عبد العزيز قاسم: الثّقافة هــي الـحــلّ
1 - الباجي قايد السبسي أبرز وجوه ما بعد «الثورة». كان رجل الساعات الحرجة. ترأّس الحكومة وقاد السفينة في بحر من الأوحال ونظّم أوّل انتخابات حرّة ثمّ سلّم الحكم لمن أوصلنا إلى ما نحن فيه وبعصا ساحر أسس حزبا احتل المرتبة الأولى في ثاني انتخابات تشريعية وبه ارتقى إلى سدّة الرئاسة وبالرغم من أنّه لم يُوَفَّقْ في انتهاجه سياسة التوافق وبالرغم من أنّه ترك حزبه يتمزّق ويتآكل إلى درجة الاضمحلال، ملأ الكرسي وشغل الناس سلبا وإيجابا وأشبعناه مدحا وذمّا. وكان له على الأخصّ حضور مؤكّد في المحافل الدولية واصل به الإشعاع البورقيبي. ولمّا توفّي شيّعه الجميع في موكب مهيب. وما هي إلا أسابيع، وفي غمرة انتخابات مشبوهة، نسيناه ولم يعد شيئا يذكر أو يكاد، فما أقصر ذاكرة هذا الجيل القاصر وما أطول لسانه!
2 - في هذا الجوّ الجاحد، كيف لا نثمِّن للاتحاد العام التونسي للشغل مبادرته لتكريم السيد محمد الناصر الذي قام بمهامّ رئاسة الجمهورية خير قيام وكان لحكمته في تصريف الشؤون المعقّدة وفي ملء الفراغ الخطير، أطيب الأثر في إضفاء الكثير من السلاسة على مجريات الأحداث المتقلقلة الشائكة. كان المفروض أن يكرّمه مجلس النوّاب الذي ترأّسه بكفاءة عالية وبصبر أيّوب. وما اختيار الاتحاد ليوم ذكرى استشهاد فرحات حشاد لتكريم السيد محمد الناصر إلا تكريس للوفاء تجاه الأوفياء فلقد كانت علاقة الرجل بالمنظمة الشغيلة طوال اضطلاعه بمهامّ وزارة الشؤون الاجتماعية وطيدة متجانسة، وظلّ على تفّهمه وانحيازه للمطالب النقابية إلى نهاية مسؤولياته. شكرا للاتحاد على هذه اللفتة الحضارية في زمن عزّ فيه تقدير من يستحقّ التقدير، ودام سندا عتيدا ثابتا للوطن رغما عن تهجّمات المغرضين.
3 - فيما عدا هذه الإيجابيات التي لا يستهان بها، أرى ما أرى وأسمع ما أسمع فتحضرني كلمة شهيرة قالها الزعيم سعد زغلول لزوجته ورفيقة نضاله صفية مصطفى فهمي، عندما شعر بالإخفاق في النهوض بالشعب إلى مرتبة الوعي والعقلانية: «ما فيش فايدة يا صفية». نحن في تونس نختزل العبارة بقولنا «زايد» وكذا أقول بعد إسهام مكثّف في مجالات التربية والثقافة والاتّصال.
4 - لقد مرّ شهران كاملان على نهاية مارا تون انتخابي مرهق ومكلف في ثلاثة فصول اتّسمت بكثير من الترهات والملابسات والتلاعبات الإعلامية تحرّك خيوطها أياد داخلية ووكالات خارجية لا عهد لها ولا ميثاق. مرَّ شهران ولم تزل بإصبعي بقية حبر تذكّرني بأنّي وقفت بالصفوف وخلوت واخترت وانتخبت ولم أعد إلى بيتي فرحا مسرورا كما كان يقول أطفال المدارس. أتأمّل في نتائج التشريعية فلا أصدّق. فالمفروض في مسيرة الأمم الحضارية أنّها تسير من حسن إلى أحسن أو من سيء إلى الأقل سوءا. لم أكن راضيا عن التركيبة الماضية إذ لم تكن خالية من الجلافة وها أنا أترحّم عليها بمزيد من الأسى. ففي التركيبة الجديدة رهوط أتعفّف عن نعتها بما تستحقّ، فيها روابط حماية الثورة السيّئة الذكر، فيها ما هو أدهى من السلفية، فيها أنصارها ومحاموها، وفيها من الأدعياء من يرى نفسه أولى بتشكيل الحكومة، وفيها جهل بالأبجديات في مختلف الميادين.
5 - ويقول حديثو العهد بالديمقراطية: يجب احترام نتائج الصندوق. أنا أتحمّل تلك النتائج ولا أحترمها بحال من الأحوال فأنا منخرط بالحزب الأعظم، حزب الثقافة. «ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن» تنهار فيه المنظومة التربوية يدخلها الأمِّيّ فيتخرج منها جاهلا يحمل شهاداتٍ عليا. رحم الله زمانا كان الناس يتخذون فيه أبا العلاء أسوة وإماما وهو القائل المتباهي عن جدارة:
ما مـــَرَّ في هـــــذه الدُّنْيَـــــا بَنُـــــو زَمَـــــن
إلاَّ وعِنْــــــدِيَ مِنْ أخْبــــــارِهِمْ طَـــــرٍفُ
كما كنّا نردّد ونتمثّل بأبي الطيب القائل فيما قال:
مـَــــنْ مُبْلِــــغُ الأعْــــــرابِ أنّي بعْـــدَهـــا
شاهَــــدْتُ رَسْــــطاليـــــسَ والإسْكَنْــدَرَا
وَسَمِعـــــتُ بَطْلَيْمـــــوــــسَ دارِسَ كُتْبِــــه
مُتَمَلِّــــكًــــا مُتَــــبَــــدِّيًا مُتَحــَضِّـــــرَا
لطالما كنا نتوسّع في شرح هذه الأبيات وصولا إلى نتيجة حاسمة هي أنّ الذي لا يعرف كبار المفكّرين يصحّ فيه استعمال ضمير غير العاقل ولا يغرنّكم اليوم أنّهم خريجو جامعات. ضمير غير العاقل يصحّ في ثلاثة أرباع السياسوية التي تتحكم في الساحة.
6 - إحدى نائبات «النهضة» في مجلسنا النيابي الجديد الموقّر، تجمعيّة تائبة، أرادت أن تؤكد توبتها فوصفت السيدة عبير موسي ورفاقها بـ«الكلوشارات والباندية» معبرة بذلك صراحة عما تضمره الجماعة وكان على السيدة عبير أن تتجاوز باعتبار أن التي شتمتها لا تحسن اللغة الفرنسية فليس عليها جناح. أما أن تأخذ السيدة سامية عبو باقة الشوك من يديها وتكرّر نعت عبير بـ«الكلوشارة» فأمر يستحق التصويب اللغوي. كلمة clochard ، معناها متشرّد أو متسكّع، واستعمالها في الصدد جهل قبل أن يكون سوء أدب، فإذا كنتم عاجزين عن الشتم بالعربية يا دعاة التمسّك بالهوية والأصالة حاولوا أن تتحرَّوْا في استعمال مفردات اللغة الأجنبية.
7 - على هامش «الكراكوز» الجاري بالمجلس رفع بعض النواب في وجه عبير موسي شعار رابعة العدوية. لغة الأصابع معروفة فرفع السبّابة والوسطى منفرجيْنِ في شكل حرف V علامة الانتصار، أما رفع كل الأصابع بطيّ الإبهام فهو يشير إلى ميدان رابعة بالقاهرة بعد أن أخلاها الجيش المصري ممّن اعتصموا بها وأذاقوا سكّان الحيّ الأمرّين، غداة عزل الرئيس محمد مرسي العياط. وليس لرابعة العدوية صلة بالإخوان لا من قريب ولا من بعيد. فهي شاعرة عراقية متصوّفة ولدت وعاشت في البصرة في القرن الثاني للهجرة حيث أسّست مذهب الحبّ الإلاهي. والمسجد الذي يحمل اسمها بالقاهرة أنشيء سنة 1963 في عهد عدو الإخوان الألدّ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
من قصائد رابعة العدوية الشهيرة ما غنّاه العديد من المطربين والمطربات وعلى رأسهم أم كلثوم:
عـَــــرَفْـــتُ الهَــــوَى مُــــــــذْ عرَفْتُ هَـــواك
وأغْـلَـقْـــــــتُ قلْـبِــــــــيَ عَـمَّـــنْ عَـدَاكا
وقُمْـــتُ أنــــاجيـــك يــــــا مَــــــنْ تـَــــــرى
خـفـــــايا الـقـلــــوبِ ولسْـنــــا نَـَــــــراكا
أحبُّــــــــكَ حُـــــبَّـيْـــــنِ حُـــــبَّ الهَـــــــوى
وحــبًّـــــــا لأنَّـــــــكَ أهْـــــــلٌ لِــــــذَاكا
فـــــأمَّـــــــا الــذي هُــوَ حُــــــبُّ الهـــــــوى
فشُغْلِــــــي بِـذِكْـــــرِكَ عَــــمَّــــنْ سِــوَاكا
وأمَّا الــــــــذي أنْــــــــــتَ أهْــــــلٌ لَــــــــه
فَكَـشْـفُـــــكَ لِي الحُـــجْـــبَ حتَّــــى أرَاكـا
فــــــــلا الحَــــــمْــــــــدُ في ذا وفي ذاكَ لــــِي
ولكِــــنْ لـــــــكَ الحَــــــمْــــدُ في ذا وذَاك
إنّ التي تمتلك مثل هذا النَّفَسِ الشعري ومثل هذه النفحات الروحية ما كانت لتقبل أن يُزَجَّ بها في مهاترات إسلاموية ولا أن يُرْمَزَ إلى اسمها بهذا الشكل المبتذل.
8 - لقد عرفت الحضارة العربية الإسلامية عصورا ذهبية لمعت فيها أسماء في الأدب والفلسفة ومختلف العلوم، بل إنّها عرفت الأنوار قبل عصر النهضة الأوروبية. كان العصر الوسيط عربيا بامتياز: ابن سينا، الفارابي، الكندي، أبو بكر الرازي، الزهراوي، ابن زهر، ابن طفيل، ابن رشد ... وتطول قائمة العلماء والمفكّرين الذين تجاوز إشعاعهم حدود الوطن، ولعلّ ابن خلدون هو آخر مصباح عربي أضاء العالم. وبعده هبط ليل العروبة الطويل. وعندما يتحدّث الأدباء والمفكّرون والمؤرّخون العرب عن عصور الانحطاط فهم يقصدون فترة تاريخية طويلة هي التي رزح فيها العالم العربي تحت نير الاستعمار العثماني، أي من سنة 1517 إلى 1917: أربعة قرون من التجهيل والتنكيل، من المكوس والنكوس، من المشانق والمخانق.
8 - أكرر: إنّ ما نصطلح عليه بعصور الانحطاط يعني الحقبة الزمنية التي أمسكت فيها أياد غير عربية، فضلا عن الاستعمارين الإنكليزي والفرنسي، بمقادير العالم العربي فأقعدته عن المسير نحو التقدّم. وها هي ذي إرهاصات عودة السحب السوداء القديمة يراها الشاعر بعيني زرقاء اليمامة فيستشرف الأخطار الداهمة أو المتربصة منبها ونذيرا:
يَزْحَـــــــفُ الجَهْــــلُ رُوَيْدًا في ثَبــاتِ الاعْتِباطْ
واليَـدُ امْـتَــــدَّتْ إلى العَـقْــــــلِ لِفَـكِّ الارْتِبـاطْ
والظُّهــــورُ احْدَوْدَبَتْ تَهْتَــــزُّ شَــــوْقًا للسِّيَاـطْ
دَحـــْرَجُـونَا سَحَبُــــوا مِنْ تَحْـتِنَـــا كُـلَّ بِســـاطْ
رَجَعَـــتْ: يا ألْـــفَ أهْلاً بِعُصـــورِ الانْحِـــطاطْ
9 - مرة أخرى نلفت النظر، على قصره، إلى أن ما يجري في الجزائر ولبنان وبلاد الرافدين واليمن يهمّنا لا على سبيل التضامن مع الإخوة فحسب بل باعتبار أن انهيار هذه الدول الشقيقة سيجرّنا حتما إلى المنحدرات التي توشك أن تتدحرج إليها. مصيرنا، شئنا أم أبينا، مرتهن إلى ما تشهده المنطقة من تداعيات. وإذا حلّت الفوضى من حولنا نستطيع أن نقول وداعا للديمقراطية التي بها نفاخر ونتبجّح.
10 - الشعب التونسي متضامن مع الشعب الفلسطيني الشقيق منذ ما يناهز القرن شارك معه في المعارك وقدّم ضريبة الدم. وعلى الصعيد السياسي، يكفي أن نُذكِّر بأن الشيخ عبد العزيز الثعالبي كان طوال ثلاثينات القرن الماضي من الزعماء العرب الأوائل الذين وقفوا إلى جانب مفتي فلسطين، الحاج أمين الحسيني، وممّن تولّوا القيام بدور قيادي في إعداد استراتيجيات الدفاع عن الحقّ الفلسطيني تجاه المدّ الصهيوني. وإسرائيل اليوم لا تقتصر على ابتلاع الأرض الفلسطينية والجولان السوري ومزارع شبعة اللبنانية ومزيد من أراضي الأردن، بل إنّ لها يـــدا في كلّ مـــا يحلّ بالعالم العربي من مصائب. وما كان لها أن تعربد بهذه الغطرسة والصفاقة لولا مساندة الولايات المتحدة المطلقة لها ضاربة الحائط بكلّ المواثيق والقرارات الأممية. لذلك، وإذا استقرّ عزمنا على إفشال صفقة القرن، فلا ينبغي حصر الهمّ في الكيان الصهيوني، يجب أن نتعدّاه إلى كل داعميه في المنطقة العربية. فهل نحن قادرون على مواجهة هذا المدّ الصهيوني ولو بمجرّد اللسان؟.
عبد العزيز قاسم
- اكتب تعليق
- تعليق