أخبار - 2019.12.24

عامر بوعزّة: العين البصيرة واليد القصيرة..

عامر بوعزّة: العين البصيرة واليد القصيرة..

افتُتح في الفترة الأخيرة وبشكل متزامن مُركّبان تجاريان كبيران في بن عروس وسوسة، وداخل هذين المركّبين انتصبت عشرات الماركات العالمية الشهيرة، وفضاءاتٌ للتسوّق والترفيه العائلي تشتمل على مطاعمَ وقاعاتِ سينما وتتوفّر بها حتّى خدمات الحضانة. لقد صُمّمت هذه »المولات« على شاكلة نظيراتها في كُبريات عواصم العالم، ويجد فيها المستهلك التونسي نفس البضائع التي تعرض في دبي وباريس ولندن بأسعار متشابهة لا تناسب قدرته الشرائية فتبدو كأنما هي مخصّصة للمُترفين دون سواهم!

سياسة «تخديم المخ»...

ورغم ذلك فإنّ الإقبال على هذين المركّبين في الأيام الأولى كان قياسيا، ولم يخل من تدافع. فقد انقضّ صغار التجار على التخفيضات في نطاق استراتيجية «تخديم المخ» للتزوّد بسلع غذائية في الغالب ومياه غازية ومعدنية يبيعونها فيما بعد في حوانيتهم بأسعارها الأصلية، أمّا عموم الناس فمصابون بداء الفضول. واستجابة لإغراءات الإشهار لا يبالي التونسيون أبدا بالطوابير الطويلة وساعات الانتظار. وإنّنا إذا وضعنا إنجازات مجتمع الاستهلاك هذه في سياق الأزمة الاقتصادية العضال سنخرج بمعادلة رياضية بديهية: أمام كلّ بضاعة يشتريها حريف واحد ثمّة عشرة فضوليين يتفرّجون عليه! فأغلب مرتادي هذه المركبات يتجوّلون في الأروقة ويبحلقون في الواجهات ولسان حالهم يقول: «العين بصيرة واليد قصيرة!»

ليس المواطن البسيط «الغلبان» وحده من يردّد هذه العبارة في السرّ والعلن، فالحكومات أيضا لا تملّ من ترديدها على الأسماع تبريرا لعجزها وقلة حيلتها، وهذه العبارة هي أقصر شمّاعة استخدمت عبر التاريخ لتفسير البؤس وإقناع الطبقات الفقيرة بالصّبر، لا سيما إذا رافقتها صياغات إنشائية فضفاضة عن القناعة والتحديات وعن ترشيد الاستهلاك وعنق الزجاجة، وعن أفضلية الديمقراطية على سائر متع الدنيا والآخرة!

الأرنب والسلحفاة...

إنّ الوقت الذي استغرقه إنشاء هذين المركّبين قصير للغاية إذا قارنته بالوقت الذي يتطلّبه إنشاء المشاريع العمومية الأساسية كالمدارس والمستشفيات والجسور والطرقات، فالمدّة الفاصلة بين وضع حجر الأساس وتدشين المشروع في القطاع الخاصّ أقلّ بكثير من الفترة التي يستغرقها مجرّد القيام بدراسة فنية لمشروع عمومي واحد! وكثيرة هي الحظائر التي بدأت وتشعر كلّما مررتَ بها أنّها لن تنتهي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهناك مشاريع تداول على وضع حجر أساسها كلّ رؤساء الحكومات منذ زمن بن علي ولم تنطلق بعد، وهي على كلّ حال أفضل من تلك المشاريع التي يضع لها هذا الوزير أو ذاك حجر الأساس في حفل مشهود ثمّ عند إقالته تختفي من الوجود.

مكينة السعادة...

ثمّة تناقض بين الواقع وصورته في المرآة. فمشاريع القطاع الخاص هذه التي لا تخرج عن نطاق الخدمات والتجارة والتسلية والترفيه مزدهرة وتدرّ أرباحا طائلة على أصحابها، فيما يتكلّم خبراء التلفزيونات عن الآفاق المسدودة والإفلاس المرتقب ويخيّم شبح الفقر في كلّ مكان. هؤلاء يتحدّثون عن العلامات التجارية العالمية والمجتمعات الاستهلاكية وثقافة الوفرة، لا بوصفها عامل دفع اقتصادي بل خطرا على المنوال التنموي الواهن الذي يستوجب التجديد، ويقترح بعض السياسيين على حكومات اليمين أفكارا شيوعية تحت بند: استعادة الدولة دورها الاجتماعي وفرملة تغوّل رأس المال. هؤلاء قد يعتبرون في الغالب أشخاصا متطرّفين في تشاؤمهم، لا يرحمون، ولا يتركون رحمةً تنزل من مكان ما أو من السماء، يستكثرون على «الزوالي» حتّى مجرّد الفرجة على واجهات المغازات الفخمة ومطاعم الأثرياء. وتتظاهر الحكومات دائما بالإصغاء إليهم ولسان حالها يقول: «العين بصيرة واليد قصيرة».
وهذا التناقض هو الوجه الآخر للتناقض القائم منذ تسع سنوات بين تشخيص الأزمة والحلول المقترحة لها، فبينما تحتاج التنمية الحقيقية نهضة صناعية وفلاحية ومبادرات تكنولوجية مجدّدة ذات قدرة تنافسية عالية تتناسل المشاريع الاستثمارية ذات الطابع الاستهلاكي. وهي مشاريع تجسّد عقيدة رأس المال التي لا تملك إزاءها الدولة غير الإذعان، هي في النهاية «مكينة السعادة» كما صوّرها «كمال الزغباني» في روايته التي تحمل هذا الاسم بنماذجها المتطابقة وثقافتها النمطية المعولمة، مكينة شرسة تفرغ الإنسان من إنسانيته وتحوّل الذوات المستقلة إلى كيانات مستلبة.

الثقب الأسود...

لقد توسّعت في السنوات الأخيرة أيضا طبقة الفقراء لتضمّ إلى جانب محدودي الدخل وذوي الاحتياجات الخاصّة والعائلات وفيرة العدد في الأرياف والمناطق النائية جزءا كبيرا من الأجراء في القطاعين العامّ والخاصّ، النشيطين أو المتقاعدين، وهؤلاء جميعا لا يمكنهم تصوّر حلول لتقهقر قدرتهم الشرائية خارج ثنائية الترفيع في الأجور والتخفيض في الأسعار فضلا عن مطالبة الدولة باستمرار بتحسين الرعاية الاجتماعية والخدمات الصحية وتشغيل العاطلين. مع معارضة كلّ الإصلاحات الكبرى لتعارضها مع مصالحهم الفردية.

ولمّا كان عجزُ الحكومة عن تحقيق العدالة الجبائية والقضاء على الاقتصاد الموازي يعني عجزها عن الإيفاء بالتزاماتها الأساسية إزاء هذه الطبقة صار الفقر ماثلا للعيان في كلّ المرافق العمومية دون سواها وخصوصا في مجال الخدمات اليومية التي تتّصل بحياة المواطن ومصالحه الحيوية على غرار التعليم والصحة والنقل، والأمن والعدل والثقافة والتجهيز، وبعض هذه القطاعات التي يستثمر فيها الخواص كالتعليم والصحّة تشهد على وجود نمطي حياة متناقضين ويكاد القفز على الهوّة الفاصلة بينهما يصبح مستحيلا، فقد أصبحنا شعبين في بلد واحد.

إنّ الأغنياء قد ازدادوا في السنوات الأخيرة غِنًى بنفس القدر الذي ازداد به الفقراء فقرا، والهوّة حينئذ بين من يشترون ومن يتفرّجون أوسع من أن تكون مجرّد هوّة، إنّها شرخ عميق يكسر المجتمع إلى نصفين. حدث ذلك بأسرع من المتوقّع في ظلّ تشعّب الاستحقاقات التي ظهرت بعد الثورة وضعف أجهزة الدولة، وبعد أن ساد الاعتقاد طويلا في أنّ الفساد هو الذي يعرقل التنمية أصبحت الأنظار متّجهة أكثر من ذي قبل إلى النموذج الاقتصادي برمّته، وهو الأمر الذي يتعذّر على أي حكومة أن تغيّره بشكل ملموس بسبب ارتفاع حجم المديونية والارتباط القسري بمؤسّسات النقد الدولية. يبشّر ذلك بتواصل سياسة تصريف الأعمال إلى أمد غير منظور تحت شعار «العين بصيرة واليد قصيرة» كما يبشر بتمدّد الهوّة الفاصلة بين الشعبين أكثر لتصبح ثقبا أسود يبتلع كلّ شيء..

عامر بوعزّة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.