أخبار - 2019.11.01

»الصّمت في النّصوص المقدّسة« للدكتور الأسعد العياري

»الصّمت في النّصوص المقدّسة« للدكتور الأسعد العياري

يصدر عن دار الأمينة للنشر والتوزيع بالقيروان كتاب «الصّمت في النّصوص المقدّسة» للإعلامي والباحث الجامعي الدكتور الأسعد العياري، وقد جاء هذا الكتاب في طبعة أنيقة يحتوي على ثلاثمائة وعشرين صفحة تكشف صورة الغلاف عن فداحة فعل الصمت ورمزيته داخل نصوص مقدّسة يفترض أن تكون ناطقة ومتكلّمة وأكثر وضوحا واستحضارا للكلمة باعتبارها مادة لغويّة لسانيّة تشرّع لعلاقة جامعة بين عالم الشهادة وعالم الغيب وهي رسائل الله من عالم السماء إلى عالم الأرض، وتختزل مغامرة الوجود الإنساني في أبعاده الرمزيّة والتاريخيّة. فالنّص القرآني يستهلّ وحيه الإلهي بفعل «اقرأ» والقراءة هي وجه الكتابة الثاني، وقد تأسّس الإسلام على ما أوحى به إله المسلمين من كلامه إلى نبيّه محمّد، تقول سورة المزّمل»إنّا سنُلْقي عَليْكَ قوْلا ثَقيلا» (5:73)، فالكلام ربّاني بلغة بشريّة هي لسان النبيّ محمّد. أمّا الإنجيلي يوحنّا فيفتتح إنجيله بعقد علاقة تبادليّة بين إله المسيح والكلمة، فالله هو الكلمة التي ألقاها الأب في فم ابنه وبالكلمة عبّر المسيح عن مشيئته بكلام بشري والكلمة منه وفيه» في البَدْء كانَ الكلمةُ والكلمةُ كان لدى الله والكلمة هي الله»( يوحنّا 1/1). وأمّا في اليهوديّة فإنّ «يهوه» إله العبرانيين  تجلّى من خلال كلمته التي أعلنها على لسان أنبيائه، يقول سفر إرميا:» ثمّ مدّ يده ولمس فمي وقال لي الربّ ها أنا ذا قد جعلت كلامي  في فمك» (1/9-10) .جميع هذه النّصوص إذن تستمدّ هويّتها من الكلمة وهي نصوص متفكّرة في انسياقها من كونها تنبثق من الكلمة. فما الذي يجوّز لنا البحث في الصّمت في النّصوص المقدّسة؟ وما هي المبرّرات التي تشرّع لنا استنطاق الصّمت المبثوث في متون هذه النصوص ومضامينها ومرويّاتها.

إنّ الإشكاليات الكبرى لهذا الكتاب تتحدّد في مفهومي الصّمت والنصّ المقدّس. فللصّمت في المباحث العربيّة تعدّد دلالي ومعنوي يشمل أحوال الإنسان والمكان، (إنسان صامت ومكان مليء بالصّمت والسكون يغيب فيه الإيقاع والحركة).أمّا في المباحث الأعجميّة فكلمة silence ينحصر معناها في اتّصالها بالسكوت والامتناع عن الكلام على نحو ما أنجزه الباحث الفرنسي (Van Dan Haveul) من تأليف درس فيه ظاهرة الصّمت بين غياب اللّغة وحضور المعنى الضمني والخفيّ في كتابه، «Parole, mot, silence pour une poétique de l’énonciation «أمّا المفهوم الإشكالي الثاني فهو مفهوم النصّ المقدّس الذي هو في ظاهره كلام غيبيّ وفي باطنه مجازات لغويّة موجّهة للحديث عن الوضع البشري ومستويات وجوده على حدّ تعبير محمد أركون  في كتابه «تاريخيّة الفكر الاسلامي»، ولعلّ مدارس علم الاجتماع وخاصة مع إيميل دوركهايم  Emile Durkheim قد مثّلت محاولات جادّة وجريئة في كتابه  «les formes élémentaires de la vie religieuse»  للتعبيرعن التداخل بين ما هو مقدّس غيبي وما هو دنيوي أرضي. وقضيّة الصّمت في النّصوص المقدّسة لم تحظ بما تستحقّ من الاهتمام في المباحث القديمة وفي الدّراسات الحديثة والمعاصرة رغم أهميّة هذا الموضوع  في الدراسات ذات التوجّه الاجتماعي الأنثروبولوجي المنتميّة إلى عالم الأديان. هذا طبعا إلى جانب طرافة البحث في مفهوم الصّمت في نصوص مقدّسة لم تعد حكرا على فلسفة علم الأديان وتاريخها وإنّما أضحت هذه النصوص مادّة للمقاربات البنيويّة والتداوليّة والتأويليّة وكذلك أيضا مقاربات علم النفس التحليلي الفردي مع سيغموند فرويد وعلم النفس التحليلي الجمعي مع كارل قوستاف يونغ بمنطلقات مختلفة ومداخل عديدة تكشف عن وظيفة هذه النّصوص في التعبير عن أشكال المغامرة الوجوديّة التي يخوضها الإنسان ويؤسّس بها وعيه بذاته ووعيه بالعالم باعتبار أنّ المقدّس هو بعد من الأبعاد العديدة التي تؤسّس ماهية الإنسان. وهذا الكتاب ينقسم إلى ثلاثة أبواب كبرى متقاربة من جهة الحجم ومتباعدة من جهة رغبة الكاتب في توسيع دائرة البحث والتعمّق في جوهر مشروع المقاربة التحليليّة.

الباب الأوّل وعنوانه المفهوم والحضور والبنية،حدّد فيه الكاتب تعريفات الصّمت وحدوده البلاغيّة والبيانيّة في الدراسات الأدبيّة لأنّه مفهوم لا ينتمي إلى المباحث الحضاريّة الدينيّة. ووقف على الفوارق بين الصّمت والسكوت وعلى الخصائص الجامعة والمانعة بين المفهوميّن والدواعي التي تدفع إلى الامتناع عن الكلام ومنها دواع إراديّة مرتبطة باختيارات ذاتيّة وأخرى غير إراديّة وهي إلزاميّة تدخل في إطار الأمر الإلهي الملزم للإنسان، وهو   ما مكّن الكاتب من دراسة بنية المسكوت عنه في دائرة المنطوق به من خلال السعي بين الصّمت والكلمة في نصوص الكتاب المقدّس والقرآن ، وهو ما ساعد على تحديد مصدر هذه النصوص هل هي كلام إلهي في لغة غيبيّة؟ أم هي كلام إلهي في معانيه وبشري في لغته؟ وإنّ مثل هذه الأسئلة قد حفّزت الكاتب لمعرفة الضمائر المتكلّمة في هذه النّصوص وهم المتكلّمون مع الله.

أمّا الباب الثاني من هذا الكتاب وعنوانه، نماذج من صمت النّصوص المقدّسة، فتخيّر الكاتب أن يكون بابا تطبيقيّا حدّد فيه مواطن السكوت لأنبياء اختاروا الصّمت بدل الكلام(النبيّ زكريّاء) ومواطن صمت هذه النصوص عن الذّكر والتصريح (قصص/أحداث/أسماء). ودقّق النظر إثر ذلك في الفوارق بين الديانات الكتابيّة الثلاث اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة. وقد مكنّت هذه التباعدات الجوهريّة الدينيّة من الحديث عن الرّوافد والجذور التاريخيّة لهذه الأديان التوحيديّة وهي المضامين الأسطوريّة والمرويات القديمة التي هاجرت من وطن النّشأة ونعني بها الديانات الهندوسيّة البوذية والفارسيّة والصينية القديمة لتستقرّ في وطن النصّ المقدّس وهي الاقتباسات التي منها استلهم النصّ المقدّس البعض من مرويّاته ليبني بها قصصا للخلق وبدايات التكوين وليؤسّس بها طقوسا وعبادات استحالت فيما بعد مرتكزات للعقيدة وتشريعاتها الدينيّة على الرّغم من الفراغات النصّية التي تجلّت عالقة بهذه النصوص في حديثها عن التصوّرات الأخرويّة ومصير الأجساد والأرواح بعد الموت وهو ما يدفع القارئ إلى تأويــل مقاصد هذه النصــوص المقدّسة من التكتّم عـن التصــــريح.

أمّا الباب الثالث والأخير من هذا الكتاب فخصّصه الباحث لقراءة المحمولات الرمزيّة للصّمت، وتناول فيه بالدراسة والتحليل إشكاليّة القراءة والتأويل للنصوص المقدّسة وما يطرحه الصّمت من دوافع لاستحضار المتلقّي وتشريكه في إنتاج المعنى المحذوف واستنطاقه ضمن إشكاليّة المتخيّل والرمزي لسدّ فراغات النصّ وتفصيل ما أبهم من هذه النّصوص المقدّسة حتّى لكأنّ الصّمت محنة تسلب المتكلّم حقّه في الكلام وتكشف عن أثر غياب الكلام وموت العلامة اللسانيّة في ضبط مقاصد الشريعة واستخلاص الأحكام الشرعيّة لبعض المسائل التي صمتت نصوص التوراة والإنجيل والقرآن عن التصريح بالحكم في شأنها. فهل ينتفي المقدّس كلّما حضر الصمت أم أنّ المقدّس يمكن أن يتكلّم في صمته؟

وفي خاتمة هذا الكتاب تعرّض الباحث إلى الحديث عن بدائل اللّغة ونعني بذلك حركات البدن وإشارات الحواسّ التي استعاضت بها نصوص الكتاب المقدّس والقرآن عن اللّغة وعن الكلمة والنّطق في تصريف المعنى وإنتاجه.

ولم يكن طرح الكاتب لموضوع الصّمت في النّصوص المقدّسة طرحا وصفيّا انطباعيّا وإنّما كان مقاربة علميّة بأدوات تحليل منهجيّ وعلميّ يتوسّل بآليات المناهج الحديثة كالمنهج السيمولوجي في تقاطعه مع المنهج البنيوي في مستوى تفكيك التصوّرات المعرفيّة للنصّ في بنيته السطحيّة والعميقة ونظام العلاقات القائمة داخل النصّ حيث استفاد الكاتب من منجزات مباحث علم الاجتماع  والدراسات الانثروبولوجيّة في ردّ الظاهرة الدينيّة إلى أصول اجتماعيّة بشريّة واستعان بمباحث ميرلوبونتي في انفتاح النصّ على الذّات، ومنجزات مباحث علم النفس التحليلي الفردي والجمعي في دراستها للمقدّس ومنجزات المقاربات السيميائية في دراسة الأساطير وفي دراسة أنساق الدلالات غير اللسانيّة في خطابات النّصوص الدينيّة، بالإضافة إلى الاستفادة من منجزات المقاربات التأويليّة في تأويل الفجوات السرديّة داخل النّصوص المقدّسة أثناء الحديث عن سلطة المتلقّي في إنتاج المعنى .وعلى العموم ساعدت جميع هذه المقاربات والمناهج الحديثة على تطوير مشروع هذا الكتاب وتوسيع آفاقه شكلا ومضمونا.

وقد راهن هذا الكتاب على تعميق الوعي بهذه النوعيّة من النّصوص الدينيّة وهي النّصوص المقدّسة لإرساء رؤية علميّة حداثيّة خالية من خلفيات التقديس والتمجيد ومن نوايا التهميش والتهجين لتجاوز الصورة النمطيّة التي استقرّ عليها مفهوم الصّمت ورسمتها الدراسات التداوليّة في كونه علامة بلاغيّة  تنهض بوظيفة جماليّة في بنية النصّ ومعناه، وإنّما الصّمت كما الكلمة عملان لغويان موظّفان للتعبيّر. ومن رهانات هذا الكتاب أيضا حثّ الفكر الإنساني على التفكير في المسكوت عنه في الكلام الإلهي إذ لم تعد الكلمة وحدها على رأي الدراسات اللسانيّة هي المرجع الوحيد في تأصيل المعنى أدبيّا كان أو دينيّا وإنّما المعنى هو نتاج تفاعل بين منشئ النصّ وقارئه وحينئـذ لا يمكن فهم المسكوت عنه بمعزل عن فهم المنطوق به. وهو ما انتهى إليه صاحب الكتاب من أنّ الصّمت ليس غيابا كليّا للغّة ولا قطعا نهائيّا مع النّطق والكلام وإنّما هو سياسة في إخراج القول وصياغته بشكل مخصوص، وهو استراتيجيّة في إنتاج المعنى وفي تشكيل بنيّة النصّ، وإنّ من ينشئ النصّ يعمد لحظة الإنشاء إلى ممارسة ضربين من الصمت، أحدها يتعلّق بصمت واقع في مستوى الخطاب ومن نتائجه الحذف والإيجاز والاختصار والثاني هو صمت واقع في مستوى القول والتلفّظ ويتجلّى في امتناع المتكلّم عن النّطق وانقطاعه عن الكلام، وهذان الصنفان من الصّمت يحضران في صفحات الكتاب المقدّس والقرآن .كما بيّنت لنا أبواب هذا الكتاب وفصوله أنّ مفهوم الصّمت مثّل في الديانات الإبراهيميّة الكتابيّة همزة وصل بين عالم الغيب وعالم الشهادة فلم تعد الكلمة وحدها هي العهد والميثاق الجامع بين السماويّ والأرضيّ وإنّما ينضاف إليها فعل الصّمت ركنا أساسيّا من أركان العلاقة بين المطلق والنسبيّ، فطالعتنا عائلة مريم العذراء في الديانة المسيحيّة وهي تعيش ضروبا من الصّمت ومن هذا الصّمت تستوحى الخوارق ويؤتى بالمعجزات.. نذكر منها الصّمت في حياة مريم العذراء وفي علاقتها بيوسف النجّار وفي بشارة المسيح، وهو ما تناقلته نصوص القرآن في حديثها عن صمت المسيح وأمّه مريم العذراء. كما أنّ الانقطاع عن الكلام في الديانات السماويّة له بعد روحانيّ نفسيّ، فاليهوديّ يركن إلى الصّمت ليتمكنّ من الإصغاء إلى الكلمة الربّانيّة الصادرة عن الإله يهوه، ويسوع المسيح يختار الصّمت موقفا من بعض الأحوال والأحداث، والنبيّ محمّد يختار العزلة الصامتة لتقبّل الوحي الإلهي في بدايات الدعوة المحمديّة.  والصّمت أيضا هو علامة غضب يعتري إله بني إسرائيل حيث يصمت عقابا لشعبه وهو ما دفع النبّي إشعياء إلى التضرّع حتى يكفّ الإله عن صمته ويعود لمواصلة التواصل مع أنبيائه، ولعلّه نفس الصّمت الذي عاشه نبيّ الإسلام محمّد حين فتر الوحي الإلهي وغابت عنه بوادر الرسالة السماويّة.ومن النتائج الأخرى التي خلص إليها الباحث في كتابه هذا، هو أنّ المسكوت عنه في النصوص المقدّسة كان انقطاعا للكلام مثلما كان امتناعا عن القول والذّكر والتصريح، إذ نلاحظ في قصّة الخلق وبدايات التكوين وكذلك أيضا في الحديث عن التصوّرات الأخرويّة للديانات الكتابيّة أنّ النّصوص المقدّسة تصمت عن إيراد ذكر بعض أسماء الفواعل الفاعلة في الأحداث كما تصمت عن ذكر تفاصيل بعض الوقائع والمشاهد، وتصمت أيضا عن التصريح بالرّوافد التي استقت منها بعض القصص والمضامين الدينيّة. وآخر نتيجة يمكن ذكرها في خاتمة عرضنا للنتائج والاستنتاجات التي وصل إليها هذا الكتاب هو أنّ مقولة الصّمت يمكن أن تكون مرتكزا في تأويل نصوص الكتاب المقدّس القران بما أنّ مبحث الهيرمونيطيقا لا يكتفي بظاهر النصّ بل يتوجّه إلى باطن النصّ والخفايا المضمرة في داخله كما أنّ تجليّات الصّمت في سيميائية القول يستبطن مضامين مسكوتا عنها تدفع بالقارئ أن يحثّ التفكير إلى تأويل ما تكتّم النصّ عن ذكره وتأويل ما سكت منشئ النصّ عن التصريح به وهــو ما يمنح المتلقّي إمكانات غير متناهيّة من التّخييل ومن توسيع آفاق المتخيّل وحدوده. «ولأنّ معرفة الله لا تكتمل بفهم كلامه بل بفهم صمته أيضا فإنّ جميع الأديان تلتقي في محيط الصّمت، ويظلّ الصّمت وحده هو أعظم الأشياء أمّا ما سواه فوهن» حسب عبارة الشاعر الفرنسي الفريد دوفينيي.».

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.