الجنـرال حــســين: مـن مملوك صغير إلى رجـل دولـة كبير
يعتبر الجنرال حسين أنموذجا أمثل لصغار المماليك الذّين نالوا تعليما متينا وتكوينا عسكريّا وعلميّا عاليا فأظهروا من النّجابة والنّبوغ وأُوتوا من رجاحة العقل والميل إلى الإصلاح ما مكّنهم من لعب دور بارز في الحركة الإصلاحيّة التّي عرفتها تونس في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر.
لا يُعرف تاريخ ميلاد الجنرال حسين على وجه الدقّة ، ولكن يبدو من خلال مراحل سيرته أنّه وُلد في عشرينات القرن التّاسع عشر أو قبل ذلك بقليل في قرية نائية من قرى بلاد الشّركس شرقيّ تركيا، وأنّه عاش حياة أهل تلك القرى الجبليّة، وهي حياة شاقّة غليظة محفوفة بالمخاطر. ولعلّ تلك المعيشة الصّعبة منحته طبائع فطريّة في مواجهة المشاقّ والمثابرة على مغالبتها وأكسبته قدرا وافرا من المهارة والذّكاء في التّعاطي معها.
اختطفه بعض المجهولين، وهو صبيّ، وفرّوا به إلى المنطقة الغربيّة من تركيا، وفي العاصمة إسطمبول تمّ بيعه إلى مبعوث باي تونس، فجيئ به إلى الحاضرة وأُلحق بجماعة المدرّسين المكلّفين بتربية صغار المماليك. فتحمّس لطلب العلم وأقبل عليه بشغف وأبدى تفوّقا وألمعيّة.
وصادف ختمه ذلك السّلك من التّعليم تأسيس المدرسة الحربيّة بباردو سنة 1840، فالتحق بها بتوصية من مدرّسيه الأوائل الذّين كانوا قد لاحظوا ما يتحلّى به من خصال ومناقب. وتلقّى بالمدرسة الحربيّة حديثة العهد تكوينا في مجال المعلومات العسكريّة النّظريّة والتّطبيقيّة وفي الآداب والعلوم الدّينيّة واللّغات الأجنبيّة فأقبل على التّحصيل مرّة أخرى إقبال الطّالب الشّغوف المتلهّف للمعرفة.
ولم يكن مروره بتلك المدرسة مجرّد مرحلة للتّكوين والتّعلّم فحسب، وإنّما كان منطلق نسج علاقات وطيدة بأبرز النّخب التّونسيّة آنذاك من مدرّسين وتلاميذ، فتوثّقت صلته خاصّة بأستاذ اللّغة العربيّة وآدابها محمود قابادو، وله في الجنرال حسين عديد شهادات الإعجاب والانبهار، وبزميله في المدرسة الحربيّة خير الدّين التّونسيّ الذّي سيجد فيه بعدئذ سندا في حركته الإصلاحيّة وسيُرافقه إلى آخر مسيرته.
تخرّج الجنرال حسين من المدرسة الحربيّة بباردو محرزا المرتبة الأولى ومزوّدا بثقافة واسعة ومؤهّلات عالية وبسمعة حسنة بما سيتيح له تبوّأ منزلة رفيعة ضمن النّخب الإصلاحيّة في عصره.
ولئن اكتفى في أواخر عهد المشير أحمد باي الأوّل (1837 - 1855) وطوال عهد المشير محمّد باي (1855 – 1859) بالارتقاء في المناصب العسكريّة والمدنيّة والنّجاح في ما يُعهد إليه به من مهامّ فإنّ نشاطه الكثيف صلب مؤسّسات الدّولة الحسينيّة وجهوده الإصلاحيّة الواضحة ستظهر على نحو بارز في عهد المشير محمّد الصّادق باي (1859 - 1882). إذ تمّت ترقيته سنة 1859 إلى رتبة أميرالاي وتشريكه في جميع المبادرات التّي يقوم بها القصر وذلك اعتبارا لثقافته الواسعة وحذقه اللّغات الأجنبيّة وما عُرف عنه من استقامة ونزاهة وجديّة.
وعلى هذا النّحو كُلّف صحبة الجنرال خير الدّين بالسّفر إلى إسطمبول في نوفمبر 1859 لإعلام الباب العالي بالتّغيير الحاصل على رأس الدّولة الحسينيّة حسب ما جرت به العادة وتقديم «هديّة الباي» إلى السّلطان العثماني والحصول على مصادقة الباب العالي على ولاية الأمير الجديد واقتراح ترقيته إلى رتبة مشير، وقد تحصّل في هذه الزّيارة على الصّنف الثّاني من الوسام المجيدي.
كما عُيّن بعد أقلّ من سنة لمرافقة الصّادق باي في رحلته إلى الجزائر (سبتمبر 1860) لملاقاة الامبراطور الفرنسيّ نابليون الثّالث وذلك بفضل خصاله الدّيبلوماسيّة واطّلاعه على العادات الغربيّة، وقد عُهد إليه خلال هذه الزّيارة بالمراسم وتنظيم حفلات الاستقبال الرّسميّة والتّرجمة وإعداد المحادثات الثّنائيّة وفقرات الزّيارة. ونظرا لما أبداه في القيام بهذه المهمّة من كفاءة واضحة منحه نابليون الصّنف الثّالث من وسام الشّرف.
وقد كانت هذه المرحلة من مسيرته مرحلة زاخرة بالنّشاط مليئة بالكُلف والمهامّ، فقد أنشأ الباي في جويلية 1860 المطبعة الرّسميّة وبعث صحيفة للأخبار والوقائع سمّيت «الرّائد التّونسيّ» واختار الجنرال حسين للإشراف عليهما والسّهر على حسن انطلاق هذه التّجربة الثّقافيّة الرّائدة. وهكذا اقترن اسمه بحدث من أبرز الأحداث الثّقافيّة والفكريّة في تونس خلال القرن التّاسع عشر. وفي أوت 1860 عُيّن الجنرال حسين عُضوا في المجلس الأكبر المسمّى آنذاك بمجلس شورى الملك، وذلك بعدما تمّت ترقيته إلى رتبة أمير لواء.
وهو مع ذلك يترأّس مجلس الجنايات والأحكام العرفيّة، ويترأّس منذ 1858 المجلس البلدي للحاضرة، وقد احتفظ لنا الأرشيف التّونسيّ بوثيقة نادرة وهي رسالة خطيّة وجّهها الجنرال حسين بوصفه رئيس المجلس البلدي لمدينة تونس إلى الوزير الأكبر مصطفى خزندار حول أهميّة التّجربة البلديّة النّاشئة آنذاك وضرورة دعمها، وقد صوّر في تلك الرّسالة ما نال مدينة تونس من خراب وتهدّم في دورها ومساجدها ومعابدها وما كان يشكوه المجلس من ضعف المداخيل وقلّة عدد العملة، كما صوّر حاجة أهلها إلى التّعلّم واكتساب الصّناعات. وقد تضمّنت هذه الرّسالة تصوّر الجنرال حسين لمقوّمات العمل البلدي ومحاوره الكبرى.
وعندما ترأّس خير الدّين التّونسيّ الوزارة الكبرى (1873 – 1877) تمّ تعيين الجنرال حسين وزيرا للمعارف والنّافعة (أي الأشغال العامّة) فأظهر في الاضطلاع بالمسؤوليّة الجديدة كفاءة ونجاعة بما أهّله للقيام بمهامّه على أكمل الوجوه والمساهمة بقسط وافر في تيّار الإصلاح الذّي قاده خير الدّين، حيث عمل على إصلاح التّعليم الزّيتوني ووضع نواة البرامج التّعليميّة للمدرسة الصّادقيّة التّي شارك في تأسيسها سنة 1875.
وفي أثناء ذلك كُلّف بمتابعة القضّية التّي رفعتها الحكومة التّونسيّة ضدّ القايد «نسيم شمامة» المتّهم باختلاس مبالغ طائلة من المال على حساب الخزينة التّونسيّة، فتحوّل من أجل ذلك إلى مدينة «ليفورنو» ثمّ «فلورنسا» بإيطاليا، وكانت القضيّة قد تشعّبت وتمطّطت دون التّوصّل في شأنها إلى حلّ يُنصف الدّولة التّونسيّة، وصادف ذلك سقوط وزارة خير الدّين وصعود مصطفى بن اسماعيل المعروف بالخيانة والاحتيال إلى منصب وزير أكبر فقرّر الجنرال حسين الاستقرار بإيطاليا صحبة الشّيخ سالم بوحاجب الذّي التحق به هناك في شأن قضيّة نسيم شمامة.
ولمّا تخفّف من أعباء المسؤوليّات السّياسيّة والإداريّة انصرف أواخر حياته إلى التّجوال والرّحلات فزار تركيا وإنجلترا وفرنسا التّي أقام بها مدّة وزار معرضها الدّوليّ سنة 1878 وارتاد مكتباتها واتّصل بمثقّفيها. ثمّ عاد إلى إيطاليا فأقام بروما ثمّ بفلورنسا وهناك أدركته المنيّة سنة 1887، وكان خير الدّين آنذلك الصّدر الأعظم ثمّ رئيس المجلس الأعلى للعرش في الخلافة العثمانيّة فأشار بنقل جثمان الجنرال حسين إلى اسطمبول حيث سيدفن هناك بجوار ضريح السّلطان أحمد. فكانت نهاية مملوك جاء إلى تونس صبيّا وتعلّم فيها ونشأ شابّا لامعا، وخدم دولتها مصلحا متنوّرا، وغادرها دفاعا عن مصالحها.
الحبيب الدريدي
- اكتب تعليق
- تعليق