أخبار - 2019.11.26

منجي الزيدي: صناعة الكذب والوعي الزائف

 منجي الزيدي: صناعة الكذب والوعي الزائف

يلازم الكذب الإنسان منذ الأزل، ولكن مداه اتّسع في عصرنا الحاضر، بل إنّه أصبح صناعة قائمة الذات. ولئن كانت الإشاعة أقدم وسيلة اتصال عرفتها الإنسانية على حدّ تعبير »كابفيرر« فإنّ الأخبار الزائفة والملفّقة أضحت تغرق الفضاء الاتصالي العام، وصارت سلاحا في نزاعات السياسة ومناوراتها التي لا تنتهي.

لقد انتشر استعمال الكلمة الإنكليزية fake news للتعبير عن هذه الظاهرة. وهي كلمة لم يوجد لها بَعْدُ مرادف دقيق في الفرنسية ولا في العربية، ولكنّها تحمل معاني الكذب والإفك والافتراء والبهتان وقول الزور... ومصدر شهرة هذه العبارة كثرة استخدامها من قبل الرئيس الأمريكي «دونالد ترمب» في خضمّ زوبعة ما أشيع عن التلاعب بنتائج الانتخابات الرئاسية لسنة 2016 بتوظيف شبكات التواصل الاجتماعي الالكترونية لتضليل الرأي العام وتوجيهه.

والواقع أنّ الدور الخطير الذي أضحت تقوم به هذه الشبكات في نشر الأخبار الملفّقة لم يعد بحاجة إلى تأكيد، كما أنّ قدرتها على التأثير في مواقف الناس واختياراتهم وتوجّهاتهم بات أمرا واضحا. ذلك بأنّ الانترنت اليوم هي المصدر الأساسي للمعلومة والترفيه والتواصل الاجتماعي، وأنّ صانعي المضامين ومنتجي الأخبار هم المتحكّمون في تشكيل ثقافة الجماهير. الشيء الذي جعل الأخبار تنتقل بسرعـــة فائقـة دون التثبّت من صحتها، وتكتسب صدقيتها وقيمتها من خلال ما يقوم به المستخدمون من مشاركات وتعليقات ومشاهدات وتفاعلات. فكُلَّما انتشر الخبر كلّما اكتسب صحّة لا تقبل الدحض بسهولة، أمّا التصويبات والردود «الرسمية» اللاحقة فليس لها تأثير كبير إذ سبق السيف العذل، وتمّ إطلاق الرصاصة. ولقد بيّنت دراسات حديثة أن الخبر الزائف يسري سريعا ويمضي بعيدا وينفذ عميقا، في حين يستغرق الخبر الموثوق 6 أضعاف الوقت ليصل إلى 1500 فرد. زد على ذلك انتشار برمجيات مختصّة في نشر الاخبار بسرعة تفوق قدرة البشر. كما ثبت لدى عديد الباحثين أنّ الناس يصدّقون الخبر المثير والغريب و«الفضائحي». وهم بذلك يؤكّدون انتماءهم إلى دائرة «مالكي الحقيقة». ثم إنّ البشر يميلون إلى تصديق الأخبار التي تناسب مواقفهم وتوجّهاتهم. ويسعدهم أن يكونوا مصدرا لكشف المستور، ولقد أصابتهم عدوى «السبق الإعلامي».

ومن جانب آخر شهد الفضاء العام تحوّلات عميقة إذ انتقل النقاش العام من المنتديات والساحات المادية إلى فضاء الصفحـات الإلكترونية المغلقة والمفتوحة. وهو فضاء لا يخضع لرقابة إلاّ رقابة المشرفين عليه من صنّاع رأي إلكتروني يكتسبون نفوذا متزايدا عبر «كاريزما» اتصالية قويّة متسلّحين بالعنف اللفظي والرمزي يرفض كلّ رأي مخالف ويواجهه بعدوانية وشراسة.

بات واضحا أنّ شبكات التواصل الاجتماعي تستثمر في المثير والصـادم والزائف لتشدّ اهتمام الناس إليها. وإذا كان «فايسبوك» يمثّل مصدر المعلومة الأساسي لأكثر من 44 بالمائة من الأمريكيين فإنّ التونسيين يتصدّرون طليعة مستخدميه في العالم. الشيء الذي جعل الصحف والقنوات الاذاعية والتلفزيونية تسعى جاهدة إلى مواكبة نسق إنتاج الأخبار على الشبكات الاتصالية، فتعيد نشرها وبثّها دون التثبّت من صحّتها، وتجعل من التصريحات والفيديوهات والصوّر مادّة لنقاش وجدل يلهب سعيره «المحلّلون» و«الخبراء» و«النشطاء». ولكن هذا «النقاش» ليس بمأمن دائما من «التلوّث الإخباري» و«التعفّن اللفظي»...

إنّ الفضاء الافتراضي ساحة عامّة يتجمّع فيها المستخدمون في شكل حشود عارمة، وقد سبق أن بيّن لنا «غوستاف لوبون» أنّ من طبيعة الحشود «أنّها تفتقد للتفكير العقلاني وهي تتبنّى الأفكار دفعة واحدة أو ترفضها، وأنّها لا تتحمّل لا مناقشة ولا اعتراضا... فالتعاطف مع شيء ما يتحوّل لديها فورا إلى عبادة والنفور يتحوّل مباشرة إلى حقد» لذلك يسهل تصديق أخبار وتكذيب أخرى. وإنّ القائمين على شبكات التواصل الاجتماعي ليدركون ذلك جيّدا.

لقد أحكم الفضاء الافتراضي قبضته على الناس من خلال امتلاكه بياناتهم ومعرفته بأدّق تفاصيل حياتهم وتركيبتهم الذهنية والنفسية، واكتسب قدرة هائلة على التأثير فيمن هم قابلون للتأثّرles influençables  فيستهدفهم مباشرة ويوجّههم حيثما شاء، ولقد أثبت نجاعة كبيرة في ذلك تهاوت أمامها نظريات الاتصال الكلاسيكية، وتمّ نزع سلاح «حارس البوابة». ذلك أنّ لهذه القوى الاتصالية قدرة خارقة على التمويه والإخفاء والتعظيم والتحقير. وهي بذلك قادرة على الخداع وقديما قال ماكيافيل «إنّ الذي يَخْدِع سوف يجد دائما أولئك الذين يجيزون لأنفسهم أن يُخدَعوا».

إنّ قضيّة «كامبريدج أناليتكا» وغيرها من قضايا التوظيف والتلاعب الالكتروني عبر «لوغاريتمات» التوجيه وتحديد المحتوى ونشر الخبر المزيّف تكشف عن واقع «انعدام أمن سيبرني شامل» يهدّد الإرادة الجماعية والديموقراطية ذاتها، وهو واقع لا يمكن التغافل عنه والتقليل من شأنه ومواجهته باتّهام من ينبّهون لخطورته بأنّهم من أتباع «نظرية المؤامرة».

ولم تخف شبكات التواصل الاجتماعي إدراكها لما يثار حولها من شكوك واتّهامات جدية، وفتحت تحقيقات وأعلنت إجراءات للمراقبة والتصدّي. ولكن هذه الاجراءات تبقى محدودة، ويصعب التثبّت من تطبيقها وجدّيتها وفاعليتها. كما أنّ القوانين الردعية التي انتهجتها العديد من البلدان لم تحقّق نتائج كبيرة ومازال المجتمع المدني عاجزا عن مواجهة حقيقية لظاهرة الزيف والتلاعب.

في روايته «1984» تفتّق خيال «جورج اورويل» عن فكرة «وزارة الحقيقة» التي تختصّ بشؤون الأخبار ووسائل اللهو والاحتفالات والتعليم والفنون الجميلة، فالحقيقة ضالة الإنسان وجوهر كينونته، وأنّ الزّيف والتضليل هما ألدّا أعدائه.                                                                                           

منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.