عصام الدين الراجحي: رهانات إنجاح المسار، اللامركزية تحتاج لبوصلة سياسية صادقة
تتواصل الإستقالات تواليا صلب المجالس البلدية و لعل آخرها و الأشهر استقالة رئيس بلدية المرسى محمد سليم المحرزي والتي كانت أسبابها ملفتة للإنتباه من رئيس بلدية في ضواحي المركز و الحاضرة حيث نشر رسالة أكد فيها ضعف الإمكانيات التنفيذية المتاحة للبلدية والخلافات مع الإدارة المركزية وعدم اكتمال شروط تطبيق قانون البلديات الجديد مما حال دون قيامه وبقية أعضاء المجلس البلدي بوظيفتهم .
إستقالات لم تكن أسبايها مفاجئة لدى جل المتابعين حيث لا تخفي سمة الفشل الذي رافقت استراتيجية عمل الحكومة الحالية في إستكمال وضع الإطار القانوني و الإداري للامركزية بُعيد الإستحقاق الإنتخابي ماي 2018 ، فقد تعذر على هياكل الإشراف و مصالح رئاسة الحكومة إصدار كل الأوامر الحكومية فيما عدى إصدار 10 من أصل 38 منصوص عليها بمجلة الجماعات المحلية ، و لكن يبدو أن الخطر الداهم الذي يحدق بالسلطة المحلية و يحاول إفشال التجربة هو العمل على أن تُطبّق اللامركزية بهمّة فاترة فاتحة المجال لأن تنشط البيروقراطية الممركزة لتقويض هذه العملية عبر ترك البلديات في مهب الريح " اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ " .
لقد منحت فصول الدستور و مجلة الجماعات المحلية البلديات مزيدًا من الاستقلالية الإدارية و المالية ووسعت من الناحية النظرية مجال اختصاصها ، إلا أن صلاحيات الإدارة المركزية و التنظيم اللامحوري بقيت إلى اليوم سليمة تقريبًا بل لم يتم بعد البدء في مباشرة الإجراءات الجديدة للتنسيق والتعاون بين مختلف الفاعلين لوضع السياسات العمومية المحلية و الإصلاح الهيكلي تماشيا مع التشريع الجديد و قصد تثبيت أسس تسيير الجماعات المنتخبة .
من المعيب أن تتم مناقشة الجوانب الفنية لهذا الإصلاح بشكل أساسي و منذ أشهر في دائرة مغلقة بين كبار المسؤولين بوزارة الشؤون المحلية والبيئة وبعض من المتخصصين التونسيين والأجانب دون تشريك لأصحاب المصلحة المنتخبين ، لذلك من الممكن تمامًا و بوعي كامل و أمام الصعوبات التي تشهدها البلديات حاليا ، أن يقوم ممثلي البيروقراطية الممركزة بإفراغ أسس الباب السابع من الدستور تدريجياً من محتواه رغم كل الضغوط التي يمارسها المانحون الأجانب الداعمون لمسار اللامركزية في تونس.
هذا المسار الذي يتطلب مراجعة عاجلة للمنظومة القانونية على المستويين الإداري والمالي و الجبائي و المصادقة على ترسانة قوانين مثل الجباية والمحاسبة المحلية وإرساء هياكل ومؤسسات منها ( اللجنة الوطنية للتكوين ، المجالس الجهوية ، المجلس الأعلى للجماعات المحليّة، الهيئة العليا للمالية المحليّة ... ) والاشتغال على إصدار عشرات النصوص التطبيقية والترتيبية المعطلة و التي صعبت مهام المنتخبين الجدد في البلديات التونسية و هو الأمر الذي سيتطلب و بكل أسف وقتا طويلا جدا إذا ما أضفنا أن المسار اللامركزي في حد ذاته يستوجب تدرجا في الإنفاذ.
لقد وضعت الحكومة التونسية منذ سنة 2016 خطة عمل و روزنامة مرفقة لتفعيل مسار اللامركزية تنص على تحويل 15 في المائة من السلطة المالية والإدارية من الدولة المركزية إلى الدوائر و الجماعات المحلية بين عامي 2018 و 2021 ، و 35 في المائة في عام 2024 و 50 في المائة في عام 2027. لكن هذا النقل إلى البلديات في مراحله الأولى خصوصا ، من المفترض أن يرافقه قدراً هائلاً من الاستعدادات و توافر الإرادة والرؤية السياسة ، وأيضاً درجة من الظروف عبر رصد موارد مالية وبشرية وازنة و تبسيط آليات صنع القرار العام في مجالات الأولوية كالتعليم والصحة والنقل والتخطيط العمراني و التجهيز و التي لم تبدأ بعد و لا نعلم الأسباب حقيقة.
تنص مجلة الجماعات المحلية على وجوب نقل الصلاحيات فقط إذن كانت للبلديات وسائل مالية كافية لممارستها ، ويجب تحديد شروط النقل "بموجب أمر حكومي " ، و بسبب العجز الدائم في الميزانية العمومية، قد يحاول مسؤولي الإدارة المركزية تفريغ بعضا من أدوارهم عن طريق نقلها إلى مسؤولي البلديات "مثل القنابل الموقوتة ". و قد يرفض هؤلاء ممارستها و لهم كل الحق ، بالنظر إلى افتقارهم إلى الوسائل المالية و البشرية.
أستحضر هنا تقريرا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي PNUD جاء فيه "من دون تمكين مالي مناسب، لايمكن تجسيد استقلالية الحكم المحلي و الجهوي. وحينها لن تتحقق الإمكانات الكاملة للامركزية.
قد يتناسى البعض أن 86 بلدية جديدة (من أصل 350 بلدية) تدير مصالح 18 في المئة من التونسيين ،و كانت قد استُحدثت خلال بداية تطبيق مسار اللامركزية و يصح قول البعض فيها أنها لا تزال «حبراً على ورق» بالإضافة إلى أن بعض هذه البلديات توسعت ترابيا ، وبالتالي لا تملك أصلاً العدد الكافي من الموظفين الفاعلين تماهيا مع ضعف الوظيفة العمومية المحلية (5% ) و تدني نسبة التأطير في الجماعات المحلية التونسية و التي لا تتجاوز حاليا الـ7 % بالإضافة لنقص المقرات والموارد بالنظر الى وضعية ميزانية الدولة ذلك أن قرابة الـ100 بلدية ليست لها أي موارد مالية تُذكر.
كما تمثل الميزانية المرصودة للجماعات المحلية قرابة 3 % من ميزانية الدولة فيما تبلغ في دولة المغرب مثلا حوالي 15 % اضافة الى ان مساهمة الجماعات المحلية في الناتج القومي الخام لا تتجاوز 1 % مما يطرح إشكالية مساهمة الدولة في تمويلها من جهة وإيجاد مصادر للتمويل الذاتي.
إن الجماعات المحلية وخاصة البلديات بشكلها الحالي لا يمكن لها أن تؤدي الدور المستقبلي الذي ينتظرها و لا حتى الحد الأدنى عبر دورها التقليدي في مجال يرامج النظافة و التهيئة فالكل يعلم حجم المعاناة منذ عقود من ظاهرة البناء العشوائي، الا ان آفة المساكن الفوضوية زادت حدة وشراسة منذ 2011 و تشير دراسة لوزارة التجهيز أن 37% من البنايات في تونس فوضوية وغير مرخص لها خصوصاً مع بناء آلاف المساكن على الأراضي الزراعية، وعلى حساب المناطق الخضراء إذ تفاقمت ظاهرة البناء الفوضوي سواء كان ذلك داخل الأنسجة العمرانية القائمة أو بالأراضي الفلاحية المحيطة بها أو بمداخل المدن والتجمعات السكنية بل وصل الأمر بالبعض الى تعمد البناء داخل الملك العمومي للطرقات والملك العمومي البحري وبمناطق الارتفاق المتعلقة بهما وكذلك بالمناطق الأثرية.
لقد أضرّت الفوضوية المستمرة بالجمالية العمرانية لبعض الأحياء السكنية وبالسلامة المرورية على بعض الطرقات المهيكلة خصوصا في غياب العمل المشترك و التنسيق مع أعوان الشرطة البلدية التي ألحقت منذ سنة 2012 بمصالح الأمن العمومي لوزارة الداخلية دون خضوعهم إلى إشراف رؤساء الجماعات المحليّة تاركة فارغا كبيرا في الموارد البشرية اللاّزمة للبلديات لمعاينة المخالفات مما أثّر سلبا على العمل البلدي فأفقدت البلدية سلطة الضبط العدلي حتى أنّ رئيس البلدية لا يمكنه تحرير مخالفة عاينها بنفسه والتدخل لفرض النظام وتطبيق القانون لغياب التنسيق بين مختلف المصالح المتداخلة في مجال التهيئة الترابية والتعمير و خصوصا في ظل غياب إرادة سياسية و فراغ تشريعي لا يواكب المستجدات بالخضوع لأحكام مجلة التهيئة الترابية والتعمير الصادرة سنة 1994 و عدم تحيين أغلب أمثلة التهيئة العمرانية في جل البلديات التونسية .
إن التحدي الأكبر لإنجاح برنامج الدولة التونسية لإنفاذ اللامركزية هو الاشتغال على إصدار عشرات النصوص التطبيقية والترتيبية المعطلة و نقل السلطة بفعالية وإنصاف، وتطوير الوسائل الفعّالة والعادلة لنقل الموارد المالية مع اعتماد المبدأ القائم على ضرورة مصاحبة أي نقل للاختصاصات إلى البلديات و الجهات بالموارد الملائمة .
لابد اليوم من ضمان وجود وظيفة عمومية محلية و كفاءات على المستوى المحلي و العمل على رفع مستوى التدريب ودعم قدرات المسؤولين المحليين، وتحفيز الموظفين العموميين من ذوي الخبرات و الإختصاص على العمل في المناطق الداخلية .
يبقى المشروع الأساسي المرحلة القادمة الواجب التسريع بتنزيله إعادة تنظيم وضبط مشمولات ومهام الإدارات اللامحورية ( الإدارات الجهوية، الولاية في دورها اللامحوري، دور الوالي في انتظار تركيز الجهات والأقاليم) و البدء باستصدار النصوص المتعلقة بالصلاحيات المشتركة بين السلطة المركزية والسلطة المحلّية و مزيد توضيحها وتمييز العلاقات بينها مع ضبط الأدوار المشتركة بين الجماعة المحلّية وبقية الوزارات.
نعم ليست حلا سحريا و هي رحلة الألف ميل و مسار تدريجي يمتد على عدة سنوات ويتطلب توفر عوامل وشروط عديدة و لكن دون إرادة سياسية مشجعة لا يمكن أن نحقق ما حلمت به أجيال و نسقط في فخاخ متعددة كالتالي نراها اليوم و تستجيب لقول بعض الباحثين في المجال " غالباً ما تُطبّق خطوات اللامركزية كمجرّد تمثيلية مسرحية لاسترضاء المانحين الدوليين والمنظمات غير الحكومية، أو للتأثير على القواعد الشعبية المحلية ".
المراجع:
1- Feruglio and Anderson, “Fiscal Decentralization: An Overview.”
2- Arun Agrawal and Jesse Ribot, “Accountability in Decentralization: A FrameworkWith South Asian and West African Cases,” Journal of Developing Areas 33, no. 4(Summer 1999) : 473–502.
3- Néji Baccouche, “Decentralization in Tunisia: Challenges and Prospects,” in Federalism: A Success Story?, ed. Hanns Buhler, Susanne Luther, and Volker L. Plan (Munich: Hanns Seidle Stiftung, 2016).
4- سارة يركيس ومروان المعشّر، " اللامركزية في تونس: تعزيز المناطق، وتمكين الشعب "، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، 11 حزيران/يونيو 2018 ، https://carnegie-mec.org/2017/11/10/ar-pub-74696
5- جنان الإمام : حتى تكون اللامركزية قارب نجاة بالنسبة لتونس 2019-04-16
- اكتب تعليق
- تعليق