا وتوحيدا للجهود بين فرنسا وألمانيا اللتين ستشكلان حسب تعبير الرئيس الفرنسي "قلب الاتحاد الأوروبي".
وبالنظر الى ما نعرفه جميعا عن تاريخ هذا الثنائي فإن من حقنا أن نخشى الا يكون القلب الأوروبي رحيما بمنطقتنا./..
محمد إبراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق