عادل الطاهر لطيفي : بلاغة "الحقد "و الاضطغان "

"إن الأراجيف ملاحيق الفتن "
"و إن البيان بصر والعٍيُّ عًمى " الجاحظ

قرأت- ككل التونسيين – نصوصا وتعليقات كثيرة منذ إعلان وفاة الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي، يترحم بعضها على الرجل ويشمت بعضها الآخر ، ولم يستفزني أي من هذه النصوص لعلمي بأن "كل إناء بما فيه يرشح ". ولكن ما شد انتباهي نص كتبه من يشدد على أنه "دكتور" و "أستاذ للبلاغة " في جامعة تتذيل سلم ترتيب مثيلاتها في العالم، لا لأن الرجل كان ماهرا في الحجاج  أو في المحسنات، بل لأنه لم  يمتع ولم يقنع وفقط أصاب  قارئ نصه بالقرف وبـالغثيان، وقد كان عيًّا جمع الجهالة والحقد المنفلت من كل عقال.

يقول أستاذ البلاغة في تعليقه  على نص أحمد نجيب الشابي – وهو من هو – زعيم للمعارضة الديمقراطية طيلة الشطر الثاني من حكم الزعيم بورقيبة ، وكامل حقبة المرحوم بن علي، وسياسي رصين  ثاقب النظر لم يساوم ولم يتراجع ولم يتداعى ، خاصة حينما اختلط الحابل بالنابل وعششت الشعوذة وأصبح "اللوبان والجاوي" بديلا للتطبب خلال وبعد الثورة : " الشابي وهو يكتب مرثيته كان يعيش حالة تماه مع بن علي : فمجده السياسي بناه معارضا لما كان بن علي في قمة مجده أيضا : أحدهما في السلطة والآخر في المعارضة شبه الراديكالية . لذلك ضيق بن علي عليه وعلى حزيه دون أن يمحو وجوده كما فعل مع بقية الرموز والأحزاب (...) نعم أوهمه أنصار النظام " الساقط " ( كذا بالنص) أنه مرشحهم في أول إنتخابات رئاسية بعد أشهر من تاريخ 14 جانفي 2011 فكان أن عارض فكرة المجلس التأسيسي ، وكان أن أصبح خصما لرفاق الأمس وإخوانه ( ... ) وهاهنا يبلغ الشابي ذروة الأزمة النفسية ، فلا أحد مازال يقيم له وزنا (...) ودخل مرحلة اكتئاب "نفسي" و "سياسي" و أصبح خامل الذكر لا يستشار ولا يراهن عليه . مكسور الجناح موجوعا بلغ الذروة حين وجد نفسه عاجزا على جمع التزكيات المطلوبة فلا أحد مازال يقيم له وزنا ..." ،" وهاهنا لا يتحمل نجيب الشابي وزر تزييف التاريخ ومسخه فحسب ، بل هو يتحمل وزر تشجيع بعض الذين يعانون مرض القصور الذهني طويل الأمد على إطلاق ألسنتهم وعلى شتم شعب بكل طبقاته ومكوناته "، ويطيل أستاذ البلاغة –كما يعترف ، وهل للسانه عظم؟ - بنفس الوتيرة وبنفس الأسلوب المتشنج الحاقد، لتتغير صيغة الهذيان من"المخاطب الغائب" إلى" المخاطب " بنية التصغير: " وكل ذلك فعلته يا نجيب ".

هل جمع أستاذ البلاغة آلة البلاغة أم أنه  كان على العكس فاقدا السيطرة على قواه الحسية والعقلية، لحّاظا لا يكاد يقرأ نصا قصيرا بين يديه  ؟ لقد كان صاحبنا يخبط  خبط عشواء ، مفضلا إنقاذ التفسير الذي يتناسب مع قواه المنهكة حينا ، نافيا ومتغاضيا عن الأشياء التي لا تتناسب مع تفسيره حينا آخر، خالطا بين "أجناس الرثاء " وهو "من أهل الاختصاص " و من العالمين ب " سنن المرثية عند العرب و المسلمين "، متنقلا خلال كل ذلك بين ما يعتقد أنه "بلاغة"و"تاريخ "و " علم النفس " ..

الطريف أن أستاذ البلاغة يورد في أول نصه : "كان من الممكن أن نصنف هذه المرثية ضمن البطولة الأخلاقية لصاحبها لو جمع في "مرثيته السياسية " بين ما للميت و ما عليه ". وهل فعلت مرثية الشابي غير الجمع – وبمهارة فائقة – بين ما لبن علي وما عليه، دون فجور، خاصة و أن المقام مقام: " أذكروا موتاكم بخير "؟ لقد أعمى" الحقد " أستاذ البلاغة فلم يتفطن لجمل الشابي: " عارضتك بشجاعة و شرف طيلة حكمك من أجل احترام حقوق الانسان و اصلاح النظام السياسي و إشراك النخب في رسم الاختيارات الاقتصادية و الاجتماعية للبلاد " و " لم يحالفك النجاح في كل ما بادرت به و تراكمت الأخطاء بسبب الاستبداد حتى أدت إلى الانفجار والثورة ، ولكن الكمال لله " ، وبقي مصرا على تطيير الماعز: " نعم  نجيب الشابي في قرارة نفسه لم يعد يعتبر ما وقع ذات 14 جانفي 2011 تتويجا للثورة "، و أستاذ البلاغة – يزعم فوق ذلك – أنه يعرف السبب و يورد ما ألقى الشيطان في أمانيه مقام الحجة . فعلا نص أستاذ البلاغة مقرف وأتفه من أن يوصف بالتفاهة.

لكن لنعد – مرة أخرى – إلى ما خطت جوارحه و هو المدعي أنه من "أكثرنا حصافة ومعرفة بسيرة الرجال والمناضلين "، وأنه من صفوة "أهل الاختصاص "العارفين بسنن المرثية عند العرب والمسلمين " من أن الشابي " كان يعيش حالة تماه مع بن علي" وانه كان "في المعارضة شبه الراديكالية " ، ومنها استمد " مجده السياسي ".

لا يعرف أستاذ البلاغة أن أحمد نجيب الشابي تربع بالفعل على المجد منذ أواخر ستينات القرن الماضي حين اعتقل بتهمة "الانتماء إلى حزب البعث"  وحين رافع وألقى" خطبته العصماء" التي دافع خلالها على " البعث " وعلى حرية انتمائه – ورفاقه – إليه .وهي المرافعة  التي بلغ صداها عاصمة الرشيد وجبل لبنان ، فما كان من عبد الخالق السامرائي – وقد كان ما كان رحمه الله – الا أن مكنه من جواز سفر عراقي وأن أحسن – ورفاقه – ضيافته في بغداد ، وما كان من ميشال عفلق إلا أن استقبل هذا" المارد اللاجئ  عند جبهة التحرير الجزائرية " في بيته بجبل لبنان رغم معرفته بانسلاخه عن " البعث "واستقلال فكره عنه. ولكن أستاذ البلاغة يخير "العيش بين الحفر".

أما دفاعه ومرافعته عن الإسلاميين – حين نالهم ما نالهم – ذات صيف من سنة 1987 – وهذه أيضا قبل وصول بن علي إلى الحكم – فقد جعلت نجم الرجل ساطعا ليس فقط بين زملائه و في أروقة المحاكم بل عند كل من كان يتشوف الحرية في ذلك العصر . وقد أسر لي بعض المحامين ممن حضر المرافعة أن رئيس المحكمة لم يتمالك نفسه فاستدعى الشابي إلى مكتبه فقط ليقبل " جبين الحق " وليهنئه بـ " المستوى الرفيع للمرافعة " ،والتي سرعان ما زين الإِخبارُ عنها صحفا كثيرة في مشارق الأرض وفي مغاربها . و هذا طبعا إذا نحّينا جانبا سنوات السجون وسنوات المنافي و مجموع " الأحكام القضائية " التي ألفت ما يقرب النصف قرن . ونعم – وفي هذه فقط صدقت يا أستاذ البلاغة – كان نجيب الشابي زعيما للمعارضة الديمقراطية طيلة حكم بن علي دون منازع . ولكنه كان – أيضا – راديكاليا ، يشهد على ذلك  تصريح صحفي ومقالات كثيرة لمحمد القوماني وجماعته المنسلخين عن " الديمقراطي التقدمي " سنة 2007 بتعلة "تصلب الشابي وخالدة الذكر مية الجريبي"  و رفضهما " التفاعل الايجابي والمرن " مع مازعموا أن الحكومة تطرحه آن ذاك . ولن أحدثك عما راج حينها من " مؤامرات " كان يحيكها من نصبوا أنفسهم اليوم " ثوارا " ، ولعلك يا أستاذ البلاغة منهم  أو ممن يركب " موجتهم الخاسرة ".

ورغم كل ذلك بقي الشابي ذائع الصيت ، طيب الذكر . صادف أني إلتقيت – وأنا الطالب الفقير ناشرا دمشقيا خلال معرض تونس للكتاب ربيع 1996 باعني مجموعة كبيرة من الكتب بسعر رمزي بعد أن علم أني " ابن بلدة محمد صالح الهرماسي " عضو القيادة القومية لحزب البعث في سوريا حينها ، وقد أسر لي : " يعرف أغلب السوريين السيدان محمد صالح الهرماسي

والمناضل الفذ أحمد نجيب الشابي ، وأنه لا يستطيع تفسير حبه لتونس إلا بحبه لهذين السيدين ".

لكن ما لم أفهمه في نص أستاذ البلاغة إدعائه : " ضيق بن علي على الشابي و حزبه دون أن يمحو وجوده كما فعل مع بقية الرموز و الأحزاب " أو دعواه أن " اقرأوا سيرة هتلر والنازيين و ستفهمون تفاهة ما تقولون عن رئيس دولة اغتصب السلطة ذات 7 نوفمبر 1987 " . هل حل بن علي طيلة حكمه – وأشهد الله أنه كان مستبدا – حزبا سياسيا واحدا أو أعدم وجود " زعيم " ممن يخالهم أستاذ البلاغة ؟ وهل كان لنظام بن علي " غرفا للغاز" مثلا حتى يكون شبيها بهتلر ؟ ولعلك يا أستاذ البلاغة تشبه كل من يترحم عليه اليوم بالنازيين ، ولعلك تقودهم إلى نورمبورغ . فعلا ليس للشعوذة حدود وليس لسقوطك يا أستاذ البلاغة قاع.

لا تقتصر أراجيف أستاذ البلاغة على تلك الحقبة ، وقد ينطلي التزييف والكذب الذي يمكن أن يطالها على بعض القراء ، و إنما تتعداها لتطال الثورة وما بعدها . و هاهو أستاذ البلاغة يتخذ من الكذب دينا ومن الهذيان أسلوبا : " نعم ، أوهمه أنصار النظام " الساقط " أنه مرشحهم في أول انتخابات رئاسية ". هل أتحداه أن يذكر الأسماء والأماكن و كيف عقدت "الصفقة " أم أكتفي بالترديد : " ومتى استقام مع السفهاء حساب ؟" ؟ وطبعا لا يستطيع ذهن أستاذ البلاغة "الضيق " و لا روحه " الارتكاسية " أن تفهم معارضة نجيب الشابي – أو غيره – لدعوة بعض فوضويي اليسار السذج أو الاسلاميين المتربصين بالحكم لانتخاب " مجلس تأسيسي " إلا كنتيجة ل"صفقة" يزعمها . و انسجاما مع" مثله الأعلى " و مع آليات تفكيره " السافل " أسأل الأستاذ : كم قبضت لقاء تحبيرك لكل هذه الأراجيف والأوهام ؟ و لا تحدثني عن " الشرف " ، فقد كان المفهوم المركزي في مرثية الشابي ، ومع ذلك لم تكلف نفسك إلا ما استطعت . و لن أجيبك وقد نصبت نفسك متكلما باسم " الشعب بكل طبقاته و مكوناته " و مدافعا عن " المجلس التأسيسي"– ولعلك كنت من الغوغاء الداعين إليه في القصبة ، فالغالبية العظمى من التونسيين لا تتحمل مجرد ذكره ، وهي لم تنسى – و لن تنسى – عظيم المصائب التي جرّها : فكم من زعيم مغدور سقط ؟ وكم من فرصة للإقلاع باقتصاد البلاد.

وبالأوضاع الاجتماعية للعباد أهدرت ؟ وكم مرة بلغنا حافة الاقتتال الأهلي ؟ وكم أفقا رسمته الثورة للتونسيين تهاوى وسقط ؟ ولكن لسان حالك يا أستاذ البلاغة كان ولا يزال : " العام طهمال " . أما من قلت أنهم كانوا رفاقا للشابي وأنه " أصبح خصما لهم " ، فالجميع يذكر كيف هاجم البعض منهم بالحجارة وبالشعارات الفارغة مقر جريدة " الموقف" ومقر " الحزب الديمقراطي التقدمي "  وقد أشبعهم – بالأمس القريب – من جوع وآمنهم من خوف . وما ظلموا ، فقد كانوا كإخوانهم " غادرين مغدور بهم ". وكان لهم ما أريد بهم فأسقط الشابي ، وتكفل الذباب  المتأخون الأزرق الالكتروني بالباقي ، و"ضاعت بلاد الشعب تلقاء الكراسي والرتب / بين المفرنك  المأمرك و المطبع والذليل بلا سبب " كما قال صاحب قصيدة "إبليس ". أما " فصاحات النخب" فهاهي ترشح من إناء أستاذ البلاغة . يقول إن الشابي" تسرع وهرول فتعثر و تلك أحكام الطبيعة " . نعم ، هرول الشابي ، وهرول المرحوم أحمد ابراهيم و لم يكونا في البداية وحيدين ، بل هرول معهما بعض من قادة المركزية النقابية وبن جعفر الذي عقد ندوة صحفية بالمناسبة يعلن " دخوله حكومة محمد الغنوشي " ، لإنقاذ الدولة من الانهيار ولإنقاذنا  من حمام دم ، لكن الحسابات السياسوية "الرخيصة" و الاستخفاف بدماء التونسيين الذي كان يمكن أن يغرقهم   - لو أراد من تبقى من النظام أو لو تفككت الدولة.

وسقطت – هي التي زينت للبيرقراطية النقابية ولمن ترأس " المجلس الوطني التأسيسي" – العزيز على قلب أستاذ البلاغة – التنصل من التزاماتهم . و لو علم أستاذ البلاغة ما قررته الحكومة – أنذاك – لصالح الثورة ، وكم درأت من المؤامرات التي كانت تستهدفها لذر الرماد بين أسنانه.

ولأن " اللسان بدون عظم " كما يقول مثلنا العامي ، يواصل أستاذ البلاغة أراجيفه ، فيزعم ويرجم بالغيب : " وجد (الشابي ) نفسه عاجزا على جمع التزكيات المطلوبة ، فلا أحد مازال يقيم له وزنا ". وفي هذه أزعم أني أعلم منه – و من الشابي نفسه – بموضوعها . فقد كنت ضمن فريق – ممن كان يعتقد ولا يزال بأن منصب الرئاسة والرياسة لا يليق بغيره – وقد جمعنا بالمقر المركزي للحملة الانتخابية أكثر بقليل من ثلاثة عشر ألف تزكية – ولا زلت أتحوز إلى الآن على زهاء التسعة آلاف أخرى بعضها من نفس الدوائر الانتخابية الاثني عشر التي اشتغلنا عليها وبعضها من دوائر أخرى – و لكننا فوجئنا – ككل التونسيين – وقبل آخر موعد لتقديم الترشحات بيومين، ومن خلال بعض المواقع أن " نجيب الشابي يقرر عدم الترشح للانتخابات "، وحين اتصل به بعضنا –محتجا ومستفسرا، اكتفى بالرد: " لا أجد الظروف السياسية ولا المناخ العام ملائما للترشح ، ولا أعتقد أن ترشحي سيقدم إضافة للتونسيين ". سامحني الله، فقد اتهمته -حينها – بيني و بين نفسي بـ" اللامبالاة " و بـ" التهرب من المسؤولية " ، ولكنني أصبحت أدرك – يوما بعد يوما- أنه كان " يرى مالا يرى "، وأنه كان " يقيس عمق الهاوية ". هل أحتاج إلى التعليق – بعد هذا –عن " ذروة الأزمة النفسية " و " الاكتئاب النفسي و السياسي "  الذي يزعم أستاذ البلاغة أن الشابي " واقع فيه " ، اللهم لجهة بيان أنها مجرد إعلاءات لمكبوتات خضعت لتثبيت عنيد جعلها غير قابلة للاستعمال ، وارتدت بصاحبها الى ما يسميه علماء النفس " شذوذا " (anomalie) ؟ والحق أن أمارات كثيرة يمكن أن تدل عند أهل الاختصاص – وما كنت أبخل بالارشاد لو كنت منهم – أن أستاذ البلاغة أسير " ذهان الهذاءات" (pranoïa ) ، و إلا كيف نفسر إعتداده المشط بنفسه ، وحساسيته المرضية وعدوانيته ودفاعه ألهوسي على تصورات غريبة بحجج – تبدوا له – بالغة القوة ، وقد بينا أنها أوهى من خيوط العنكبوت ؟ لا أريد المجازفة – فلست أستاذا للبلاغة –بالاجابة ، فـ" لعلم النفس" أساطينه في الجامعة التونسية وخارجها . لكنني أتساءل وأسأل القراء : لماذا لم يكتف أستاذ البلاغة تعليقا على مرثية الشابي بمثل ما دون مصطفى عطية مثلا : " أحمد نجيب الشابي المعارض السياسي الحقيقي الوحيد لبن علي ، أحمد نجيب الشابي يرثيه برجولة وشهامة ومروءة وشجاعة الوطني الغيور ، البقية أكلوا على موائده، ان قليلا أو كثيرا ، وتقربوا إليه وانبطحوا تحت قدميه قبل أن يلقي بهم في المزابل ليصبحوا " معارضين "، واليوم أبدوا من الوضاعة و النذالة والنجاسة والحيوانية ما جعلهم يهللون لوفاته ، ويشتمون في تحليقه إلى يدي خالقه ، إنهم سفلة القوم " ؟ ولماذا لم يكتف بالترحم على من كان رئيسا عليه – و علينا –قرابة ربع قرن كما فعل الطاهر بن حسين أو نجيب البكوشي أو عبد الجبار المدوري – و قد كانوا جميعا معارضين أشداء لنظام بن علي وطالهم ما طالهم من العاذابات ولكنهم تساموا على جراحهم وطلبوا الرحمة و المغفرة من الخالق للرجل ، بل طالب البكوشي – وأشهد أنه كان في الجامعة قمة في التخلق وفي النضال – بأن يوارى الثرى بين أهله وبأن تقام لجثمانه جنازة لائقة؟

قد يقول قائل: "إنها وجهات نظر وتقييمات ومن الطبيعي أن تختلف من شخص إلى آخر". ولكن التقييمات ليست قيما، بل هي على الأصح طرق في وجود من يقيمون ومن يحكمون . بل إن الواحد منا يمتلك دائما المعتقدات والعواطف والأفكار التي يستحقها وفقا لطريقة حياته و أسلوب وجوده . وقد كان الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز يقول: "ثمة أشياء لا يمكن أن نقولها أو أن نشعر بها أو أن نتصورها وقيم لا يمكن الايمان بها إلا بشرط تقييم الحياة بـ"دناءة" و العيش والتفكير بـ " دناءة". وهل يمكن أن نفهم تصريحات مرشح لرئاسة الجمهورية وحائز على الآلاف من أصوات الناخبين المترحمة على فرعون والرافضة  للترحم على بن علي إلا في هذا الإطار ؟ وهل ثمة من معنى لما قاله أستاذ البلاغة  إلا ضمن هذا الإطار؟

وبالمثل، و كما أن للسفالة "حقائقها " وللسفلة" حقائقهم "، ثمة أيضا أشياء لا يمكن أن نشعر بها ولا أن نتصورها أو نفكر فيها أو نقولها ما لم نكن "نبلاء، وأصحاب ذوق وحس " أرستقراطي". إن العبارة اليونانية التي تشير إلى الحكمة "sapio" تعني أيضا " الذواق" و "صاحب الذوق المرهف". ورثاء نجيب الشابي لبن علي أو ترحمه وحبه لبورقيبة – ولا أجازف لو قلت أنه أول البورقيبيين و آخرهم – أو سعيه الدؤوب لألتماس الأعذار لمن يتساقط أو يتراجع أو يتداعى، لا يمكن فهمه إلا في هذا الاطار، ومن زاوية الرؤية هذه.

وعلى أي حال ، لله في خلقه شؤون " ومَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ "، ولكن بعض الناس لا يعلمون .و قد قال أبوا الفرج القرشي – وقد أورد أستاذ البلاغة عجز بيته لتسويف المعنى - : " بكيتُ على الوادي فَحَرّمْتُ ماءَه / وكيف يُحَلُّ الماء أكثره دمُ ".

عادل الطاهر لطيفي