الأمن في منطقة المتَوَسّطْ: فضاءات الحوار مع الغرب لا تحجب ضرورة إقامة منظومة أمنـيّة عربيـة فاعلة
يكتسي موضوع الأمن في منطقة البحر الأبيض المتوّسط أهميّة متزايدة منذ اندلاع الثورات العربيّة وما أفضى إليه من فوضى وعدم استقرار غذتهما النّزاعات السياسيّة والمذهبيّة والقبليّة وهشاشة الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة وقد ساهمت أطماع القوى الإقليميّة والعالميّة في تأجيج هذه الصّراعات لبسط نفوذها على المنطقة ونهب ثرواتها. هذه التطوّرات الخطيرة تطرح بحدّة موضوع غياب منظومة أمنيّة فاعلة في المنطقة العربيّة إلى جانب افتقار هذا الفضاء الإقليمي إلى قواسم سياسيّة ودستوريّة مشتركة تسمح باحترام القيم الكونيّة وتوفّر مقوّمات الحوكمة الرّشيدة.
فلا الجامعة العربيّة ولا اتّحاد المغرب العربي اهتديا إلى إرساء نظام إقليمي كفيل بصيانة أمن شعوب المنطقة واستقرار ها ولا الدّول العربيّة منفردة قادرة عموما على ضمان أمنها بمقدراتها الذّاتيّة. وقد أدّى هذا الوضع إلى انخراط البعض في برامج أمنيّة خارجيّة أهمّها التّحالفات الثنائيّة والشراكات الأمنيّة المتوسطيّة بما فيها الشراكة الأورو-متوسطيّة أو ما يعرف بمسار «برشلونة»، والحوار المتوسّطي في نطاق الحلف الأطلسي، والشّراكة المتوسطيّة في إطار منظّمة الأمن والتّعاون في أوروبا وكذلك مبادرة 5 + 5 التي تخصّ منطقة غرب المتوسّط بشقّيها المغاربي والأوروبي وبعدها الأمني في منطقة الساحل والصّحراء الإفريقيّة التي بات مرتبطا بها غرب المتوسّط.
هذه الأطر المتعدّدة، وإن تباينت عناوينها، تهدف أساسا إلى التوقّي من تبعات وآثار عدم الاستقرار والإرهاب والهجرة غير النّظاميّة جنوب وشرق المتوسّط على أمن أوروبا والغرب عموما.
وهناك اقتناع داخل المؤسّسات الأمنيّة الغربيّة بأنّ أمن البلدان الأوروبيّة يرتبط شديد الارتباط بالمناطق المتاخمة لها بما في ذلك منطقة البحر الأبيض المتوسّط وأنّ التحوّلات التي جدّت في هذه المنطقة تكون لها انعكاسات هامّة على أوروبا والغرب عموما. هذا الاقتناع بدا واضحا منذ إعلان «هلسنكي» الذي صدر في 1975 عن المعسكرين الغربي والشرقي في أوج الحرب الباردة والذي نصّ على «أنّ أمن أوروبا يندرج ضمن إطار أوسع للأمن العالمي وله ارتباط وثيق بالأمن في منطقة المتوّسط ككلّ. وطبقا لذلك فإنّ مسار تطوير الأوضاع الأمنيّة لا يمكن أن ينحصر في أوروبا بل يجب أن يمتدّ إلى مناطق أخرى في العالم وخاصّة منها المنطقة المتوسّطيّة».
هذا التّنصيص على الرّابط الأمني بين أوروبا وجنوب المتوّسط يعدّ ركيزة من ركائز الباب المخصّص للشراكة المتوسّطيّة من أجل التّعاون صلب الإعلان والذي أصــــرّ دوم مينتــوف Dom Mintoff رئيـــس الوزراء الــمــالطي الأسبق على إدراجه عندما كانت بلاده عضوا في مجموعة الـ77 وخارج الأحلاف، مستغلاّ قاعدة الإجماع في مؤتمر هلنسكي لتمرير هذا الفصل. إلى ذلك التاريخ، كانت القّوّى العالميّة تنظر إلى الفضاء المتوسّطي كممرّ مائي للعبور بين الشّرق والغرب والشّمال والجنوب وكمسرح ثانوي للحرب الباردة قبل أن يتحوّل إلى منطقة عازلة بين مجموعتين حضاريّتين لكلّ منهما خصوصيّتها ورؤاها.
إلّا أنّ المنظّمات الأمنيّة الغربيّة استفاقت في أواسط التّسعينات على وقع المخاطر التي يمكن أن تهدّد أوروبا انطلاقا من الضفIة الجنوبيّة للمتوسّط ورأت في موجة التطرّف الدّيني العنيف خطرا يتربّص بأمنها. هذا التوجّس غذّاه سعي بعض المنظّرين إلى التّرويج لوجود تصدّع ثقافي بين الضفّتين يستوجب المعالجة. وقد برزت في هذا السّياق مقترحات تنادي بإنشاء منطقة مشتركة تنعم بالأمن والاستقرار والرّفاه تجسّدت في ثلاثة مشاريع أساسيّة:
1 - الشّــراكة الأورو-متوسّطيّة أو ما يعرف «بمسار برشلونة» لسنة 1995
إلى جانب الشراكة الاقتصاديّة والماليّة عبر إقامة منطقة تبادل حرّ على مراحل تحقّق فرص النموّ المشترك، اتّفق الجانبان على إقامة حوار سياسي وأمني يهدف إلى إنشاء منطقة سلام واستقرار تقوم على التنمية المستدامة ودولة القانون والدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان. كما اتّفقا على إقامة شراكة في المجال الاجتماعي والثّقافي والبشري تنشر التّفاهم وتنمّي الحوار بين الثّقافات والأديان والشّعـــوب وتسهّـل المبادلات بين المجتمعـــات المدنيّة والفئات المجتمعيّة المختلفة.
مرّت هذه الشّراكة ذات الطّابع الشامل بعديد المراحل مثل «سياسة الجوار» التي انطلقت في 2004 وخضعت لعدّة تعديلات خاصّة إثر الثّورات العربيّة إمّا للتشجيع على الانفتاح والدّيمقراطيّة أو للتركيز على الجوانب الأمنيّة وتهدئة الأوضاع المتوّترة جنوب المتوسّط. وفي ظلّ الثّورات العربيّة التي رفعت شعارات الحريّة والكرامة وأوحت بفشل استراتيجيات التّنمية في جنوب المتوسّط، لا يمكن تقييم الشّراكة الأورو متوّسطيّة بصفة إيجابيّة ولا يتحمّل مسؤوليّة الفشل والتقصير فيها طرف دون آخر. فمنطقة السّلام والاستقرار المرجوّة في المتوسّط لم تتحقّق ولم يفض الحوار السّياسي والأمني الهادف إلى فضّ النّزاعات وأوّلها الصّراع العربي الإسرائيلي الذي لم يعد في أولويات الظّرف الرّاهن الذي ولّد أزمات حادّة وخطيرة تعصف حاليا بكامل المنطقة العربيّة.
أمّا الشراكة في المجال الاجتماعي والثّقافي والبشري، فقد تأثّرت بمفعول التصدّعات التي حدثت في المجتمعات جنوب المتوسّط من جرّاء الحروب والاضطرابات السياسيّة والمذهبيّة والعرقيّة التي ولّدت التطرّف العنيف والإرهاب والهجرة غير النّظاميّة لكن كذلك من جرّاء التحوّلات على المسرح الأوروبي الذي شهد في السّنوات الأخيرة صعودا متواترا لليمين المتطرّف وتفشّيا لأطروحاته العنصريّة.
2 - الحـوار المتوسّطي في إطار منظّمـة حلف الشّمــال الأطلسي
انطلق هذا الحوار في 1994 بالتّزامن مع برنامج الشّراكة من أجل السّلام المخصّص لبلدان أوروبا الشرقيّة وصمّم كإطار للتّبادل والتّعاون حول مواضيع ذات اهتمام مشترك كالأمن والاستقرار في المتوسّط. وانخرطت فيه مجموعة من الدّول المتوسّطية من ضمنها تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا ومصر والأردن وكذلك إسرائيل التي لا تغيب عن هذه الأطر المتوسّطيّة رغبة من الغرب في إدماجها في محيطها العربي. وكما هو الحال بالنّسبة إلى الشّراكة الأورو-متوسّطيّة فإنّ العلاقات تتمّ في إطار عمودي رغم المساعي لإيجاد حركيّة تعاونيّة بين أطراف الحوار المتوسّطيين. مع ذلك لا ُنُنكر أنّ الدّول العربيّة التي انخرطت في هذا الحوار استفادت بدرجات متفاوتة من خبرات الحلف في مكافحة الإرهاب والتّلوّث البحري وفي إطار التكوين والبحث العلمي في عدّة مجالات كالتغيّر المناخي ومكافحة التصحّر، إضـافة إلى تبادل المعلومات في إطار التّعاون الاستـراتيجي المتعلّق بأمــن المنطقة.
3 - الشّراكـة المتوسّطيّة مـن أجل التّعـاون في إطار منظّمـة الأمـــن والتّعــاون في أوروبـا (OSCE)
يشير إعلان هلنسكي إلى عزم «الدّول المشاركة» أي الدّول الأوروبيّة على المحافظة على الحوار الذي أطلقه مؤتمر الأمن والتّعاون في أوروبا (CSCE) مع الدّول المتوسّطيّة غير المشاركة أي دول جنوب وشرق المتوسّط، وعلى تطويره وجعله يشمل كافّة الدّول المتوسّطيّة. وعلى هذا الأساس تمّت دعوة تونس والجزائر والمغرب ومصر والأردن ولبنان وسوريا وليبيا وكذلك إسرائيل للمشاركة في الحوار وطالبت تونس والجزائر والمغرب ومصر بإرساء علاقات أعمق وأكثر هيكلة مع المنظّمة وهو ما تمّ الاتّفاق عليه. ويهدف الحوار إلى إرساء علاقات حسن جوار وتطوير الثّقة المتبادلة وإحلال الأمن والاستقرار في المنطقة، وقد تأسّست هياكل الحوار تدريجيّا حيث تشتمل الآن على مجموعة اتّصال غير رسميّة ومؤتمر متوسّطي لكنّ هاتين الهيئتين لا تتمتّعان بحريّة القرار حيث تضبط الرّئاسة الأوروبيّة جدول أعمالهما ويدير أشغالهما الرئيس المباشر ولا يسمح لدول جنوب المتوسّط بالمشاركة في اتّخاذ القرار. وهناك مساع لتطوير الحوار بعد أن تبيّن أنّه لم يساهم في إحلال السّلام والاستقرار في المنطقة مع تواصل النّزاع الفلسطيني الإسرائيلي ودخول منطقة جنوب وشرق المتوّسط في مرحلة من الاضطرابات العنيفة وعدم الاستقرار إثر ثورات ما يسمّى بالرّبيع العربي.
وللذّكر فإنّ منظّمة الأمن والتّعاون في أوروبا توفّر فرصا هامّة للتّعاون المشترك تتمثّل في تجارب الانتقال الدّيمقراطي في أوروبا الوسطى والشرقيّة وفي مجالات متخصّصة كالأمن ومكافحة الإرهاب والاتّجار بالبشر واحتجاز الرّهائن ومعالجة المشاكل البيئيّة. وتوفّر المنظّمة كذلك فرصا للتّكوين والتمرّس لضباط دول الحوار المتوسّطي صلب شبكة أمن وإدارة الحدود. وقد استفادت تونس من هذه التّجارب خاصّة في مجال الانتقال الدّيمقراطي ومكافحة الإرهاب.
وكما هو الحال بالنّسبة إلى المنظومات الأخرى تبقى إسرائيل حاجزا أمام التعاون الأفقي في المنطقة والتوزيع اللامركزي للأنشطة، كذلك يتردّد التساؤل حول جدوى تعدّد وتشابه الأطر التعاونيّة الأمنيّة مع جنوب وشرق المتوسّط وغياب التّنسيق بينها في حين يشكو الحوار صلب منطقة الأمن والتعاون في أوروبا من عدم توفّر ميزانيّة قارّة لتمويل الأنشطة.
هذه الأطر الثلاثة المتمثّلة في مسار «برشلونة» (الجانب السياسي والأمني) والحوار المتوسّطي للحلف الأطلسي والشراكة المتوسّطيّة في إطار منظّمة الأمن والتّعاون في أوروبا، وإن اختلفت في بعض جوانبها، فإنّ اسراتيجيّتها تبقى واحدة وهي تحقيق الأمن على حدود القارّة الأوروبيّة وتوظيف العلاقات مع دول الجوار للتصدّي للمخاطر الأمنيّة التي تعدّدت في السّنوات الأخيرة لتشمل الإرهاب والجريمة المنّظمة والاتّجار بالبشر والهجرة غير النّظاميّة وعدم الاستقرار وغيرها... وهو ما يتماشى مع المفهوم الاستراتيجي لمنّظمة الحلف الأطلسي الذي حدّدته قمّة «لشبونة» في سنة 2010.
4 - مبـادرة 5 + 5 أو تجربة الفضاء الإقليمـي المحدود
ترجع فكرة تأسيس هذه المجموعة إلى سنة 1988 بمبادرة من فرنسا التي رأت ضرورة في إقامة تعاون في إطار جغرافي محدود يشمل أربع دول أوروبيّة في شمال المتوسّط هي فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال والدّول المغاربيّة الخمس، انطلاقا ممّا تتقاسمه هذه الدّول من موقع جغرافي واحد وعلاقات تاريخيّة وطيدة. وقد ساهمت شخصيّتان سياسيّتان أوروبيتان هما الإيطالي Bettino Craxi بيتينو كراكسي رئيس وزراء إيطاليا آنذاك وفيليبي غونزالس Felipe Gonzales نظيره في الحكومة الإسبانيّة، في ظهور هذه المنظومة إلى حيّز الوجود في أكتوبر 1990 بروما وانضمّت إليها مالطا في السّنة الموالية.
تهدف هذه المبادرة إلى إنشاء فضاء إقليمي غير رسمي ومحدود يضطلع بدراسة مواضيع معيّنة بهدف إرساء تعاون نشيط بين الفرقاء في مجالات مختلفة مثل الحوار السياسي والأمن والاستقرار في المنطقة والشؤون الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتربية والشباب والهجرة وغيرها من القطاعات والمواضيع الهامّة.
ما يهمّنا في هذه المبادرة هو الحوار المتعلّق بشؤون الأمن والدّفاع حيث ينصّ إعلان روما المؤسّس للحوار على أنّه يهدف إلى إيجاد حلول للمسائل السياسيّة والأمنيّة ذات المصلحة المشتركة ويشير إلى تعلّق الدّول المشاركة بمبدأي شموليّة مسألة الأمن في المتوسّط وعدم تجزئتها وإلى جعل تعاونها في هذا المجال «ينصبّ على خدمة السّلم والتّعاون في المنطقة بأسرها من أجل جعلها فضاء أمن وتعاون واستقرار».
وقد ساهمت تونس من خلال وزير داخليّتها في إثراء الحوار الأمني بالتأكيد على ضرورة وضع استراتيجيّة مشتركة لمكافحة الإرهاب تسمح بتبادل المعلومات والخبرات والتّجارب بين الدّول الأعضاء والعمل على منع إيواء الإرهابييّن والتّضييق على تنقّلاتهم. كما أبرزت أهميّة التعاطي مع موضوع الهجرة في إطار شراكة في الشمال والجنوب وذلك بإبرام اتفاقيات ثنائيّة في مجالي التّشغيل والهجرة إلى جانب توفير الدّعم للوحدات المكلّفة بمراقبة الحدود ومكافحة الهجرة غير النظاميّة.
ويشتمل الحوار على شقّ دفاعي يضطلع به وزراء الدّفاع في الضفّتين ويتمثّل في مراقبة الحدود البحريّة وأمن المجال الجوّي ومساهمة القوّات المسلّحة في الدّفاع المدني والتّعاون في مجالي التكوين والبحوث. ويعتقــد أنّ المبادرة ساهمــت في دعم الثّقة بين الدّول الشريكة وأفضت إلى نتائج إيجابيّة في مجالات التكوين والتدريب وتطوير القدرات العمليّاتيّة واللوجستيّة والتوثيق والبحوث والاستشراف لصالح كافّة الأطراف خاصّة في مواجهة الجريمة المنظّمة والإرهاب وتجارة السّلاح والهجرة غير النظاميّة.
وقد تكون مبادرة 5 + 5 بشقّيها الأمني والدّفاعي مـن أنجح الشراكات مع أوروبا ويؤمّل أن تصبح نواة صلبة لشراكة أورو-متوسطيّة ناجحة ومتواصلة تجعل من اتّحاد المغرب الغربي شريكا أساسيّا للاتّحاد الأوروبي. إلاّ أنّه رغم ذلك لا يخلو الحوار من عديد الإشكاليات والعراقيل، فهو إطار غير رسمي يفتقر إلى آليّة قارّة تموّل برامجه وتوفّر له عوامل التّواصل والتطوّر وينبني على أدنى القواسم المشتركة حيث يتصدّى فحسب للمخاطر التي لا تتسبّب فيها الدّول. لذلك لم يجتمع أثناء أزمة «لوكربي» في ليبيا والعشرية السوداء في الجزائر، ولم يتدخّل في أحداث ما يسمّى بالرّبيع العربي لا في ليبيا ولا خارج الاتحاد المغاربي، فتغييب التّشاور في القضايا الإقليميّة مثل التوّتّر في المنطقة وسباق التسلّح أو الأزمة الليبيّة التي كان أعضاء في الحوار أطرافا مباشرين أو غير مباشرين فيها والنّزاع بين إسبانيا والمغرب حول جزيرة ليلى (Persil) في سنة 2002، هذا التغييب يقلّل من أهميّة المبادرة ويجعلنا نستنتج أنّ الدّول الأعضاء فيها ليست من الأطراف الفاعلة فيما يتعلّق بأمنها الخاصّ وأنّه من الصّعب إقامة شراكة في مجالي الأمن والدفاع في المنطقة عندما تكون الدّول المعنيّة غير قادرة على فضّ نزاعاتها فيما بينها وتركن إلى التدخّل الخارجي لإيجاد الحلول.
ومن إشكاليات الحوار 5 + 5 كذلك وصف التعاون العملي في الإطار الأمني في بعض جوانبه بالمناولة التي تخدم أساسا المصالح الأمنيّة الأوروبيّة حيث تتعلّق مسارات التعاون إجمالا بمكافحة الهجرة غير النظاميّة والمجموعات التي تتعاطى الأعمال الإرهابيّة والتّهريب في كافّة أشكاله. هذه الأجندة تستجيب للحاجيات الأمنية لدول الغرب التي تعتبر أنّ المخاطر المذكورة جنوبيّة المنشأ وحتّى في صورة تنظيم دوريات بحريّة مشتركة لمراقبة التحرّكات الإرهابيّة فإنّ هذه الدّوريات توظّف كذلك لاعتراض وإيقاف المراكب المقلّة للمهاجرين غير النّظاميين في أعالي البحار. وبالطّبع هناك احتمال وتخوّف من أن تستعمل آليات الحوار 5 + 5 شقّيها الأمني والدفاعي لخدمة سياسات أمنيّة أوروبيّة أحاديّة وهو ما يجعــل من بلدان الضفّة الجنوبيّة للمتوسّط خطّا أماميّا في مكافحة هذه المخاطر يحمّلها مسؤوليات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة.
ومن خاصيّات الحوار 5 + 5 كذلك عدم التوازن بين القوى على الضفّتين من ناحية الإمكانيات والتنظيم والانسجام. فالحوار يتبنّى خطاب الطرف الأقوى وإشكالياته المطروحة مثل الهجرة غير النظاميّة والإرهاب، ويكرّس طرق التّعامل القديمة من قبل دول الضفّة الجنوبيّة التي تبقى منقسمة وتتّبع سياسات وطنيّة مختلفة دون التّنسيق فيما بينها في حين تتقاسم الدّول الأوروبيّة نفس المفاهيم من منطلق انتمائها إلى مجموعة أمنيّة واضحة المعالم يتمّ في إطارها ضبط الخيارات الأساسيّة وصياغة الاستراتيجيات الكفيلة بتحقيق أمنها الشامل.
هذا الواقع يقابله في الطرف المغاربي تحديدا تعدّد الخيارات والاستراتيجيات. فالبعض يتبنّى استراتيجيّة الأمن الوطني المستقلّ والبعض الآخر يعتمد استراتيجيّة تمزج بين الإمكانيات الذّاتيّة والتّحالف مع الولايات المتّحدة فيما يعوّل البعض كليّا على الحماية الأمنيّة الأجنبيّة. وكلّ هذه الاستراتيجيات تتأرجح بين التقوقع الأمني وترجيح التحالفات الثنائيّة دون التسليم بضرورة إنشاء الأطـر المشتركة لحماية أمن المنطقة. ولاشكّ في وجود ترابط بين الأوضاع الأمنيّة في المتوسّط ونسبة الاندماج العربي والمغاربي المتدنية وغياب آليّة تعاون أمني ناجزة في منطقتنا.
وفي حين تقتضي التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة التي فرضتها الثـورات العـربيّة الانفتاح الديمقراطي واعتماد استراتيجيات تنــمويّة مشتركة تحقّق الاندماج، فإنّ التناقض بين القيم الكونيّة التي يعتمدها الغرب والسياسات التي يطبّقها في مجالات الهجرة وحقوق المغتربين وتسوية النزاعات والحقّ في التنمية تطرح تساؤلات عدّة حول جدوى الأطروحات المنادية بالتكافل بين الضفّتين. وتجدر الإشارة هنا على سبيل الذّكر لا الحصر إلى مواقف بعض الدّول الأوروبيّة إزاء المهاجرين العرب الذين يعتبرون في النّهاية ضحايا سياسات ونظم تعاملت معها الدّول الأوروبيّة في وقت سابق وتقاسمت معها المصالح.
هل تحقّق فضاءات الحوار الأمني المذكورة أعلاه بمفردها أمن واستقرار جنوب وشرق المتوسط؟ الجواب هــو لا، وهو ما يطرح بإلحاح ضرورة إقامة منظومة أمنيّة عربيّة فاعلة تستأنس فيها دولنا بتجارب الغير وتستخلص فيها العبرة مـــن أخطاء الماضي وهو ما لا يتعارض مع التعاون الأمني مع الفضاءات الأجنبيّة.
محمد لسير
رئيس «المنتدى الدّبلوماسي»
- اكتب تعليق
- تعليق