أخبار - 2019.12.04

في ربوع الأندلس: قصّة حضارة صارعت محاولات الطّمس

في ربوع الأندلس: قصّة حضارة صارعت محاولات الطّمس

هي قصّة مبهرة لحضارة دوَّن التاريخ أحداثها في أروع صورة. وأنت في ربوع الأندلس تشعر بأنّ شيئا غريبا يشدّك إلى كلّ حجر شُيّد فيها وساهم في نحت حضارتها . يأخذك الحجر الشامخ في رحلة ساحرة عبر المكان والزمان فيحدّثك ويناجيك ويروي لك قصّة نهضة الحضارة العربية في الأندلس لمدّة تزيد عن 8 قرون ممّا يجعلك تحس أنّ  الأندلسيين يستقبلونك مرحّبين يحدوهم شعور بالاعتزاز بأمجادهم وهم يدعونك إلى التأمّل فيما بقي ممّا شيّده الأسبقون، وفعلا أبهرنا بما شاهدناه فكانت الرحلة إلى أشهر مدن الأندلس قرطبة وإشبيلية وغرناطة.

قال أبو البقاء الرندي في قصيدته المشهورة يرثي الأندلس عند سقوطها بيد النصارى:

لكــــــل شيء إذا ما تمّ نقصان    فلا يغرّ بطيب العيش إنســـان
هي الأمور كما شاهدتها دول     مـن ســــرّه زمن ســاءته أزمــــان

كان الشاعر يرثي النهضة الفكرية والعلمية والإنجازات الهندسية والمعمارية التي ميّزت الحضارة العربية في الأندلس وبقيت منها شواهد عديدة مثل مسجد قرطبة والقصر والصومعة  في إشبيلية وقصر الحمراء في غرناطة وغيرها في طليطلة ومالقة  وسرقسطة ...واتسم المعمار الأندلسي فيها بالأقواس المزخرفة القائمة على أعمدة رشيقة في باحات قصورها ومساجدها تغطّيها سقوف خشبية مطعَّمة بزخارف ومزخرفة بخيوط ذهبية أو فضية أو نحاسية ويغطّي جدرانها وقاعات قصورها وواجهاتها الخزف الملوّن والمزركش ببراعة ،كلّ ذلك تحيط به أو تتوسّطه حدائق غنّاء وبرك مياه مختلفة الأشكال  والأحجام ونوافير جميلة ترسم صورة كأنّها الجنة على الأرض . ألم يقل عنها ابن خفاجة :

يا أهـــــــل أندلس لله درّكــــم     مـــــــــاء وظلّ وأشجـــــار وأنهـار
ما جنّة الخلد إلاّ في دياركــــم      ولو تخيّــــرت هـــذا كنت أختـار

قرطبة: أهمّ مدينة في العالم في عصرها

من العاصمة مدريد انطلقنا نحو الأندلس دون أن نغفل أنّ مدريد ذاتها يحدّثك معمارها القديم عن أثر الأندلسيين. فرغم شحّ المعلومات عن التراث الأندلسي الإسلامي في العاصمة فإنّ التاريخ يؤكّد أنّ الأمير الأموي محمد بن عبد الرحمن الأوسط هو الذي بناها سنة 855 م وكان اسمها آنذاك «مجريط» أي مجرى الماء وأنّها كانت تعتبر واحدة من الحصون العسكرية على طول الحدود بين الأندلس المسلمة والممالك المسيحية في الشمال. منها توجهنا إلى قرطبة وفي الطريق إليها تحدثّك الجبال الشهيرة في التاريخ الأندلسي والمسمّاة بالعقاب لتذكّرك بأنّها كانت مسرحا لمعركة هامّة هزم المسيحيون فيها الأندلسيين وسقطت بعدها قرطبة في أيدي النصارى. وتشدّك السهول المترامية على جنبات الطريق والهضاب الخضراء التي تغطّيها أشجار القوارص والزيتون وهي نفس اللوحة التي تشاهدها عند التنقّل بين المدن الأندلسية . ويذكر المؤرّخون أنّ الأندلسيين هم الذين اعتنوا بشجرة الزيتون في عهودهم ونشروا زراعتها في الأندلس حتّى أصبحت لإسبانيا اليوم ما يقارب 300 مليون شجرة زيتون على أراضيها.

عند دخول قرطبة تكون متلهّفا للوصول إلى جامع قرطبة الكبير . وفي طريقك إليه تحدّثك شوارعها عن أعلامها فمن هنا مرّ ابن حزم الظاهري وهناك تجوّل الشاعر الأمير ابن زيدون ولعلّه التقى ولاّدة أيضا وهناك عاش ابن عبد ربه صاحب كتاب العقد الفريد وأبو علي القالي الذي أملى كتاب الأمالي المشهور على طلبته في مسجد قرطبة . ويخبرك معمارها الأندلسي أنّك في مدينة كانت الأهمّ في العالم عندما كانت عاصمة الخلافة الإسلامية في الأندلس وكان عدد سكانها مليونا ونصفا وكانت طرقاتها مرصوفة ومنارة ليلا . وهي كذلك لأنّها كانت تعدّ في عهدها الذهبي 600 مسجد تمّ تحويلها كلّها إلى كنائس بعد هزيمة المسلمين في الأندلس  و200 ألف منزل و50 مستشفى و 80 مدرسة كبرى وجامعة و900 حمّام ( مثل الحمام التقليدي لدينا ) وانتشرت فيها المكتبات وهي أوّل بلد في أوروبا تتمّ فيه صناعة الورق وفيه جامعة كانت الأولى في العالم يأتيها طلاب العلم من أوروبا وكانت بها مكتبة عظيمة فيها أكثر من 600 ألف مجلّد. وخلّدت قرطبة الأعلام الأندلسيين من خلفاء وأدباء وعلماء من خلال نصب تذكارية مثل نصب عبد الرحمن الداخل ونصب لابن زيدون وولاّدة ونصب للمستنصر بالله وعمود تذكاري للمعتمد بن عباد  في قصره بإشبيلية ونصب لابن رشد وآخر لابن حزم.

إشبيلية أو حمص الأندلس

وعندما تدخل إشبيلية تدلّك آثارها على منزلتها إذ كانت ثاني أهم مدينة في الأندلس، وهي عاصمة بني عباد وتلقّب بحمص الأندلس  افتتحها موسى بن نصير سنة 713م .ويعتبر حاكمها المعتمد بن عباد أقوى حاكم في عهد ملوك الطوائف... وتروي لك الآثار أيضا قصّة إشبيلية الغريبة التي سقطت سنة 1248 م.

ومن أهمّ ما خلّف المسلمون في هذه المدينة مسجدها الجامع الذي بناه السلطان الموحدي أبو يوسف يعقوب المنصور لكنّه أصبح اليوم كاتيدرائية كغيره من المساجد بعد أن هدّمه النصارى لكنهم تركوا المئذنة وباحة الوضوء وأشهر ما في الجامع مئذنته (La Giralda) التي بناها الموحدون وعمرها اليوم حوالي 900 سنة وكانت المنارة الأعلى في العالم آنذاك وأصبحت اليوم برجا لأجراس كاتيدرائية إشبيلية ويمكن أن نقارن ارتفاع المنارة اليوم بناطحات السحاب إذ أن ارتفاعها يزيد عن 97 مترا. أما المدينة العتيقة في إشبيلية فهي بأزقتها الضيقة والأزهار المزيّنة لبيوتها شبيهة بقرطبة وغرناطة. ولأنّ أهل إشبيلية منبهرون بشخصية المعتمد بن عباد ألّفوا حول شخصيته الكتب والمسرحيات والأغاني وقيل فيه شعر خلَّد ذكراه وخاصّة ذكرى خروجه الحزين من إشبيلية نحو المغرب ووفاته هناك.

غرناطة، نهاية الحكم الأندلسي

قال شاعر إسباني من سكان غرناطة متغنّيا بجمالها: «لا يوجد أشدّ ألما من أن تكون أعمى في غرناطة». ولأنّها أصبحت أهمّ عاصمة علمية في أوروبا بعد سقوط قرطبة بسبب التجاء المسلمين الهاربين من طليطلة وسرقسطة وقرطبة وإشبيلية إليها بعد احتلالها من قبل المسيحيين جمعت النخبة من علماء وأدباء وأطباء ومفكّرين وفقهاء.. أمّا قصر الحمراء هو أهمّ معلم تاريخي في المدينة التي توجد بها ثلاثة أماكن تاريخية مهمّة هي القصور الناصرية وجنّة العريف وهي عبارة عن حديقة كبيرة كانت يستغلّها السلطان للاستجمام والقصبة التي هي بمثابة أبراج المراقبة المحيطة بالقصر. وتنتصب خارجه حمّامات يزيد عمرها اليوم عن ألف سنة.

حافظت عدّة أحياء على الشكل المعماري الأندلسي ومن أهمّها حيّ البيازين، هو أعرق أحياء غرناطة وهناك ساحة بوّابة الرملة التي شهدت مقتل آلاف المسلمين وإحراق آلاف الكتب . وهو الحيّ الذي انطلقت منه انتفاضة ضد الكاتوليك بعد سقوط الأندلس واضطهاد المُسلمين ، ممّا دعا أغلبهم إلى الهجرة أما البقية فقد اعتنقوا المسيحية خوفا وعديد منهم أخفوا دينهم.

وبعد سقوط غرناطة سنة 1250م تسلّم الكهنة الكاتوليك زمام الحكم فيها وبدأوا بطمس الأدلّة التي كانت تشير إلى وجود المسلمين في إسبانيا.

قصر الحمراء أحد عجائب الدنيا

قصر الحمراء يصنّف من عجائب الدنيا يزوره سنويا أكثر من مليوني سائح وهو يؤرّخ لفترة مهمّة من الحكم العربي الإسلامي في الأندلس لأنّ غرناطة كانت آخر إمارة أندلسية تسقط في يد الكاتوليك.

محمد بن نصر بن  الأحمر ملك غرناطة ( 1238 م -  1273 م ) هو الذي أذن بتشييد القصر وتولّى الأمراء بعده توسعته والزيادة فيه حتّى أخذ شكله الحالي. ويذكر المؤرّخون أنّ بناءه تواصل لأكثر من 100 سنة. سمّي بقصر الحمراء لأنّه بُني بتربة حمراء محيطة به. يقع القصر فوق هضبة في جنّة العريف (جنراليف الحالية ) وهي حديقة الملك ويطلّ على حي البيَازين، الحي القديم في المدينة . تستقبلك في مدخل الحمراء عبارة «ولا غالب إلا الله» بالخطّ الكوفي وتستوقفك داخل القصر عبارات منقوشة على الجدران من نوع «وما النصر إلا من عند الله» أو غيرها.

وكان يعيش في الحمراء بضعة آلاف من الأشخاص. زيّنت قاعة العرش بنقوش وزخارف مبهرة وكانت مركز السلطة فيها يعقد مجلس العرش وعندما يوجّهونك إلى المكان الذي كان يقف فيه الملك تحسّ أنّه اختاره أمام شباك كبير مشبّك ليزيد النور المنبعث وراءه من هالته أمام من يتحدّث إليهم. أما بهو القصر الذي تطلق عليه تسمية بهو السباع فهو أشهر أجنحة قصر الحمراء  فيه بركة دائرية من الرخــام تزينها مجسّمات لـ 12 أسدا  تخرج من أفواهها المياه في نظام مائي أندلسي متقن.

شيدت في ساحة القصر «فناء الريحان» بركة مائية مستطيلة الشكل ينعكس معمار القصر فيها وكأنّها مرآة لصفاء مائها . وفي القصر حدائق متّصلة مترامية الأطراف خصّص جزء منها في الماضي للمنتوجات الفلاحية التي يحتاجها القصر لتوفير الغذاء لساكنيه. ويكتمل قصر الحمراء بقلعة القصبة التي شيّدت حصنا للدفاع عن القصر ومدينة غرناطة.

خالد الشّابي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.