منجي الزيدي: مجتمــع الخـوف
شهد أحد الملاهي الليلية في تونس العاصمة جريمة قتل بشعة راح ضحيتها شاب كان يحتفل بعيد ميلاده صحبة والده وعدد من أصدقائه. لقد تمّ التنكيل به على مرآى ومسمع من الجميع ولم يَهبّ أحد إلى نجدته. واكتفى أغلب الحاضرين بأن أشهروا هواتفهم المحمولة وصوّروا الحادثة ونشروها على شبكات التواصل الاجتماعي، وتنافسوا في تقديم شهاداتهم أمام الكاميرات وعلى صفحات فايسبوك. استقطبت بشاعة الجريمة وظروفها اهتمام الجميع ووجد فيها أهل الإعلام والسياسة ما يأكلون وما يشربون...ولسوف يطويها النسيان كسابقاتها. ولكن المثير للانتباه هو عجز الحاضرين، ومنهم من كان يشارك الضحية احتفاله، عن نجدته وبقاؤهم في وضع الشاهد المُكبّل.
الواقع أنّ هذا السلوك شائع في كل المجتمعات. حوادث «الخطف والنطر» والسلب العلني وقطع الطرق والدغر والضرب والقتل في عزّ النهار تزداد انتشارا وحدّة، ويتزايد معها عجز جماعي عن التدخّل. القيم الأخلاقية والاجتماعية تعلي من شأن الإيثار والشجاعة والمروءة. والقوانين الوضعية تُجرّم «عدم إغاثة شخص يواجه خطرا» ومنها قانون «الامتناع المحظور» الذي سنّته تونس منذ ستينات القرن الماضي، ومع ذلك فالسلوك الشائع للإنسان حيثما كان هو أنّه يؤثر السلامة ويتجنّب الأذى و«يبتعد عن الشرّ ويغنّي له» عملا بنصيحة المثل الشعبي. وهذا ردّ فعل لا يحتمل توصيفا أخلاقيا معيّنا... إنّه الخوف.
والخوف، في الأصل، نظام مناعة ينبّه للمخاطر ويستنفر آليات الحيطة والحذر، ويُملي السلوك المناسب لمواجهتها أو تفاديها. وهو في حدوده الطبيعيّة شرط من شروط البقاء. ولقد حلّل علم الاجتماع وعلم النفس التجليات الاجتماعية والسيكولوجية لهذا الشعور البشري الطبيعي منذ أمد ليس بالقصير. واعتبر عدد من المفكرين أنّ من سمات هذا العصر تنامي التهديدات وانتشار ثقافة الخوف. وصاغ عالم الاجتماع الألماني «اولريش باك» مصطلح «مجتمع المخاطر» ليشير به إلى واقع مجتمعات ما بعد الحداثة منطلقا من كثرة التهديدات الناجمة عن التقدّم العلمي وانعكاساتها الاجتماعية على حياة الإنسان. فالخطر يحاصر الإنسان في الهواء والماء والغذاء ووسائل النقل... ولئن تطورّت أغلب مرافق الحياة وأضحت تمنح الراحة والمتعة والسعادة فإنّها تنطوي عل قدر متصاعد من مخاطر المرض والإعاقة والموت... (الأغذية المصنّعة، المواد المسرطنة، حوادث الطرقات، وارتفاع معدّلات العنف والإرهاب والجريمة...) وبفعل هذا “دخل العالم القرن الحادي والعشرين خائفا أو هكذا هي صُورَتُه كما أُريدَ لها أن تنتشر» على حدّ تعبير عالم الاجتماع التونسي طاهر لبيب. ونتج عن الوعي بالمخاطر إنتاج لمخاطر أخرى، وترسّخت ثقافة حمائية جعلت من حياة الفرد تفاديا مستمرّا للخطر. وكلّما أُفرِط في التركيز على التهديدات كلّما ضعفت القدرة على تقدير المواقف وتحليل معطياتها وكان أسهل الحلول هو سلوك الهروب.
ويعيش التونسي تحت وطأة الخوف المُعمّم. ذلك أنّه أصبح محاصرا بالجرائم الفظيعة والحوادث الأليمــــة التي تستهدف النساء الفقيرات والرضع والشباب...ويتربّص به الإرهاب الساكن في أحراش الجبال وخارجها. وما يزيد هذا الواقع تعقيدا وصعوبة هو عجز مؤسّسات المجتمع عن استباق الخطر والوقاية منه واحتوائه ونشر الأمان. فالفوضى عمّت أغلب مجالات الحياة و ترهّلت معها سلطة الضبط الاجتماعي، و أُنهِكت أجهزة الردع بتشويش أدائها رغم تضحيات رجالاتها وتفانيهم.
لقد فَقَد المواطن ثقته في حزم المؤسّسات ومصداقيتها. وأضحى يعيش داخل تناقض الشعارات مع الواقع المعيش. الجميع يتحدّث عن علوية القانون وكثيرون يتجاوزونه بشكل صارخ ومُتعمّد. ازدواجية المعايير والتفرقة بين المواطنين تزيــد في منســـوب الاحتقان الاجتماعي. الواقع السياسي القائم على صراع المصالح وغياب البدائل، والأداء الإداري الآخذ في التراجع وانعدام الكفاءة يرسمان مستقبلا غامضا وينشران الحيرة والشكّ والقلق. مجتمع دون أمل وطموح هو مجتمع مكتئب يُكبّله الخوف و يمنعه من مواجهة التحديات والمخاطر فيكتفي بجلد ذاته على فايسبوك. المشاركة في نشر فيدوهات جريمة القتل في الملهى الليلي ومن بعدها بأيام قليلة صوّر الشباب ضحايا حادث منعرج الموت وهم صرعــى في ذلك الوادي المشؤوم هو عرض لمشاهد من تراجيديا اجتماعية شاملة قد يكون المشاهدون ينشدون من خلالها نوعا من التطهير Catharsis على النحو الذي كانت تقوم به المأساة الإغريقية.
والخوف هو نتيجة الفوضى والتهاون وتجاوز القانون وانتهاك سلطان الدولة العادلة. وهو يجد في بيئة يائسة وحائرة أرضية ليُعرِّش كالأشواك الخبيثة، ومن ثمّ تنتشر معه الانتهازية والأنانية والهروب من الواجب. الشجاعة والتضحية فعل استثنائي له رموز وقيم وقدوة لا يبدو أنها تتوفّر في مجتمعنا اليوم.
منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس
- اكتب تعليق
- تعليق