عصام الدين الراجحي: السياسات العمومية ودور الفاعلين في صياغة البرامج الحكومية
ونحن على مشارف استكمال التشكيل الحكومي الثالث عشر (13) منذ سقوط نظام السابق وعبر متابعة كواليس المشاورات إلى حدود اللحظة ، يتبادر لذهني إشكال متواتر منذ سنين يرافق عملية صنع القرار في تونس حيث لا يختلف عاقلان حول غياب البعد الإستراتيجي والرؤية الحاملة لمضامين كبرى ضمن سياسات هذه الحكومات بل أكاد لا تستثنى من هذا دولة الاستقلال رغم اعتمادها التخطيط التنموي ولكن من نكساتها أنّ صناعة القرارات الحكومية والخيارات الاقتصادية والمخطّطات الجهوية كان ضمن مسار السلطة المركزيّة المشددة والتي عجزت عن تحقيق التنمية العادلة وأقصت كل مشاركة حقيقية للجهات في أخذ القرارات وفي التوزيع الجهوي للاستثمارات العمومية، بالإضافة إلى سوء الحوكمة والمحسوبية والفساد، مما أدّت إلى تكريس سياسة التهميش والحرمان وحوّلت الجهات الداخلية إلى مناطق منفورة.
ويبدو أن الماسكين بزمام القرار في بلدنا مازالوا مصرين على إنتهاج نفس الخيارات الاعتباطية والعبث خاصة في غياب منوال تنموي عادل و فاعل وعلى خطى ما سبق تأخرت حكومات ما بعد الثورة في تناول كثير من القضايا ولكن تسرعت في اتخاذ قرارات بشأن أخرى فاعتمدت حلولا دون الانكباب على دراستها توهّما منها أنّ النجاح كامن في سرعة اتخاذها، دون الاتجاه للبحث عن الخلل والمشكل الرئيس ، مما أقحمنا في بحر من التخبط الإجرائي وأيضا الهيكلي أربكه غياب الاستقرار السياسي بمعدل حكومة كل سنة و نصف و هو ما ساهم في تعثر تطبيق الخيارات وتقدّم البرامج الحكومية و تنفيذ التعهّدات.
لا شك أنّ المرض العضال الذي أصاب الدولة التونسية في مقتل إضافة إلى غياب الاستقرار الحكومي ، هو عدم امتلاك رؤية شاملة و واضحة وغياب مخطط استراتيجي محكم ، فلا حزام سياسي متماسك ومتقارب يحمل عناوين ومضامين كبرى ولا مشروع إصلاح ورؤية للمستقبل.
وفي ظل هذا المشهد، من النباهة الإقرار بالعجز عن تقديم بدائل جديّة لإدارة السياسات العمومية وعدم التفاعل مع البحوث والملتقيات والنقاشات التي تهتم بالمسائل والسبل الاقتصادية والاجتماعية مع تغييب دور مراكز الاستشراف و الدراسات الإستراتيجية.
لقد ساهمت مراكز الأبحاث والاستشراف عبر تجارب عالمية في تقديم دراسات وتوجيهات أو توصيات محددة حول القضايا المحلية والدولية ، بهدف تمكين صانعي القرار والفاعلين الرئيسين من صياغة أهم السياسات العمومية وفي غياب مراكز هامة ومحترمة في تونس مرتبطة بأحزاب سياسية أو مراكز غير حكومية ومستقلة يعد المعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية و مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية بتونس أهم المؤسسات الوسيطة بين الأكاديميين ومجموعة صناع السياسات العامة و صنع القرار.
وكثيرا ما حاول بعض القائمين على هذه المؤسسات ولو بصعوبة شديدة تجاوز صورة نمطية ترسخت عنها عبر سنوات فهي لا تمارس ترفاً أو رفاهية فكرية أو علمية في الفنادق الفاخرة بل يجب أن تلعب دورا هاما"لعقلنة" عملية صنع القرار وممارسة "التفكير الجمعي" أو التشاركيبين الباحثين والخبراء للتحليل العلمي للمشكلات واستشراف الأزمات وتقديم الحلول لمعالجتها.
وكان يُتوقّع منذ أسابيع اهتمام خاصّ من صانع القرار وصانعي السياسات في البلاد للعب دور أساسي في دعم دور المعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية ورعايته مع بداية عهد الرئيس التونسي و هو الأكاديمي الضالع و لكن نٌصدم بتعيين إداري ملحق بمؤسسة عمومية تشهد منذ سنوات صعوبات هيكلية ومالية كبرى مديرا لهذا المعهد وهو الذي لا يحمل في جرابه أي دراسة أكاديمية أو بحثية.
تعيين يراه البعض ، ولو دون دليل واضح ، لم يقطع مع ثقافة تعيينات القرب والوساطات ولكن الأخطر في نظري أننا وبوعي شديد نواصل تغييب الكفاءات والتخبط في إدارة هذه الدولة وكأنه مشروع محل بقالة" عطرية " كل يوم ويومه فلا نعطي أهمية للمفكرين الإستراتيجيين ومحللي السياسات وباحثي الاستشراف وأصحاب القدرة على التأثير في صناعة القرار الحكومي وصياغة البرامج المتواصلة وفق الأولويات والمشاغل .
نحن لا نطمح لإنجاز مشروع وطني قادر على تحقيق إصلاح شامل ومتكامل ولكن مع كل سنة إدارية نطرح حكومة جديدة...تطرح آمال وطموحات وفي أحيان كثيرة أهدافا كاذبة يٌجزءها اعتماد 16 ميزانية في الثماني سنوات الأخيرة، 8 منها عادية و 8 ميزانيات تكميلية في انتظارالمصادقة على ميزانية 2020 وهو ما يبين ضعف الإدارة الحاكمة وغياب الرؤية والحنكة في معالجة الأمور الاقتصادية والاجتماعيّة العاجلة والآجلة و الارتباط بالخيارات النيوليبرالية بعيدا عن القرار الوطني.
يجب الإقرار بمحدودية قدرات بعض صانعي القرار على حلّ المشاكل التي يدعون إلى التكفل بها وضعف مؤهلات وخبرات العاملين بدواوينهم وكفاءة وفعالية أحزابنا ومؤسساتنا وإداراتنا خصوصا عندما يتعلق الامر بتطبيق وتنفيذ وتفعيل قرارات وسط تخبط شديد وأزمة مالية خانقة وفي غياب رؤية وتخطيط إستراتيجي.
لقد ارتبطت صياغة السياسات العمومية ، بتقليد إمريكي ، مع بداية الخمسينات من القرن الماضي . بالاعتماد على منهجية الربط ، بين المقومات النظرية الأكاديمية ، والممارسات العملية للسياسات ولكن تكتسب منهجية السياسة العمومية اهمية خاصة بالنسبة إلى الدول النامية كتونس التى يكاد يتطابق فيها تعريف هذه السياسة مع نشاط الدولة لما تضطلع به من دور اساسي ومحوري فهي لازالت رغم ما طالها من زحف قوانين الاقتصاد الحر ، مفتاح التنمية وعمودها الفقري ، ولكن تبقى أهم المعضلات الكبرى التي استعصت على جميع الحكومات السابقة، سواء فيما يتعلق بطرق التدبير في حد ذاتها، أو بطبيعة الأشخاص القائمين على صنع وتنفيذ القرار الحكومي لذلك لا مناص من استحضار علاقة التلازم بين دور الدولة ( بجميع مؤسساتها الدستورية و الحكومية و اللامركزية) وطاقات الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والنخب والمجتمع المدني وهاجس تعبئة الموارد المالية وجلب الخبرات اللازمة لمواكبة الإصلاحات والبرامج الإستراتيجية للحكومة القادمة .
إنّ نجاح العمل السياسي صار اليوم مرتبطًا بتحويل المشاكل والمطالب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى مادة سياسية قابلة للمعالجة وبتنزيلها ضمن السياسات العمومية وعلى تقييم أثر هذه السياسات على المواطنين لذلك لابد من تفعيل دور مراكز البحث والإستشراف كالمعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية عبر بناء شراكة حقيقية وفتح نافذة تواصل بين المؤسسات البحثية والمؤسسات الحكومية ومتخذي القرارات فيها والوقوف على احتياجات صانع القرار الذي ينبغي أن يكون بدوره حريصا على تقوية قدرات الأجهزة التنفيذية التابعة له ووضع آليات مؤسسية لتنسيق السياسات العمومية ودعم مأسسة تقييمها وتطوير ممارسة وظيفة التقييم وتطوير وتوحيد أدواته المنهجية من أجل نجاعة أفضل للسياسات العمومية التونسية .
نعم آلة التفكير معطبة ولكن نحتاج اليوم وقبل أي وقت مضى إلى شباب و قادة يرسخون عظمة هذا الوطن.
عصام الدين الراجحي
المصادر:
• جيمس أندرسون، صنع السياسات العامة، ترجمة عامر الكبيسي، دار المسيرة للنشر والطباعة والتوزيع، الدوحة 1998
• مراكز الأبحاث العربية.. التحديات وآفاق المستقبل، مركز سمت للدراسات، 18 فبراير 2018
• حسن طارق، مبادئ ومقاربات في تقييم السياسات العمومية بدعم من FNUD، طبعة 2014.
• محاضرات مادة السياسات العمومية، مسار القانون العام، السداسية الخامسة كلية الحقوق فاس،السنة الدراسية 2015-2016
- اكتب تعليق
- تعليق