بين اللُّغَوِي واللَّغْوِي: الشعب يريد أن يفهم ولا شيء غير ذلك
1 - عندما انطلقت الانتفاضة أيًّا كانت محرّكاتها الخارجية كانت شعاراتها «شغل»، «حرية»، «كرامة». أمّا الشغل فقد أصبح رابع «ثلاثة ليس لها وجودُ/ الغول والعنقاء والخلّ الودودُ». أمّا الحرية فمتاح لكل راغب في أن يشجّ دماغه أو دماغ غيره أن ينطح الجدران التي كُتِبَتْ عليها تلك الشعارات. الكرامة فقط استطاعت أن تحتلّ موقعا مهمّا في منظومة الدولة التي أحدثت لها هيئة عملت على نهب ما تبقّى من أموال الخزينة وعلى نشر الفرقة الدائمة بين الأفراد والفئات. وبعد أن أدّت الهيئة عملها التخريبي التقفتْ مصطلحَ الكرامة روابطُ حماية الثورة السيّئة الذكر وجعلت منها حزبا له نوّابه في البرلمان وله مطامحه وأطماعه في المقاعد الوزارية فحقّقت بذلك زحفا بأتمّ معنى الكلمة على حساب القوى التقدمية عاقلها وطائشها. ويقال لنا بعد ذلك يجب احترام ما جاءت به صناديق الاقتراع...
2 - تعيش تونس منذ تسع سنوات على وقع غلوّ المعيشة وانخرام الأمن وعلى قلق شعب لم يعد يعرف ماذا يريد. إنّها أزمة عامّة اقتصاديا واجتماعيا وتربويا وثقافيا وهي مرشّحة للتفاقم في ظلّ مديونية متزايدة لا قِبَلَ لنا بسدادها نورّثها لأحفاد أحفادنا الذين سيلعنوننا كما لعن أجدادنا الصادق باي وبطانته إذ جلبت المديونية لتونس في عهده ويلات الاستعمار.
3 - كانت لتونس، قبل الاستقلال وبعده، إدارة مشهود لها بالكفاءة ساهرة على حسن سير دواليب الدولة، حريصة، رغم بعض الإخلالات، على إحلال الرجل المناسب في المكان المناسب. ومنذ الثورة الباركة، ومع عودة جماعة «الإسلام هو الحلّ» من ديار «لندنستان» المقدّسة، بعد طلب العلم من جامع حديقة فنسبري (Finsbury Park Mosque) الحرام، عجّت الإدارة بالعرجاء والنطيحة، خريجي السجون. وبمنطق الغنيمة سطوا على ميزانية الدولة التي لم يتركها الرئيس الهارب فارغة رغم ما يُتَّهمُ به من فساد. وعوّضوا على ما فات أيام ماء الفرق وتشريط جلد السافرات بشفرات الحلاقة وتفخيخ الفنادق بالقنابل المحلية الصنع وذلك ما كانوا يصنعون.
4 - ولما دقّ الحلف الأطلسي ساعة الانقضاض على رفيقة الكفاح ليبيا وعلى سوريا الحضارة وعراق الشهامة، وفي عمالة فاضحة للإمبريالية، عمد سماسرة الحرام والحلال ومحتسبو الإثم والثواب إلى تسفير الآلاف من شبابنا العاطل يدا وفكرا إلى تلك البلدان الشقيقة ليتدرّبوا على الذبح والاغتصاب وبيع السبايا. والأنكى من ذلك كلّه أنّ هؤلاء السماسرة شرّعوا للبغاء المقدّس فأرفقوا المجرمين بمئات من فتياتنا المنقّبات المهيآت لتنقيب آخر يضاعف من أجور الدارين يسمّى جهاد النكاح.
5 - ومن المضحكات المبكيات أن يتبجّح بعض المختصّين في الاقتصاد الإسلامي بأنّ هؤلاء المواطنين هم عاطلون عن العمل أصلا وقع تمكينهم في النهاية من كسب أرزاقهم بمقاتلة المرتدِّين لقاء جراية معدّلها ألفا دولار في الشهر. وها قد قرر أردغان أن يرد بضاعتنا إلينا عبر ليبيا المنكودة الحظّ. فسوريا والعراق تتعافيان، أما ليبيا فطريق خلاصها ما زال طويلا وتونس هي المتضرّر الأوّل من التطوّرات الأخيرة في القطر الشقيق. لقد شعرتُ بقشعريرة لم آلفها وأنا أستمع لتصريح أدلى به المشير خليفة حفتر عن مطاردة جيشه لفلول الدواعش غير بعيد عن حدودنا. سأله الصحفي هل تنسّقون مع السلطات التونسية. قال ليس لنا علاقة. حفتر يسيطر على ثمانين بالمائة من التراب الليبي واختارت تونس التنسيق مع العشرين بالمائة الباقية ولله في خلقه شؤون.
6 - الشعب يريد أن يفهم ولا شيء غير ذلك. القضية الفلسطينية حمل الشعب التونسي همومها منذ ثلاثينات القرن الماضي وللشيخ عبد العزيز الثعالبي مع صديقه المفتي أمين الحسيني نضالات وتحرّكات في المشرق والمغرب والهند الموحّدة. ولما اندلع القتال ضدّ الصهاينة اندفع الشباب التونسي واستشهد منه من استشهد وما زال يتبرّع بدمه وكان أن تعرَّضتْ تونس لغارة جوية إسرائيلية مدمّرة يوم غرة أكتوبر 1985. وبعد ذلك بأقل من ثلاث سنوات، في أفريل 1988، استهدفت بعدوان آخر ذهب ضحيته أبو جهاد وأخيرا وما بالعهد من قدم، وبالتحديد في 16 ديسمبر 2016، بمدينة صفاقس، اغتال الموساد المهندس محمد الزواري من أجل التزامه الفعّال بمناصرة المقاومة الفلسطينية. لتونس إذن ثارات حامية ضدّ الكيان الصهيوني وقد وقفنا كلّنا إلى جانب الرئيس قيس سعيد عندما اعتبر التطبيع مع هذا الكيان «خيانة عظمى». كان هذا الموقف في منتهى الشجاعة يتعارض مع هرولة بلدان الخليج (باستثناء الكويت) إلى التعاون مع أسوإ رئيس حكومة عرفتها إسرائيل على الإطلاق واعتقد الكثير أنّ الرئيس ما كان ليعلن عن موقفه لو لم تكن بيده أوراق للمناورة يدرأ بها جبروت دونالد ترامب.
7 - يوم الثلاثاء 28 جانفي 2020 المشؤوم، كشف ترامب عمّا سمّاه «صفقة القرن» أو تصفية القضية الفلسطينية بعد الحصول على موافقة دول عربية معلنة وغير معلنة. تونس العضو غير الدائم بمجلس الأمن رافضة ممّا جعل دولة فلسطين تتعلّق بها لتمرير لائحة إدانة لقرار تعسّفي يضرب عرض الحائط بالشرعية الأممية. ولتونس بمجلس الأمن مندوب محنّك يحظى بتقدير استثنائي لدى جميع نظرائه داخل تونس وخارجها. وبدأ السفير منصف البعطي يشتغل بجدّ على مشروع اللائحة وفق ما يعلمه من سياسة تونس الخارجية. واستشاط البيت الأبيض غضبا وتلقّت منه قرطاج رسالة لوّحت بالعصا الغليظة وبجزرة بقايا السوق. وحلّت بالسفير صعقة ما كان ينتظرها لا عاقل ولا أرعن: يعفى من مهامه ويصدر توضيح باسم وزارة الخارجية، وهي منه براء، يبرّر الإقالة «بضعف الأداء وغياب التنسيق والتفاعل مع الوزارة» ممّا لا يتماشى «مع مواقف تونس المبدئية» ويتعارض مع «مصالحها». وفي ذلك إجحاف بحقّ رجل وطني مقتدر لا يلام إلاّ على وثوقه وثوق اليقين من أنّ موقف الرئيس قيس سعيّد به يُعمل وعليه يُعوّل. لكنّ حديث الإفك متواصل. وكلّ ما نتمنّاه هو أن يجدَ السفيرُ المُفْتَرَى عليه لدى زملائه وأصدقائه من الودّ ما يجعله يتمثّل بقول أبي القاسم الشابي:
مـــن جـــاشَ بالوحــــيِ المُقَـــدَّسِ قلبُــــهُ **** لم يحْتَفِـــــلْ بحــجـــــارةِ الفُلَتَـــــاءِ
8 - لقد سبق لتونس أن سحبت مندوبين وسفراء أغضبوا الأميركي. عادوا إلى الوطن دونما مساس بوظائفهم ومن دون أن يتعرّضوا إلى ما تعرّض له زميلهم المنصف البعطي من إهانة وإرجاف. بل إنّ بعضهم عُيِّنَ في مناصب أعلى. أذكر في هذا السياق السفير المتميّز المرحوم محمود المستيري الذي تضايق الأميركي من نشاطه القيادي داخل حركة عدم الانحياز أي مجموعة الـ77 . أصبح على التوالي كاتبا عاما لوزارة الخارجية فكاتب دولة فوزيرا للقطاع.
9 - في غمرة هذه المظالم الدولية والمحلية مرَّ حدث عظيم لم يحْظَ بما يستحقّ من الاهتمام. ففي نفس اليوم، 28 جانفي يناير، الذي أهدى فيه ترامب كامل فلسطين لنتنياهو، حرّر الجيشُ السوري الباسل مدينة معرّة النعمان بعد أن خاض معارك طاحنة ضدّ جبهة أنصار الشام التي يدعمها الجيش التركي المحتل. وأنصار الشام لفيف إجرامي التحقت به كوكبة من المرتزقة التونسيين شاركوا في السلب والاغتصاب وفي قطع رأس تمثال أبي العلاء المعري. كانوا يعلمون أنّ الوهّابية والسلفية و«الإخوانجية» يكفِّرون المعري لأنّه، ومنذ ألف عام، ندّد بغبائهم وتنبّأ بما سيفعلون باسم الدين من موبقات. ولقد قال فيما قال:
هَفَـــتِ الحنيفـــةُ والنَّصــــارى مـــا اهْتَدَتْ ***** ويهـــــودُ حارتْ والمجــــــوسُ مضلَّلَهْ
اثنــــان أهــــــلُ الأرضِ ذو عقْـــــلٍ بِـــــــلاَ ***** دينٍ وآخـــرُ دَيِّــــنٌ لا عـَــقْــلَ لَــهْ
10 - قبل صفقة القرن بيوم، في 27 جانفي 2020، فُجِعَتْ تونس بوفاة المُدوِّنةِ المناضلة لينا بن مهني عن عمر لم يبلغ السابعة والثلاثين. حياة قصيرة ولكنّها تقاس بالعرض، حياة نضال مكثّف، في ظلّ أبوين وطنيين مناضلين، قاومت المرض الذي تغلّب عليها في الآخر بصبر وبفلسفة حياة، وجعلها مرضها تحتضن أمراض الآخرين ولمّا انقطع الدواء في تونس قامت بمجهود جبّار لتوفيره من الخارج عبر تدخّلات وتحرّكات مضنية. دَرَسَت الإنكليزية ودرَّسَتْها بالجامعة التونسية. وانطلاقا من موروثها الثقافي عملت على جمع خمسة وأربعين ألف كتاب زوّدت بها مصالح السجون إيمانا بأنّ الكتاب يحرّر العقول وينقذ من الضلال. تدويناتها في 2011 جعلت منها «بسيوناريا» الانتفاضة. رشّحتها أوساط دولية حقوقية لجائزة نوبل للسلام. ولكنّها لم تركب رأسها كما يدلّ اسم موقعها وعنوان كتاب لها بالفرنسية «بنية تونسية: مدوّنة من أجل ربيع عربي». ولطالما شهَّرتْ بالقوى الرجعية التي ركبت على الثورة. توفّيت لينا بن مهني فشيّعها المئات من محبّيها ومحبّاتها وشاركتْ رفيقاتُها رفقاءَها في تشييع جنازتها وحمل نعشها إلى مثواها الأخير. وهذا كفر وإلحاد في نظر السلفية وخروج عن التقاليد المقدّسة. وانهالت اللعنات على المارقين والمارقات. وللردّ على جهالة الجاهلين نشرت أستاذة الحضارة الإسلامية زينب التوجاني مقالا بعنوان: «لا يوجد في القرآن الكريم ما يمنع النساء من حمل النعوش ولا دفن الموتى» (مجلة الوسط نيوز 5 فيفري 2020).
عبد العزيز قاسم
- اكتب تعليق
- تعليق