احتدام النـزاع في ليبـيا: هل يسرّع انفراج الوضع في الجـزائر؟ ويعيد اللّحمة إلى الصفّ المغاربي؟
من خلال بداياتها السّاخنة الصّاخبة، يبدو أنّ سنة 2020 ستكون سنة تحوّلات عميقة في العالم العربي عموما، وفي منطقتي الخليج والمغرب العربيّين خصوصا: المنطقة الأولى بسبب الاحتكاكات الخطيرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين إيران لا سيّما في العراق الذي ما انفكّ يعاني من خلل فادح منذ سقوط بغداد سنة 2003، والمنطقة الثانية بسبب التدخّل العسكري التركي في ليبيا التي ما فتئت، هي أيضا، تعاني من خلل لا يقلّ فداحة، منذ سقوط طرابلس سنة 2011. ولأنّ التطوّرات التي تشهدها الساحة الليبية ستكون لها، دون ريب، ارتداداتها في دول الجوار، فإنّ الدول المغاربية بالذات، مدعوّة، في نظري، إلى التعامل مع التدخّل العسكري التركي في ليبيا بصورة جماعية، إذ لن ينفع في درء خطره الداهم تحرّك كل دولة بمفردها...
غير أنّ هذا التعامل الجماعي يبقى رهين تحقيق توافقين: توافق داخلي في كلّ دولة من الدول المغاربية، وتوافق مغاربي على موقف موحَّد ممّا يجري على الساحة الليبية.
وفي هذا الإطار فإنّنا نأمل أن يدفع تأجّج الصراع في ليبيا بتونس إلى الخروج، عاجلا، من حالة الشغور والترقّب التي غرقت فيها نتيجة التأخّر في تشكيل الحكومة الجديدة، ثمّ التردد في التصويت عليها ومنحها الثقة المطلوبة، وهو ما أربك أجهزة الدولة وعطّل سير عملها وشتّت تفكيرها في أولويات المرحلة...
وعلى نفس الغرار، فإنّه من المشروع أن نأمل أن يسرّع الوضع المستجدّ في ليبيا انفراج الوضع الذي تعيشه الجزائر منذ أحد عشر شهرا... وذلك لسببين اثنين على الأقل، أوّلهما أنّنا نريد أن تكون الجزائر لشعبها الشقيق آمنة مستقرة، وثانيا لأنّنا نعتقد أنّ المنطقة المغاربية هي الآن أحوج ما تكون إلى الجزائر الآمنة المستقرّة حتى تكون أقدر على الوقوف في وجه العواصف القادمة...
وبالفعل فإنّ المتأمّل في تطوّر الأحداث في الجزائر بعد الانتخابات الرئاسية التي جرت في 12 ديسمبر 2019 لا بدّ أن يلاحظ أنّه ما يزال يسير وفق خطين متوازيين، لكنّهما، رغم المُسَلَّمَة الهندسيّة المعروفة، ينبغي أن يلتقيا في أقرب وقت ممكن من أجل الجزائر، ومن أجل المنطقة.
إنّ الحراك الشّعبي الجزائري الذي تمكّن من إزاحة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ومن الإطاحة بالعديد من المحيطين به ومن رموز نظامه، وفي فتح ملفّات الفساد والبدء في محاسبة بعض الفاسدين والمفسدين، ما يزال، حتى اليوم، يطالب برحيل كامل المنظومة القديمة، وفي المقابل فإنّ الانتخابات الرئاسية التي جرت رغم الاعتراض عليها، أفضت إلى انتخاب رئيس جديد شرع بعد في ممارسة مهامّه، وقد عيّن رئيسا جديدا للحكومة قام بعد بتشكيل حكومته، وهو ماض في إرساء دواليب الحكم الجديد وفقا للرؤية التي عبّر عنها خلال حملته الانتخابية.
ولأنّ الجزائر، كمـا يقول الرئيـس المنتخب عبد المجيــد تبـــون، تقف أمام جملة من «التهديدات التي تترصّد بها، وهي تهديدات حقيقية وليست وهميّة»، فإنّها ستكون بحاجة إلى أن تعود مياهها الى مجاريها، في أقرب وقت ممكن، حتى تستطيع مواجهة هذه التهديدات.
غير أنّ ذلك يظلّ رهين تجاوز التباين القائم بين موقفيْ طرفيْ الصراع، أي بين الحراك الشعبي وبين النظام، ولذلك فقد بادر الرئيس الجزائري في خطاب التنصيب يوم 19 ديسمبر 2019، إلى التأكيد على أنّه سيعتمد سياسة «اليد الممدودة» في التعامل مع الحراك الذي دعاه هو وجميع المكونات السياسية والمدنية إلى الحوار «في إطار التوافق الوطني وقوانين الجمهورية»، وإلى طيّ «صفحة الخلافات والتنازع»، كما أكّد أنّه سيلتزم بـ«الاستجابة للتطلعات العميقة للشعب الجزائري بالتغيير العميق لنظام الحكم ولدولة الديمقراطية، دولة القانون وحقوق الانسان، وخلق الظروف لإعادة بعث النموّ الاقتصادي، وإرجاع الجزائر لمكانتها بين الأمم».
وفي هذا الإطار، ضمّن خطابه التعهّدات الكبرى التالية:
- إجراء تعديل دستوري يحقّق المطالب المعبّر عنها في الحراك الشعبي في وقت وجيز خلال الأشهر الثلاثة الأولى، وربّما خلال الأسابيع الأولى من الفترة الرئاسية وذلك لبناء «الجمهورية الجديدة»، و«الجزائر التي لا يظلم فيها أحد»، والتي تحمي الحريات الفردية والجماعية وحقوق الإنسان وحرية الإعلام وحقّ التظاهر (تم في 08/01/2020 تكليف لجنة خبراء مكوّنة من 17 عضوا بقيادة خبير في القانون الدولي، لإعداد مسوّدة دستور جديد للبلاد خلال ثلاثة أشهر).
- تحديد الفترات الرئاسية بفترة قابلة للتجديد مرة واحدة، وتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، بما يحصّن الجمهورية من السقوط، مرة أخرى، في الحكم الفردي ويجسّم الفصل الحقيقيّ بين السلطات.
- تعديل قانون الانتخابات، حيث سيحدّد شروطاً جديدة للترشح للمجالس المُنتخَبَة، بهدف إعادة الاعتبار إليها، ولضمان أخلقة الحياة السياسية، «بتجريم تدخّل المال الفاسد في العمل السياسي وشراء الأصوات، وعدم السماح بالعبث بالمال العام»، وتشجيع الشباب على الترشّح، مع تكفّل الدولة بمساعدتهم على تمويل حملاتهم الانتخابية حتى لا يقعوا فريسة للمال الفاسد.
- تحديد حصانة الأشخاص، بحيث لا تمنح للفاسد أي حصانة من الملاحقة القضائية، واستعادة هيبة الدولة عبر الاستمرار في مكافحة مُنتظِمَة للفساد وسياسة الإفلات من العقاب، وممارسات التوزيع العشوائي لعائدات النفط.
- تكريس أقصى حدّ ممكن من حرية الصحافة، حيث قال إنّه «مع الحرية لأقصى حدّ»، وإنّه «يحارب كل الأمراض التي تدخل في حرية التعبير».
- إعادة ترتيب الأولويات الوطنية للخوض في القضايا الجوهرية للبلاد عبر انتهاج استراتيجية شاملة ومبنية على رؤية سياسية واضحة تهدف إلى استعادة الشعب ثقته في دولته والالتفاف حولها لضمان استقرارها.
- السعي إلى بناء اقتصاد وطني متنوّع يصنع الرفاه الاجتماعي ويحصّن البلاد من التبعيّة.
ومن ناحية أخرى لمّح الرئيس إلى إمكانية اتخاذ إجراءات وتدابير تهدئة، على غرار الإفراج عن نشطاء الحراك المسجونين، حيث قال: «بالنسبة لمن دخلوا السجون بسبب السياسة سأعمل، بالتشاور، من أجل إيجاد حلول»...
وما من شكّ أنّ هذه التعهّدات التي تلبّي، من حيث المبدأ، جانبا هاما من مطالب الحراك الشعبي وتطلعاته، يمكن، إن أثبتت الرئاسة صدقيّتها وجدّيتها، ووفّرت الضمانات اللازمة لتجسيمها على أرض الواقع، أن تشكّل أرضية مشتركة لتوافق بين الطرفين يسمح بانفراج الأزمة.
ويبدو حسب المحلّلين أنّ ذلك أمر وارد، وغير مستبعد، لعدّة اعتبارات يمكن أن نجملها فيما يلي:
1 - أنّ التيار المتشدّد في الحراك عجز، على امتداد الأحد عشر شهرا الماضية، عن تقديم مشروع وطني ديمقراطي حقيقي كفيل بتجنيب البلاد الوقوع في حالة فراغ قد تؤدي بها، في مرحلة لاحقة، إلى حالة من الفوضى العارمة. ومن شأن ذلك أن يدعم التيار المعتدل الذي يبدو أنه يميلُ إلى الحوار مع الرئيس الجديد.
2 - أنّ رحيل الفريق أحمد قايد صالح نائب وزير الدفاع الوطني ورئيس أركان الجيش الوطني الشعبي في 23 ديسمبر 2019 غيّر معادلات الصراع بين الحراك وبين النظام، فهذا «الرجل القوي» عرف كيف ينحاز إلى الشعب عند اندلاع المسيرات الشعبية الرافضة لاستمرار الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، فدعا إلى تفعيل المادة 102 من الدستور، في شقّها المتعلّق باستقالة الرئيس، واستطاع أن يضطلع بدور أساسي في الحفاظ على وحدة البلاد واستقرارها، وفي قيادتها إلى غاية انتخاب الرئيس الجديد، وذلك في إطار من التمسّك النّزيه بالمسار الدستوري، ومن الحرص على تجنّب «سفك دماء» المحتجّين، ومنع المساس بسير مؤسسات الدولة.
وليس من المؤكد أن يكون اللواء سعيد شنقريحة قائد القوات البرية الذي كلّفه الرئيس برئاسة أركان جيش البلاد بالإنابة، قادرا على الاضطلاع بنفس الدور الذي اضطلع به الفريق أحمد قائد صالح...
3 - أنّ الحراك الشعبي والرئيس الجديد مقتنعان بأنّ التوافق بينهما يمكن أن يساعد على التخفيف من الدور المحوري الذي اضطلعت به المؤسسة العسكرية، منذ الاستقلال، في تحديد خيارات البلاد، بما يمكّنهما من إدخال الإصلاحات الديمقراطية الحقيقية المطلوبة والواجبة على بنية النظام ولو بصورة متدرّجة. ثم إنّ الرئيس الجديد والحراك الشعبي يعيان، على صعيد آخر، أنّ الجزائر تقف اليوم أمام مجموعة من التحديات الخارجية التي تستوجب الحفاظ على وحدة الصف واللحمة الوطنية، في التعاطي معها ومواجهتها.
وفي هذا السياق، تجدر الملاحظة أنّ الرئيس عبد المجيد تبون، ركّز في خطاب التنصيب وفي بعض كلماته الأخرى، على ملفّين أساسيّين هما أولا ملفّ ليبيا حيث أكّد في معرض حديثه عن الأزمة الليبية، أنّ «الجزائر هي أكبر المعنيّين باستقرار ليبيا، أحبّ من أحبّ وكره من كره، ولن تقبل بإبعادها عن الحلول المقترحة للوضع في ليبيا»، كما قال: «سنعمل على تحقيق استقرار ليبيا ووحدتها، والجزائر تدعو الإخوة الليبيين إلى توحيد صفوفهم ونبذ التدخلات الخارجية». وقد شدّد، من ناحية أخرى، على أنّ الجزائر التي تؤمن بأنّ ليبيا تمثّل عمقها الاستراتيجي وبأنّ أمن ليبيا من أمنها، أكّدت، مرارا وتكرارا، أنّها ضدّ أيّ تدخل أجنبي بالمنطقة، وأنّها مع التسوية السياسية للنزاع الليبي. وغنيّ عن البيان أنّ الجزائر لا يمكن أن تلعـــب دورا فاعلا في هذا المجال ما لم تكن جبهتها الداخلية موحّدة قوية.
امّا الملفّ الثاني فهو ملفّ العلاقات مع المغرب الأقصى والموقف من قضية الصحراء الغربية، وفي هذا الإطار أكّد الرئيس عبد المجيد تبون أنّ «المغرب العربي الذي حلم به أجدادنا سيظلّ في اهتماماتنا، وندعم حسن الجوار والتعاون مع دول المغرب العربي»، وأردف أنّ بلاده تعتبر أنّ قضية الصحراء الغربية «مسألة تصفية استعمار بيد الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، ويجب أن تظلّ بعيدة عن تعكير العلاقات مع الأشقاء».
وقد لوحظ أن العاهل المغربي، محمد السادس قال، من جانبه، في برقية التهنئة التي بعث بها الى الرئيس عبد المجيد تبّون: «أجدّد دعوتي السابقة لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين الجارين، على أساس الثقة المتبادلة والحوار البناء»...
ومن المؤمل أن تكون هذه «الإشارات» الإيجابية المتبادلة بين الرئيس والملك تمهيدا لتقارب البلدين، من جديد، وإعادة فتح الحدود المغلقة بينهما منذ ربع قرن وبالتحديد منذ سنة 1994.
وما من شكّ أنّ ذلك سيشكّل، إن حدث، تطوّرا في غاية الأهمية بالنسبة إلى المنطقة التي تحتاج إلى قدر أدنى من الانسجام الضروري بين دولها حتى تتجنّب التنافس غير المجدي وحتى تكون قادرة على القيام بتحرك منسّق مشترك من أجل مساعدة ليبيا، الدولة العضو المؤسس لاتحاد المغرب العربي، على الخروج من أزمتها المستحكمة وعلى درء مخاطر تعقيدها واطالة أمدها بالتدخلات الخارجية.وفي هذا السياق فإنّنا نلاحظ أنّ جميع الدول المغاربية تتفق على الدعوة الى حلّ سلمي وسياسي للأزمة الليبية يحفظ وحدة ليبيا وسيادتها كما تشدد على أهمية مشاركة دول الجوار في أيّ مبادرة ترمي إلى إيجاد مثل هذا الحل...
واعتقادي أنّ الفرصة سانحة اليوم للبرهنة على جدّية هذا الموقف، بالفعل لا بالقول، من خلال الرفض الجماعي القاطع والحاسم للتدخل العسكري التركي في ليبيا الذي سيشكّل، قياسا على التدخـــلات العســـكرية التركيــة في العراق وفي سوريا، تطورا كارثيا بالــغ الخطورة لن يلبث أن يرتدّ على بلدان المنطقة ولن ينفع في درء تهديداته التعامل معه على صعيد قُطْرِيٍّ فحسب، بل لا بد من التعامل معه على صعيد إقليمي أيضا وفي نفــس الوقت.
محمد إبراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق