عبد الحفيظ الهرڤام: الدولة القويّة العادلة قضيّة مصير
ليس أشقّ على النفس في هذه الأيّام من الانخراط في لعبة التكّهنات بشأن تشكيل الحكومة من عدمه على إثر الانتخابات التشريعية التي أفرزت مشهدا برلمانيا مشتّتا يصعب معه حصول أيّة كتلة على الأغلبية المطلوبة دون تنازلات لا فكاك منها.
وقد يراد من خلال التصريحات الصحفية لهذا الطرف أو ذاك، المعلِنة في ظاهرها عن مواقف مبدئية لا تتزحزح إسدال حجب سميكة على ما يُعقد في الكواليس والغرف المغلقة من تفاهمات لهندسة منظومة الحكم في قادم الأيّام بعد أن اكتمل المسار الانتخابي بإجراء الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية.
ومهما يكن من أمر الحكومة إن كُتب لها أن تتشكَّل أو البرنامج الذي ستّتخذه قاعدة لعملها فإنّ ما يبدو لنا مُلحّا طرحه الآن على بساط التفكير مكانة الدولة ومستقبلها في ظلّ تشرذم غير مسبوق داخل العائلات السياسية بمختلف مشاربها وانقسامات حادّة صلب المجتمع التونسي قد أبانتها الانتخابات الأخيرة.
ومن دواعي الخوض في هذا المسألة ما آلت إليه حالة الدولة من هشاشة منذ 2011 جرّاء عوامل عدّة من بينها ضمور الحسّ المواطني وقصور السلطة في تطبيق القانون على الجميع في بيئة انتشر فيها الفساد والتهريب والجريمة والتطرّف وعشّش فيها الإرهـــاب الذي ما فتئ يشكّل خطرا جسيما على أمن البلاد واستقرارها، رغم اليقظة المستمرّة للمنظومتين الأمنية والعسكرية وارتفاع أدائهما في محاربته، إضافة إلى عجز الحكومات المتعاقبة عن إنجاز خطط ناجعة لإخراج البلاد من نفق أزمتها المالية والاقتصادية المستحكمــة ومعـــــالجة ما نجم عنها من شروخ اجتماعية متفاقمة لا تزيد إلا في تعميق الهوّة بين الدولة والمجتمع.
إنّ ما تفاخر به تونس بين الأمم هو تأصّل تقاليد الدولة في ربوعها منذ عهد جمهورية قرطاج، أهمّ منابع الديمقراطية في العالم القديم ومصدر واحد من أعرق الدساتير المكتوبة في التاريخ. وقد شهدت البلاد لا سيّما منذ القرن الثامن عشر أشكالا من التنظيم السياسي والإداري مثّلت لبنات صلبة لقيام الدولة الوطنية الحديثة بعد الاستقلال.
وإن صمدت الدولة بعد 14 جانفي 2011 أمام رياح الفوضى العاتية واستمرّت مؤسّساتها ومرافقها في العمل فمردّ ذلك متانة دعائمها وتماسك بنيانها على الرغم من كلّ ما يعاب على منظومة الحكم السابقة. ولعلّ العبرة التي نستخلصها ممّا حدث أنّه قد تندلع ثورة أو انتفاضة أو أزمة سياسية وينهار النظام برمّته ويقصى الحكاّم من السلطة وتندثر الأحزاب ويتغيّر نظام الحكم ويُستبدل منوال التنمية لكنّ الدولة تظلّ قائمة لا تزول متى كانـــت منيعة مهابة. غيـــــر أنّ ما أصاب الدولة منذ ذلك الحين من وهن لم تتعاف منه بعد يحمل على التأمّل في أقوم المسالك لتقوية صرحها وحمايتها من مخاطر التصدّع والتفكّك، فذلك في تقديرنا من أوكد الأولويات في الوقت الذي تقدم فيه البلاد على مرحلة جديدة من مسار انتقالها الديمقراطي، من خلال جهد يومي مشترك فالدولة ، كما يقول الكسيس دي توكفيل تتأسّس «باطراد كلّ يوم بجــانب كلّ فرد وحوله وفوقه لتساعده وتنصحه وتضغط عليه».
ومن أجل ذلك فالدولة ، من حيث هي مقوّم أساسي من مقوِّمات الاستقرار والتعايش بين الأفراد وإدارة الاختلاف في نظام ديمقراطي، في حاجة دائما إلى قضاء مستقلّ عادل وناجز، فالعدل هو الذي يصنع الدولة وليس العكس وإلى قدرات اقتصادية ومالية تدفع عجلة النمّو استجابة لتطلّعات الجميع إلى حياة أفضل، وكذلك إلى منظومة أمنية وعسكرية تحمي المؤسّسات والأفراد وتصون السيادة الوطنية. كما أنّ الدولة تحتاج إلى منظومة اجتماعية توفّر الخدمات بالجودة المطلوبة وتضمن الكرامة للأفراد وتحقَّق المساواة بينهم، فضلا عن إدارة عصرية متحرّرة من قيود البيروقراطية ودبلوماسية نشيطة وفاعلة تحمي المصالح الوطنية لأنّ المحكّ الحقيقيّ لصلابة أيّة دولة يكمن في علاقاتها مع الخارج.
وغنيّ عن البيان أنّ ما يحمي الدولة ويؤمّن ديمومتها، علاوة على الدستور، هو مؤسّساتها التي يتعيّن أن يكتمل مسار بنائها بالإسراع بتركيز المحكمة الدستورية بالخصوص وكذلك مكوّنات المجتمع المدني ووسائل الإعلام والاتّصال التي تعدّ سلطات مضادّة تعبّر عن الضمير الوطني وتضغط في سبيل الحيلولة دون وقوع زيغ أو انحراف في إدارة الشأن العامّ.
دولة قويّة عادلة، محكومة بالعقل، تكون فوق الأحزاب والإيديولوجيات وبمنأى عن منطق الحسابات السياسية والفئويّة الضيّقة ذلك ما تحتاجه تونس اليوم. إنّها قضية مصير. ألم يقل بول فاليري: «إذا كانت الدولة قويّة فإنّها تستحقّنا وإذا كانت ضعيفة فإنّنا نندثر»؟ .
عبد الحفيظ الهرڤام
- اكتب تعليق
- تعليق