أخبار - 2019.10.05

الحضارة الإسـلامـية بيـن الإسـلامـولوجـيا والإسـلاموفوبيـا

الحضارة الإسـلامـية بيـن الإسـلامـولوجـيا والإسـلاموفوبيـا

كثيرا ما نسمع أو نطالع هنا وهناك في إعلام الغرب ومنابره شتّى الافتراءات على حضارة الإسلام يخالطها جهلٌ فجّ لإنجازاتها التّاريخية مع قراءات مغرضة لواقعها الرّاهن. واللاّفت في الأمر أنّ الكثير من المسلمين ـــ حتّى ممّن هم أشدّ تديّنا ـــ يشاركون أعتى خصوم الإسلام في جهلهم لقيمة حضارته، بل منهم من ينكر بعض منجزاتها ولا يعترف بسِمَتِها الإسلامية الأصيلة انطلاقا من تأويل ضيّق للتّعاليم الدّينية.

إنّ ما نعنيه هنا بالحضارة الإسلاميّة لا يقتصر على مكوّنها الديني وإنّما يشمل مجمل تراثها المعنوي الحاصل من إسهامات مذاهبها العقدية المختلفة ومجموع إنجازاتها الفكرية والمادية من كلام وفلسفة وعلوم وآداب وموسيقى وفنون تشكيليّة وعمارة وغيرها.

وتنعكس تلك النّظرة الغربية السّلبية إلى حضارة الإسلام في مقولات مبتسرة وأوهام شائعة تعبّر عن رُهاب مزمن إزاء الآخر ولا علاقة لها بمضمون الدّراسات الأكاديمية التي تسعى بأدوات العلم وسلامة المنهج إلى الحقيقة، فللغرب في ذلك تقاليد لا تُنْكَر وإن لم يخْلُ بعضُها من أخطاء في التّقويم مردّها إلى استعمال مفاهيم مُسْقطة وأدوات بحث وتحليل مستعارة من التّراث الغربي. أمّا من داخل الحضارة الإسلامية فالإحاطة بإضافاتها يكاد يقتصر على المختصّين من أبنائها بل إنّ منهم من يكتفي من البحث فيها بترديد مقولات أساتذتهم الغربيين. أمّا سواد المسلمين فلا حظّ لهم من معرفتها إلاّ ما يتذكّره بعضهم من الجُذَاذات المدرسية، وما عدا ذلك فهو الجهل المطبق والغفلة والذّهول عن النّفس. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى مفارقة التقاء خصوم الإسلام مع الكثيرين من أتباعه، إنّ جهلا وإن عمدا، في إهمال إضافاته إلى الحضارة الإنسانية، بل في ازدرائها والاجتراء عليها. ولنا كأمثلة على ذلك بعض الآراء أو المواقف من الفريقين.

افتراءات بوريس جونسن على الإسلام وتراثه

وفي باب الافتراء على الإسلام وحضارته، نذكر ما كتبه منذ بضعة أسابيـــع جيري بروتون (Jerry Brotton)، أستاذ دراسات عصر النهضة بجامعة كوين ماري في لندن، في صحيفة غوارديان عن رئيس الحكومة البريطانية الجديد بوريس جونسون مفنّدا ما ادّعاه الأخير سنة 2007 في ملحق أضافه للطبعة الثّانية من كتابه «حلم روما»الذي نشره قبل سنة، من أنّ سبب تخلّف العالم الإسلامي يعود إلى «المحافظة الدينية القاتلة» وأنّ مشكلته الحقيقية هي الإسلام، مضيفا أنّ جميع المناطق المشتعلة في العالم من البوسنة إلى فلسطين إلى العراق ترجع مشكلتهــــا إلى تظلّمـــات (شكــاوى)  المسلمين (؟!). وقد اختار لملحقه عنوانا مستفزّا: «ثم جاء المسلمون» ومعناه أنّ الإسلام أتى بتخلّفه ليمحو آثار حضارة روما العظيمة التي يتمنّى لو تنحو المجموعة الأوروبية نحوها لتستعيد ما كان لضفاف المتوسّط من ازدهار وطيب عيش على أيّام السّلم الرّومانية! ويرى جيري بروتون أنّ ذلك الزّعم يكشف عن جهل صادم بالإسلام والتّاريخ، مضيفا  أنّ جونسون في آخر هجوم له عليه في العام الماضي، اعتبر أنّ العقيدة الإسلامية «غريبة وغير جذّابة».

تبرئة الجاني واتّهام الضّحيّة

هكذا  ينفي السّيد بوريس جونسون بسهــــولة ما للقوّى الغربية من مسؤولية في معظم المآسي التي تعيشها تلك المناطق إلى اليوم، مبرئًا الاستعمار ممّا مارسه من هيمنة مهينة على الشّعوب الإسلامية  واستنزاف فاحش لثرواتها وممّا ارتكبه من جرائم في حقّها، مستكثرا عليها حتّى التّظلّم كأنّما كُتب على المسلمين ـــ دون سواهم من شعوب الأرض ـــ الخضوع مطلقا للأمر الواقع؛ فهل من حاجة إلى تذكيره بوعد بلفور ومسؤولية دولته في مأساة فلسطين، وهل أتاه حديث معاهدة سايكس ـــ بيكو وتبعاتها الكارثية على الشّرق العربي بعد أن غرست فيها القوى الغربية أنظمة لا تزال تخضع للغرب وتدين بوجودها له كما دان المناذرة قديما لكسرى والغساسنة لبيزنطة قبل أن يقلب الإسلام موازين القوّى ويبرز العرب والشّعوب الأخرى التي انضوت تحت لوائه كقوّة فاعلة في التّاريخ؟

وشهد شاهد من أهلها...

لقد ردّ الأستاذ جيري بروتون على ما زعمه بوريس جونسون من ازدهار العلوم والمعارف في العهد البيزنطي وتراجعها في العهد العثماني وما ادّعاه من أنّ الفنّ المعماري لكنيسة «كابيللا سيستينا» في روما يتجاوز قدرات المعماريين المسلمين؛ كما عقّب، وهو المتخصّص في العلاقات بين الشّرق والغرب، على ادّعاء جونسون بأنّ مهندس الكنيسة القدّيس بطرس بروما إنّما تأثّر في تخطيطها بالعمارة العثمانية. كما أثبت بروتون أخطاء تاريخية أخرى لجونسون حول تاريخ ظهور المطبعة في العهد العثماني، ونعى عليه تجاهله للإنجازات العلمية والثّقافيّة الإسلامية في القرون الوسطى مشيرا إلى تماهي آرائه مع ما ادّعاه وينستون تشيرشل قبله عندما قال إنّ «الإسلام أعتى قوّة رجعية في التّاريخ» وما يراه اليوم أنصار حزب المحافظين عن الإسلام، مبيّنا أنّ نحو 56 % من أعضاء الحزب يعتقدون أنّه يشكّل تهديدا لأسلوب حياة البريطانيين.

في سياسة الشّعبوية والاستفزاز

يُلاحظ التّباين هنا بين موقف السّياسي السّاعي إلى الحكم بأيّ طريقة ومهما كان الثّمن، حتّى لو كان ذلك على حساب الحقيقة، وبين الباحث الأكاديمي المتشبّث بما بقي للعلم من شرف في مناخ سياسي واجتماعيّ مشحون بالكراهية للآخر. غير أنّ جيري بروتون يخطئ عندما يعزو مواقف جونسون وآرائه إلى الجهل، فالمعروف أنّ الأخير حظي بتأهيل متميّز في جامعة أكسفورد وهو أحد خرّيجيها، وعمل في الصّحافة وتقلّد منصبا وزاريّا في حكومة تيريزا ماي وألّف كتابه الذي يحتفي به بالأصول الرّومانية للحضارة الغربيّة. فالجهل إذن ليس هو ما يفسّر تلك المواقف والآراء وإنّما هو الرّكون إلى إرث قديم من العداء إزاء الحضارات الأخرى لا يزال حيّا لدى قطاعات واسعة من الذّهنيّة الغربيّة ولا تفتأ تغذّيه اليوم الاتّجاهات السّياسية الشّعبويّة اليمينية التي اختارت الاستثمار في الإقصاء والكراهية  وأفرزت صنفا جديدا من السّاسة يمثّله دونالد ترامب، ممّن يتّخذون من الإثارة والاستفزاز طريقا لكسب الشّعبيّة ولو كان ذلك على حســاب ما بقي من قيم إنسانية طالما نادى بها الغرب، مساهمين بذلك في تجريف ما بناه التّراث ذي المرجعيّة الإنسانية في الغرب ذاته.

الأصول التركية لبوريس جونسون

لا عجب أن يصدر مثل ذلك التزييف للتّاريخ عن بوريس جونسن المنحدر من أسرة تركية ارتبطت  منذ أجيال بالمصالح الغربيّة حيث كان جدّه الأكبر للأب الكاتب والصّحفي والسّياسي والرّحّالة علي كمال بك (أو علي رضا) يدعو إلى فرض حماية بريطانية على تركيا ويعارض حرب الاستقلال (1919 ـــ 1923) التي خاضها الوطنيون الأتراك ضدّ تحالف أوروبيّ دفاعا عن بلادهم، فاتّهموه بالخيانة وأعدمه بعض الغوغاء سنة 1922 على نحو بشع شبيه بما حدث لبينيتو موسيلليني عند انهيار الفاشيّة في نهاية الحرب العالميّة الثّانية. وكان أن تزوّج علي كمال في إحدى رحلاته الكثيرة من امرأة انجليزية قبل أن يعود إل تركيا ويتزوّج ثانية؛ وقد أنجبت له الزّوجة الأولى ولدا اختار أن يقيم بأنجلترا مغيّرا اسمه من عثمان إلى ويلفريد واتّخذ لقب عائلة والدته (جونسون) وهو جدّ بوريس الذي أصبح من زعماء حزب المحافظين وانتهى الأمر إلى اختياره أخيرا رئيسا للحكومة البريطانيّة.

وظلـم ذوي القربى أشــــدّ مــضـاضـــةً...

وكما أسلفنا فإنّ الجهل بمنجزات الحضارة الإسلامية في مختلف مجالات المعرفة والفنون والاجتراء عليها  ليس ممّا يميّز الذّهنية السّائدة في الغرب وحدها، فكثير من المسلمين، حتّى أولئك الذين لهم بعض زاد معرفي، يشاطرون الغربيين جهلهم، فكم من مدافع عن الإسلام لا همّ له إلاّ الخوض في العقائد أو التركيز على السّياسة وتراه يفغر فاه إن أنت حدّثته عن فلسفة الكندي أو آراء الغزالي أو علوم البيروني أو رياضيات الزّمخشري أو مخترعات الجزري أو فلسفة التّاريخ عند ابن خلدون. ومنهم فريق إن ذكرت له أشعار المتصوّفة أو أثر موسيقى زرياب على الثّقافة الأندلسيّة فقد تُرمى بالكفر؛ وهناك فريق آخر من المحسوبين على العلم يرفضون الانتماء إلى تلك الحضارة أصلا نافين أيّ إضافة إسلامية للتّراث الإنساني. ومن السّائد عند الكثيرين من أولئك وهؤلاء الجهلُ بمنجزات العمارة بينما بعض آثارها لا يزال ماثلا أمامهم ولا معرفة لديهم بتقاليد تصوير المنمنمات في مدارسها المختلفة العربية والفارسية والمملوكية والتّركية والمغولية وغيرها، فلا أحد سمع، عدا أهل الاختصاص، بتصاوير يحي بن محمود الواسطي رأس مدرسة بغداد ومنمنمات الإيرانيين أمثال بهزاد وشاه قولي وغيرهم. ذلك لتوهّمهم أنّ الإسلام يحرّم الصّور مطلقا، دون التّفطّن  إلى أن مشكلة الصّور أعقد ممّا يتصوّرون وأنّ تأويلات الفقهاء القدامى وغيرهم من أهل الرّأي أجازت التّصوير في مراحل من التّاريخ الإسلامي. وقد تجد بعض العذر للغربيين الجاهلين للتّراث الثّقافي الإسلامي بالرّجوع إلى الواقع الصّادم بين القوى في التّاريخ؛ ولكن أيّ عذر لمن يخفق في الدّفاع عن وجوده لعدم فهمه لتاريخه وذهوله عن ذاكرته الجماعية التي يتأسّس عليها ذلك الوجود ؟

علي اللواتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.