مختار اللواتي: جمال الحلم ودمامة الواقع
عندما ترى جماهير غفيرة من بنات وأبناء بلدك يغمرهم فرح عارم وترتفع أصواتهم بالأهازيج وهم يلوحون بعلامات النصر، لايمكنك إلا أن تشاركهم الفرحة، سواء كنت تقاسمهم سبب فرحهم، أو فقط لغبطتك وأنت تراهم، أخيرا، فرحين مهللين برغم أن الوضع الإقتصادي المنهار والضغط النفسي العالي الناتج عن انسداد أفق الحل إزاء التراكم المستمر لخيبات الأمل من منظومات الحكم المتعاقبة، ومن استشراء الفساد في مفاصل المجتمع والدولة على حد سواء، فضلا عن التدهور غير المسبوق للمقدرة الشرائية لغالبية المواطنين، والإتساع المفرط لفئة طالبي الشغل دون جدوى والمهمَشين في المجتمع.
غير إن غبطتك سرعان ما تترك مكانها للتأمل المشوب بالخوف من غدٍ قد تفيق فيه على خيبة أمل جديدة، يمكن أن تكون أفدح من سابقاتها. هذا، بالطبع، إن كنت في مثل حالي عسيرَا لإنقياد لمنطق "الغالبيةُ دائما على حق". فتنكدَ على نفسك بتقليب الأمور على كل أوجهها وتبحث عن جميع احتمالاتها وتحاول استشراف مختلف مآلاتها!
وحتى لايستبد بي هاجس الخوف هذا ويسرق مني شعوري بالفرح، لفرح غالبية شعبي على الأقل، قررت أن أوجه نظري إلى النصف الملآن من الكأس، إن كان مازال لم يتبخر هو الآخر. وأشرككم رؤاي عسى أن تزيل هذه الروح الإيجابية ما طبق على صدورنا من غم وكدر طيلة السباق الإنتخابي، الرئاسي منه والتشريعي، مع الطمع في كرمكم وسعة صدوركم كي تتحملوا قراءة مابقي من أسطر في هذه الورقة، وأجركم على الله!
مادام النظام السياسي المعتمَد في تونس نظاما برلمانيا طبقا للدستور، حتى وإن سهَلوا تسويقه بكلمة "معدَل" التي هي في الواقع، وعلى عكس ذلك، أدخلت عليه بعض التعقيد ولم تُفلح في تذويب غرابته لدى الشعب التونسي، فإن مجمل أو غالبية الصلاحيات، على المستويات التنفيذية والتشريعية والرقابية، هي متقاسَمة بين الحكومة والبرلمان. و لا يبقى منها للرئيس إلا النزر اليسير. ومادام الحال كذلك، فقد كان من المفروض أن تحظى الانتخابات التشريعية بالنسبة الأعلى من إقبال الناخبين على صندوق الإقتراع، في المحطات الانتخابية الثلاث، منذ الخامس عشر من سبتمبر وحتى الثالث عشر من أكتوبر. ولكن عكس ذلك هو ماحصل!
لقد ارتفع حجم كتلة المُدْلين بأصواتهم في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، على غير ماجرى في دورها الأول، بشكل قياسي لم يسبق تسجيله من قبل، حيث قارب 60 بالمائة وفق التقديرات الأولية. 72,71 بالمائة منهم، وفق النتائج الأولية الرسمية التي قدمتها الهيئة المستقلة العليا للإنتخابات،إختاروا المرشح قيس سعيد. ولم أكن من بينهم. كما لم أكن من بين من صوتوا لمنافسه نبيل القروي. فقط وضعت ورقة بيضاء، بسبب عدم اقتناعي بالإثنين معا، وتعبيرا على الإحتجاج إزاء الوضع الذي حُشر فيه الناخبون نتيجة تدهور الحياة السياسية بكل المقاييس. وتلك قضية أخرى تستحق التحليل. المهم، ورغما عن أنفي وأنف موقفي وتحليلي، فاز قيس سعيد بأصوات ما يقارب مليونين و770 ألف ناخب وناخبة، نسبة الشباب منهم قُدِرت بنحو90 بالمائة. وهي أيضا نسبة قياسية لم يسبق تسجيلها من قبل. هذا، بينما الانتخابات التشريعية التي جرت في السادس من أكتوبرلم تشهد سوى إقبال نسبة 40,6 بالمائة من الناخبين المسجلين عليها، توزعت أصواتهم على أكثر من 1500 قائمة متنافسة. وقد كان نصيب حركة النهضة الفائزة بالمرتبة الأولى فيها 52 مقعدا من جملة 217 مقعداهي كامل عدد مقاعد المجلس النيابي، بتراجع عن نتائج انتخابات 2014 التشريعية ب17 مقعدا.الأمر الذي لا يمنحها رفاهية تشكيل حكومة خارج دائرة التحالفات وحتى داخلها، حيث ستكون مجبرة على كثير من التنازلات لعل أهمها وجوب إسناد رئاسة الحكومة لأحد أعضائها حتى تتحمل هي مسؤولية النجاح أو الفشل، مثلما ألح على ذلك الناطق الرسمي باسم "إئتلاف الكرامة"، سيف الدين مخلوف الذي قد يكون هو الآخر خطط مع إئتلافهأن يتفادى الظهور في الواجهة ويلعب لعبة حركة النهضة التي برعت فيها طيلة السنوات الثمانية الماضية. فكانت الفاعل الأخطر في مختلف المراحل دون أن تظهر في الواجهة. خاصة وأن مرد قدر كبير من التخوفات من المستقبل مرده دخول هذا الإتلاف إلى مجلس النواب وبالصندوق.وهوبمختلف تركيباته إنطبعت صورته في الأذهان بالتطرف والحَدية في التعامل مع المنافسين والخصوم والمختلفين معه في الرأي. ويزداد منسوب التوجس والخوف صعودا بإعلان مساندته لقيس سعيد إلى جانب حركة النهضة التي رغم تراجع تمثيلها العددي في المجلس قد تقدمت إلى المرتبة الأولى فيه.
دلالة الإقبال الكثيف على التصويت في الدور الثاني
فهل يمكن اعتبار الإقبال الكثيف على مكاتب الإقتراع والتصويت بتلك النسبة المرتفعة لفائدة قيس سعيد بمثابة استفتاء غير رسمي على النظام السياسي للبلاد حتى يعود رئاسيا بدل النظام البرلماني الحالي، حتى وإن كان معدَلا؟ ثم هل إن الشباب الذي هو صاحب النسبة الأعلى بين من أعطوا أصواتهم لقيس سعيد، قد يكون أدرك مدى الخطر المحدِق بالرئيس المنتخب مباشرة من الشعب بسبب مناورات مرتقبة من حركة النهضة وأجنحتها، فهب بأعداد غفيرة ليسجل أعلى الأرقام في المشاركة في التصويت على غير عادته، ليقول "إننا، والشعب معنا، سنكون الداعمَ الفعلي الحقيقي للرئيس المنتخَب"! وهذا ما لم تقرأ له حسابا حركةُ النهضة، وبالذات رئيسها ومهندس سياساتها، راشد الغنوشي.. حيث كان في الحسبان لما بادرت بإعلان دعمها لقيس سعيد إثر فوزه ببطاقة العبور للدور الثاني التي فشل في الظفر بها مرشحها الأصلي عبد الفتاح مورو، كان في حسبانها أن ستجد أمامها نسخة ثانية من منصف المرزوقي، تحركه لأغراضها كما شاءت عند الحاجة وتركنه في القصر متى لا يكون لها فيه مأرب.. أما الآنفهي إزاء وضع على غاية من الصعوبة والتعقيد، حتى وإن روجت، بعد الإتصال الهاتفي للتهنئة من رئيس الحركة إلى الرئيس المنتخب، بأن هذا الأخير قد أكد لها العمل والتعاون معها !.هذا فيما أكد الرئيس سعيدفي المقابل على استقلاليته وعلى تمسكه بها، وإن كان هناك من يؤكد، إستنتاجا من تصاريح سعيد نفسه، على وجود نقاط التقاء بينه وبين حركة النهضة خصوصا واليمين الديني السياسي عموما، مثل موقفه غير الرافض للإعدام، وموقفه من بعض الحريات، وغيرهما.
صحيح أن الدستور صريح في ضبط صلاحياتِ رئيس الدولة ورئيس الحكومة والبرلمان، وطبيعةِ علاقات مختلف هذه الأطراف ببعضها البعض. غير إن رئيسا منتخَبا مباشرة من الشعب في استحقاق شارك فيه 60 بالمائة من الناخبين المسجَلين، وحاز فيه على أكثر من 72 بالمائة من أصواتهم، غالبهالشباب غدرت بهم منظومات الحكم التي تعاقبت طيلة السنوات الثمانية الماضية، وهم الذين عرضوا صدورهم للرصاص وسقط منهم شهداء في انتفاضة جبارة بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011، ستكون له من فرص الذهاب في طريق الإصلاح الكثير، شريطة أن يكون لخ خط سير عملي واضخ وبرنامج دقيق،وإذا صح منه العزم وأحسن الإستفادة من عناصر القوة التي في حوزته.
كلام عسلي جميل.. أليس كذلك؟ هو كذلك فعلا !!فهل سيكون من اليسير تحقيق هذا الحلم على أرض الواقع المفخَخ بعشرات الألغام؟ وهل يُصدِق أولئك الشباب حركةَ النهضة التي عادت هذه الأيام إلى قاموس الثورة وقد تجمل قياديوها بكثير من عباراته ومصطلحاته، فأصبحوا ينافسون الثوريين خطاباتهم وشعاراتهم من مثل مقاومة الفساد وعدم وضع أيديهم في أيدي الفاسدين، وإيلاء المهمَشين والفقراء والطالبين للشغل الأولوية المطلقة حتى ينعموا بالكرامة التي تجاهلتهم وتجاهلتها منظومات الحكم السابقة.. وكأنها منها براء..؟؟ !! وهل يصدقون إئتلاف الكرامة الذي أصبح الناطق باسمه يركز خطاباته على عصرنة الدولة وأساليب عملها باعتمادها أرقى التكنولوجيات، والنأي عن تقسيم الناس بين متدينين وغير متدينين. "من يصلي هو حر ومن يشرب الخمر هو حر". والمضي قدما في محاربة الفساد.
ستكون الأيام والأشهر القادمة في غاية الصعوبة. هذا إذا تم تخطي عقبة تشكيل الحكومة بنجاح وفي أقصر الأوقات.
فما المطلوب والمنصوح به عله يتم التغلب على كل مطبات الطريق، العادية منها والمصطَنعة؟
من جانب الناخبين وصَفِ المعارضة
إن أولى المهام للشباب الذي اختار قيس سعيد تطلعا لغدٍ آمنٍ في وطن يُستطاب فيه العيش. وكذلك كل الوطنيين المؤمنين بمدنية الدولة وحداثيتها، وبدولة القانون، وبمواصلة الخيار الديمقراطي تحقيقا للعدل والمساواة بين جميع أفراد وفئات وجهات هذا الوطن العزيز، وتنقيةً للمجتمع ومؤسساته، كما مؤسسات الدولة، من الفساد، وإنفاذاً للقانون العادل على الجميع،وإحياءًلقيمة العمل وخلقاً للثروة والعدل في توزيعها. عليهم كلهم، بمن صوت لقيس سعيد ومن لم يصوت له، سواء صوت لمنافسه أم لا،التحلي باليقظة وممارسة حقهم في المعارضة الإيجابية الناضجة المبنية على قوة الحجة والبرهان وتقديم البدائل المقنعة. والتصدي لكل مناورات افتعال معارك جانبية سواء على الهوية أو لهدف التراجع عن مكتسبات حقوق الإنسان عموما والمرأة والطفل خصوصا والمساواة التامة والكاملة بين المواطنات والمواطنين.
من جانب رئيس الدولة
لاخيار للرئيس المنتخب الجديد، إلا أن يثمن هذا الرصيد الذهبي من ثقة غالبية الشعب التي أحرز عليها وذلك بممارسة صلاحياته التي خولها له الدستور، بالكامل وبالإجتهاد اللازم في مفرداتها ومعانيها. وعليه أن يثبت أنه قادر على قيادة برنامج إصلاحي متكامل بما يقترحه من مشاريع واقعية تستجيب لاحتياجات المواطنين في مختلف مناطق عيشهم، وبما يتابعه بالمراجعة والمتابعة من أنشطة الحكومة، وما يعرضه على مجلس النواب من مشاريع قوانين، جديدة أو تحديثية لقوانين قائمة لم تعد متماشية مع تطور المجتمع، وما يفتحه من آفاق بناء وتطوير علاقات متكافئة وتعود بالفائدة على بلدنا مع البلدان الشقيقة والصديقة، وتنويع تعاون تونس مع بلدان صديقة أخرى في إفريقيا وفي آسيا والأمريكيتين. والتعامل مع مختلف الأحزاب من نفس المسافة لصالح الوطن وكل المواطنين. وهكذا سيكون في موقع الإختبار هل إنه رجل دولة بالفعل، قادر على تنزيل الحلم والمطمح إلى أرض الواقع وضبط برنامج مفصل وواقعي لتنفيذه. وبالتالي تحقيق نتائج ملموسة في تغيير حياة الناس نحو الأفضل. أي بكلمة ان يبرهن أنه ليس ظاهرة صوتية كما صنفه البعض، وأنه صاحب مشروع قابل للتنفيذ في ظل احترام الدستور ومؤسسات الدولة وعلوية القانون. هذا، إلى جانب احترامه للحقوق وللحريات التي يقوم عليها المجتمع المتماسك الحديث.
وحتى يحافظ على دوام دعم ناخباته وناخبيه، لابد له من إدامة التواصل معهم، وبالتالي مع كامل الشعب، لأنه الآن رئيس كل التونسيات والتونسيين. وعلى هذا الأساس نرى ضرورة عقده نقطة إعلامية كل أسبوع، ولو بخمس دقائق، على شاكلة ماهو متبع في عدد من البلدان الديمقراطية الغربية، يُطلِع فيها الشعب على مجريات الأمور، وعلى ماقد يكون اعترضه من صعاب إن وُجدت.
ومن جانب الأحزاب ومختلف القوى السياسية
على هذه الأحزاب والقوى أن تستعيض عن المعارك بإدارة خلافاتها بالحجج القائمة على الوثائق، وعلى تقديم البدائل، وعلى توثيق صلتها وتواصلها مع الشعب ليكون دائما على بينة مما يجري في الحقل السياسي باعتباره الشريك الأساسي فيه والهدف الرئيسي من مخاضه..
إنها فرصة، قد تكون الأخيرة لكل الأطراف السياسية، وبالذات لتلك التي حصلت على تفويض الناخبين والناخبات، حتى ولو جيء ببعضهم بالمغريات، كي تمارس الحكم للسنوات الخمس القادمة، تشريعيا وتنفيذيا. ولكن هذه المرة ليس بشيك على بياض حتى الموعد القادم لفتح الصندوق..
مختار اللواتي
- اكتب تعليق
- تعليق