هيكل بن محفوظ: هل يمكن إلغاء الانتخابات الرئاسية؟
من الأكيد أن نسق الدور الثاني للانتخابات الرئاسية يتصاعد بمجرد أن أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات رسميا عن النتائج النهائية للدور الأول، وذلك تبعا لصدور القرارات النهائية للمحكمة الإدارية برفض جميع الطعون في النتائج الأولية للدور الأول للرئاسية.
وبات مؤكدا أن موعد الجولة الثانية من الانتخابات بين الفائزين الأول والثاني في الدور الأول سيكون يوم 13 أكتوبر 2019. وعلى هذا الأساس حددت الهيئة مواعيد انطلاق الحملة الانتخابية للدور الثاني وانتهائها، ووضعت كل الترتيبات لحسن سير العملية الانتخابية.
لكن المسألة التي تبقى عالقة هو بقاء أحد المترشحين للدور الثاني قيد الاحتفاظ بالسجن وهو ما يطرح قانونيا وعمليا إشكالات على مآل نتائج الانتخابات وصحتها. والسؤال المطروح اليوم بشدة هو الآتي: ما هو مآل نتائج الدور الثاني من الانتخابات في صورة ما إذا تم الطعن فيها من قبل أحد المترشحين النهائيين وتحديدا من قبل المترشح السيد نبيل القروي في صورة ما لم يفز في الانتخابات؟ هذا السؤال يبقى قائما حتى في صورة ما إذا كان الطعن من قبل أحد المترشحين الذين شاركوا في الدورة الأولى عملا بأحكام الفصل 147 من القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 مؤرخ في 26 ماي 2014 يتعلق بالانتخابات والاستفتاء.
مردُّ هذا التساؤل هو أن المرشح الثاني للدور الثاني هو الآن قيد الاحتفاظ بالسجن بعد صدور بطاقة إيداع في حقه وتنفيذها قبل انطلاق الحملة الانتخابية للدور الأول. وعلى الرغم من المناداة بإطلاق سراحه وتمكينه من خوض الانتخابات بنفس الحظوظ وبقية المتنافسين على أساس مبدأ المساواة وضمان تكافؤ الفرص بين جميع المترشحين الذي كرسه الفصل 52 من القانون الأساسي 26 ماي 2014 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء، إلا أن كلّ المساعي الإجرائية والسياسية أيضا ومطالب الإفراج المقدمة في الغرض لم تؤد إلى فكّ هذا المأزق السياسي والدستوري والخروج منه.
وعلى ضوء المعطيات القانونية والسياسية الراهنة يتجه الإجابة عن جملة من الأسئلة الأساسية: في حالة طلب الطعن، من يطلب الإلغاء؟ ما هي أسباب الطعن؟ ما هي الرقابة التي يمارسها القاضي الإداري على نتائج الانتخابات الرئاسية؟ وما هو مآل الانتخابات الرئاسية في حالة إلغائها؟
من له صفة طلب إلغاء الانتخابات الرئاسية؟
تُعدُّ عناصر الصفة والمصلحة من الشروط الإجرائية الضرورية للقيام بالدعاوى القضائية. ويُحَدِّدُ الفصل 147 من قانون الانتخابات والاستفتاء بشكل صريح صفة من يجوز له القيام بالطعن في نتائج دورة الإعادة ويحصرها في فئة المرشحين فقط في الجولة الأولى (الفصل 147 ـ تفتح الطعون بالنسبة للدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية للمترشحين الذين شاركوا في الدورة الأولى"). وهذا يعني أنه ليس لغير المترشحين الذين شاركوا في الدورة الأولى الطعن في نتائج الدورة الثانية. من الناحية العملية، سيتولى المترشح أو المترشحين الأكثر تضررا من عدم تكافؤ الفرص أو الأحرص منهم بالمبادرة بالطعن في نتائج الدور الثاني.
لكن لسائل أن يسأل: هل يجوز لكل ناخب الطعن في عملية الاقتراع هذه بحكم ممارسته لحقه الدستوري في الإقتراع ولأنه يضع صوته في صندوق الاقتراع؟
لئن اجتهد القاضي الإداري في مناسبات سابقة لتجاوز المفهوم الضيق لشرط صفة ومصلحة القيام في المادة الانتخابية، حيث اعتبرت المحكمة الإدارية في مناسبة أولى أن طلب قيام العارضين مقبول لأن تكوين الهيئة العليا المستقلة للانتخابات يمثل مصلحة وطنية ذات أهمية قصوى، ثم قبلت في مناسبة ثانية بصفة الناخب كشرط كاف للقيام، معتبرة على هذا الأساس أنه من حق القائمين بالدعوى الطعن في شبكة تقييم مرشحي عضوية الهيئة العليا المستقلة للانتخابات لتوفر هذه الصفة فيهم، إلا أنه في علاقة بالانتخابات الرئاسية فإن صفة الناخب غير كافية لوحدها لقبول قيام غير المترشحين الذين شاركوا في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية بالطعن في نتائج دورة الإعادة.
ذلك أن الفصل 147 وضع شروطا محددة كما أسلفنا الذكر وهو علاوة على ذلك نص خاص يُقدّمُ على النصوص العامة وتحديدا على الفصل 6 من قانون المحكمة الإدارية ("الفصل 6 – يقبل القيام بدعوى تجاوز السلطة من طرف كل من يثبت أن له مصلحة مادية كانت أو معنوية في إلغاء مقرر إداري ما). فهو لا يقبل التأويل في اتجاه التوسع في مفهوم شرط الصفة والمصلحة، لأن المشرع حصر ذلك في أشخاص معينين بصفتهم. وعلى صعيد آخر، فإن صفة الناخب لا تخول لصاحبها القيام لدى القضاء المختص (المحاكم الابتدائية المختصة ترابيا) إلا في حالات محددة ضبطها القانون الانتخابي وهي الطعن في قرارات الهيئة المتعلقة بشطب اسم أو ترسيمه أو تصحيح خطأ في قائمة ناخبين.
وهكذا، لا يمكن القياس كذلك على توسيع مجال المصلحة الجماعية ليصبح حق الطعن جائزا لكل من يُثْبِتُ أن له مصلحة مادية كانت أو معنوية في إلغاء نتائج الانتخابات. وإجمالا، فإن صفة القيام المنصوص عليها بالفصل 147 المذكور لا يمكن أن تعود بنفس الطريقة إلى الناخبين بصفتهم الفردية أو من خلال جمعيات وائتلافات المجتمع المدني، أو أي حزب سياسي، أو أي مترشح من غير المترشحين الذين شاركوا في الدورة الأولى، بل أن المشرع حصرها في فئة معينة بذاتها. لذلك، القول بأن صفة الناخب تكفي لوحدها لفتح باب الطعون على مصراعيه هو لا يتعارض مع منطوق الفصل 147 فقط، بل غير مسؤول أيضا.
وفي اعتقادنا، وضمانا لشرعية الانتخابات، على القاضي الإداري أن يبسط رقابته المباشرة على مدى جدية الطعون المحتملة في نتائج الدورة الثانية والتي يجوز أن يتقدم بها المترشحون الذين شاركوا في الدورة الأولى. فصفة القيام لا تعني ضرورة أن شرط المصلحة متوفر أيضا، خاصة لمّا تُصبح الغاية من طلب إلغاء نتائج الدورة الثانية تعطيل المسار الانتخابي واستعمال إجراءات التقاضي لتمطيط الرزنامة الانتخابية وما يمكن أن يترتب عن ذلك من فراغ دستوري. ولكن لإلغاء نتيجة انتخابات هامة، يجب أن تكون الأسباب والمخالفات التي تم الاستناد إليها خطيرة وكبيرة الحجم بحيث يمكنها أن تغيير نتيجة الاقتراع.
ما هي أسباب الطعن؟
فرضية الطعن في نتائج الدور الثاني واردة طالما أن أحد المترشحين لم يحظ بنفس الحظوظ وظروف التنافس وباقي المترشحين. ولئن باتت نتائج الدور الأول محصنة لاتصال القضاء بها، وهو ما يجعل الرجوع فيها غير وارد بالمرة حتى وإن تم الطعن في نتائج الدورة الثانية، إلا أن العملية الانتخابية تبقى مهددة في صيرورتها وشرعيتها، بسبب عدم احترام وتحقيق مبدأ المساواة بين المترشحين وغياب تكافؤ الفرص، وهي شرط قانونية جوهرية فرضها الدستور والقانون الانتخابي على حد السواء.
لكن المسألة ليست بهذه البساطة، لأن أسباب الطعن التي قد تثار أمام المحكمة الإدارية لن تكون تلك بالضرورة من قبيل الأسباب التقليدية والمنسوبة أصلا للمترشح الآخر أو لسريان الحملة الانتخابية للدور الثاني، وإنما ستكمن هذه المرة في تأثير إصدار بطاقة إيداع بالسجن في حق مترشح على صيرورة العملية الانتخابية، أي في أسباب خارجية عن العملية الانتخابية، وهي حالة شاذة مقارنة بالوضع العادي.
فحرمان مترشح بفعل قرار قضائي من خوض حملته الانتخابية بشكل شخصي ومباشر وعدم تمكينه من التواصل مع الناخبين عبر الاجتماعات العامة ووسائل الإعلام واللقاءات الصحفية وغيرها من أشكال الحملات الانتخابية المشروعة التي يجيزها القانون قد يبدو فيه إجحاف وضرب لحقوق المترشح و لمبدأ تكافؤ الفرص. ذلك أن المساواة أمام الانتخابات لا تنفصل عن مسألة التمثيل ومسألة الديمقراطية.
ويجدر التذكير بأنه يجب قانونا ضمان تكافؤ الفرص بين الأحزاب والمرشحين، وهذا يعني حيادية السلطات العامة، وهي تقتضي امتناع أجهزة الدولة التدخل في العملية الانتخابية، وهو ما تسهر على تحقيقه الهيئة العليا المستقلة للانتخابات باشرافها بموجب الدستور على تنظيم الانتخابات. لكن هذا لا يعني امتناع الدولة عن التدخل في كل الحالات، بل دورها يبقى أساسي لتأمين بيئة سليمة لإجراء الانتخابات.
لكن الوضعية التي وصفت "بغير العادية" لم يتسبب فيها انحياز الإدارة الانتخابية ولا أجهزة الدولة لأحد المترشحين، بل بالعكس ما من أحد يشكك في حيادية وشفافية العملية الانتخابية، وإنما الأمر ناتج عن إعمال مبدأ استقلال السلطة القضائية وحيادها الضروري في علاقة بأحد المترشحين، لا بوصفه مترشحا وإنما بصفته مواطنا تونسي محل تتبعات جزائية تحوم حوله شبهات فساد مالي وتبييض أموال وتهرب جبائي يعاقب عليها القانون في صورة ثبوتها. والقضاء في هذه الحالة لا يُميٍزُ بين المظنون فيهم بحسب صفتهم أو انتمائهم أو جنسهم أو معتقادتهم بل هو مطالب بإعمال العدالة وتطبيق القانون على الجميع.
هذه الوضعية الشاذة لم تتوقعها هيئة الانتخابات ولم تكن قادرة على صدها، خاصة أن القانون الانتخابي لا يحرم من هو محل تتبعات جزائية ولا حتى من لم تصدر في حقه أحكام جزائية باتة من حق الترشح للانتخابات الرئاسية. ويبقى الترشح لمنصب رئيس الجمهورية "حق لكل ناخبة أو ناخب تونسي الجنسية متمتّع بحقوقه المدنية والسياسية وغير مشمول بأي صورة من صور الحرمان المنصوص عليها بالقانون".
أمّا في خصوص مسألة إجراءات وتوقيت إيداع السيد القروي في السجن، فإنه رغم سلامة الإجراءات القضائية المتبعة على تقدير تقرير التفقدية العامة لوزارة العدل، كان الأمر يحتاج أكثر تريثا من السلطة القضائية لا للاعتبارات السياسية وإنمّا من وجهة نظر إجرائية بحتة، لأن البدائل القانونية والاحترازية مثل الابقاء في حالة سراح بكفالة مالية وغيرها من الوسائل التحفظية الأخرى المتاحة لدى القاضي المختص متعددة. وكان على هذا الأخير تقدير الخطورة التي يشكلها السيد نبيل القروي وما يتناسب ذلك مع بقائه في حالة سراح من عدمه حتى يلجأ إلى إصدار بطاقة إيداع بالسجن.
وفي علاقة بالحملة الانتخابية، فإن الفكرة الأساسية تبقى في مراعاة جميع الأحزاب السياسية والمرشحين لقواعد لعبة متكافئة. ومن الأهمية بمكان أن تُجرى الحملة الإنتخابية في بيئة تضمن حرية الحركة والتعبير وتكوين الجمعيات والتجمع. يجب الحفاظ على هذه الحريات بطريقة تسمح بتنظيم الحملات الانتخابية، وكذلك التواصل بالمواطنين ومدهم بمعلومات عن الأحزاب والمرشحين ورهانات الاقتراع. ويجب أن تكون الأحزاب والمرشحون أحراراً في توصيل برامجهم ومواقفهم السياسية للناخبين في جميع أنحاء البلاد.
وهنا لا نعتقد أن أسباب الطعن المحتملة قد تجد أساسها في بعض الأشكال التقليدية من الخروقات للانتخابات، بل بالعكس، نعتبر أن تقدير تكافؤ الفرص يجب أن يكون في الاتجاهين: في اتجاه من لم يتجاوز السقف القانوني وفي اتجاه من تجاوز ذات السقف. ومن الجائز أيضا أن يبادر المترشح الآخر السيد قيس سعيد مثلا بالطعن في نتائج الدور الثاني في صورة عدم فوزه بالانتخابات ولنفس الأسباب المتعلقة بعدم تكافؤ الفرص والتأثير على الناخبين والخروقات المتعلقة بالإشهار السياسي.
وعموما، فإن تكافؤ الفرص ليس بمبدأ مطلق وإنما هو نسبي، لأن الأصوات رغم تعادلها رقميا، عملا بقاعدة "شخص واحد، صوت واحد"، فإنها في المعادلة الانتخابية لا يكون لها ضرورة نفس الوزن. ويبقى على الطاعن في نتائج الانتخابات أن يثبت مدى تأثير عدم احترام الفائزين لأحكام الفترة الانتخابية وتمويلها على نتائج الانتخابات بصفة جوهرية وحاسمة. وعليه خاصة إثبات ماذا كانت ستكون عليه النتائج لو تم احترام القواعد، وهي معادلة صعبة الإثبات بسبب ما قد يعتري الدلائل والقرائن من قصور في مثل هذه الظروف ولقِصر المدة الزمنية للحصول على الحجج في آجال سريعة وتقديمها في طور التقاضي. فالمسألة لا تتعلق بمجرد ضرر مباشر أو غير مباشر يقع إثباته بالطرق العادية ولكن بسلامة العملية الانتخابية في جانبها الإجرائي والسياسي أيضا واحترام إرادة الناخبين خاصة.
في المقابل لم يعتبر القانون الأسباب الخارجية عن الحملة الانتخابية، بما فيها الأعمال الصادرة عن السلطات القضائية، من موجبات طلب إلغاء نتائج الانتخابات وذلك عملا بمبدأ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء وحيادها وقرينة الشرعية التي تمتع بها أعمال السلطة القضائية أيضا.
ما هي سلطة القاضي الإداري في الرقابة على صحة نتائج الانتخابات الرئاسية؟
يمكن الطعن في نتائج الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية وفقا للفصلين 147 و145 من قانون الانتخابات أمام الدوائر الاستئنافية للمحكمة الإدارية في النتائج الأولية للانتخابات وللاستفتاء في أجل أقصاه ثلاثة أيام من تاريخ تعليقها بمقرات الهيئة. والتقاضي يكون على درجتين، إذ "يمكن الطعن في الأحكام الصادرة عن الدوائر الاستئنافية من قبل الهيئة أو المترشحين المشمولين بالحكم أمام الجلسة العامة القضائية للمحكمة الإدارية في أجل أقصاه 48 ساعة من تاريخ الإعلام به" (الفصل 146).
وللإشارة، فإن طلب الإلغاء هو الوسيلة الوحيدة التي أتاحها القانون الانتخابي للطعن في نتائج الانتخابات، فلا طلب مراجعة ولا التماس إعادة نظر ولا حتى اعتراض. وفي علاقة بالمادة الانتخابية يختص القاضي الإداري بالنظر في الطعون في النتائج الأولية للانتخابات التي تصرح بها هيئة الانتخابات ويتثبت من شرعيتها، لكنه لا يصرح بالنتائج لأن هذا من اختصاص الهيئة حصريا.
غالبًا ما يكون قرار إلغاء الانتخابات أمرًا صعبًا وقد يكون له عواقب وخيمة في الممارسة (تكلفة تنظيم انتخابات جديدة، خطر الاحتجاج السياسي). ولذلك ينبغي تشجيع اتباع نهج مقيّد للإلغاء باستخدام معايير محددة. وهذه المعايير التي يقوم عليها الإلغاء هي في بعض الأحيان كمية، مثل الفارق في الأصوات أو النسب، لكنها تظل في الغالب نوعية. حيث يكون للقاضي الانتخابي سلطة تقديرية واسعة في هذا المجال. ويرجع ذلك أيضًا إلى حقيقة أن الأسباب المحتملة للإلغاء متعددة وإلى أن طبيعة ومدى الخروقات والمخالفات متفاوتة أيضا.
ومع ذلك، فقد يعتمد القاضي الإداري اثنين من المعايير التي ينبغي أن تساعده في ممارسة سلطته التقديرية عند النظر في النزاع الانتخابي: مبدأ تحديد جسامة التأثير على النتائج وأسلوب فجوة التصويت. وفقًا للمبدأ الأول، يجب أن يكون للمخالفات المنشأة للطعن تأثير حاسم على النتيجة. وفقًا للمبدأ الثاني، يأخذ القاضي الانتخابي في الاعتبار اختلاف الأصوات لإصدار حكمه: فكلما كان الفرق في الأصوات متقاربا كلما زاد احتمال الطعن في الإلغاء.
لكن وفي علاقة بالوضعية الحالية، هل ستَمْتَدُ سلطة القاضي الإداري إلى بسط رقابته على شرعية الأعمال والقرارات التي اتخذتها هيئة الانتخابات لتنظيم الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية وضمان حسن سيرها؟
المشكل القائم نشأ أساسًا من تعارض اختصاص الهيئة العليا المستقلة للانتخابات مع صلاحيات القضاة العدليين في المادة الجزائية. وهو يفترض طرح مسألة مدى حرص الهيئة بحكم ولايتها العامة والشاملة في علاقة بتنظيم الانتخابات على ضمان انتخابات ديمقراطية وحّرة وتعددية ونزيهة وشفافة. ذلك أنها بموجب الدستور والقانون "تتولى القيام بجميع العمليات المرتبطة بتنظيم الانتخابات والاستفتاءات وادارتها والاشراف عليها"، بما فيها تلك التي تتعلق بالعمليات السابقة للانتخابات، أي الأعمال التحضيرية وبمرحلة ما قبل الحملة الانتخابية، وتقوم في هذا الإطار خاصة "بضمان المعاملة المتساوية بين جميع الناخبين وجميع المترشحين وجميع المتدخلين خلال العمليات الانتخابية والاستفتائية".
ففي علاقتها بالقضاء العدلي الهاجس الذي يملي عمل الهيئة هو استقلالها تجاه السلطة القضائية، فهي تتولى مثلا إعلام النيابة العمومية عند الاشتباه في ارتكاب مخالفات أو جرائم أثناء الانتخابات أو الاستفتاء.
لكن هذه العلاقة القائمة على الاستقلال والحياد لا يمكن أن تؤثر بالمرة على ممارسة الهيئة لصلاحياتها التقريرية والترتيبية بوصفها هيئة دستورية مستقلة حفاظا على شرعية الانتخابات. وفي خصوص ما بات يعرف اليوم بـ"قضية" السيد نبيل القروي، من الضروري تحديد مسؤوليات جميع الأطراف المؤسساتية بما في ذلك الهيئة، خاصة على مستوى تعاملها الإجرائي وبالطريقة الإدارية البحتة مع مسألة رفض القضاء السماح للمترشح المحتفظ به ممارسته لحقه في القيام بحملة انتخابية فردية ومباشرة وفي كنف المساواة والحرية حسب ما يقتضيه القانون.
لا شك أن الهيئة هي أحرص جهة على أن تتم الانتخابات في بيئة سليمة وشفافة بتكافؤ الفرص بين جميع المترشحين، ويكون التنافس الشريف هو عنوان هذا الاستحقاق الانتخابي. لكن هل كان بإمكان الهيئة الذهاب إلى أكثر مما قامت به وهل ستطرح مسألة تقصيرها - على فرض وجوده - في هذا الملف على القضاء الإداري؟ وهل كان بإمكانها التعامل أيضا قضائيا مع رفض تمكين مترشح قيد الاحتفاظ من النفاذ إلى وسائل الإعلام مثلا؟
أسئلة نطرحها من باب الجدل لا غير لأنها قد تثار أثناء الطعن في نتائج الانتخابات وبالإمكان أن يجد القاضي الإداري نفسه مضطرا للخروج عن رقابة المطابقة لإجراء نوع من رقابة الملائمة على أعمال الهيئة والتثبت في ما إذا كانت الأعمال والقرارات التي اتخذتها أو التي ستتخذها الهيئة في علاقة بضمان تكافؤ الفرص بين المترشحين مناسبة وفقًا للغرض المنشود وتوقيتها والوسائل والإجراءات القانونية المتبعة مقارنة بالوسائل والإجراءات المتاحة. ولكن الطعن في نتائج انتخابات الدورة الثانية لا يعني ضرورة فتح باب الطعون في جميع العملية الانتخابية وتقديم جميع المآخذ والمسببات، فعامل التوقيت واختصار الآجال سيكون لها تأثير متوقع أخذا بعين الاعتبار الضرورة والتناسب بين الأهداف المنشودة والآثار المتوقعة من إلغاء نتائج الدور الثاني.
ما هو مآل الانتخابات الرئاسية في حالة إلغائها؟
من المهم التذكير بأن إلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية يبقى أصلا من اختصاص الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وهي تتمتع بسلطة تقديرية في هذا المجال. "ويمكن أن تقرر إلغاء نتائج الفائزين إذا تبين لها أن مخالفتهم لهذه الأحكام أثّرت على نتائج الانتخابات بصفة جوهرية وحاسمة وتكون قراراتها معللة". وعليه لمّا تقرر الهيئة صحة نتائج الانتخابات يكون من الصعب التشكيك فيها، وفي صورة ما تقرر إلغاؤها على الهيئة - والقاضي أيضََا - أن تقدر بتمعن ومسؤولية نتائج وعواقب قرار خطير من هذا القبيل.
في حالة ما إذا لاحظت المحكمة الإدارية مخالفات في سير العملية الانتخابية خصوصا لأحكام الفترة الانتخابية وتمويلها، فإن الأمر متروك لها كذلك لتقييم ما إذا كان من الضروري الحفاظ على نتائج الانتخابات، مع مراعاة طبيعة هذه المخالفات وخطورتها، أو إلغاء النتائج الأولية.
وفي هذا الباب، لا بد من التذكير بمقتضيات الفصل 142 من قانون الانتخابات والاستفتاء الذي أقر أن للهيئة أن تلغي النتائج في مكتب اقتراع أو أكثر أو في دائرة انتخابية إذا تبين لها وجود إخلالات جوهرية وحاسمة شابت عملية الاقتراع والفرز.
ونصت الفقرة الثالثة على ما يلي: "إذا كان من شأن النتائج الملغاة التأثير على تحديد المقاعد الفائزة في الانتخابات التشريعية، أو المترشح الفائز في الانتخابات الرئاسية، أو المترشحين لدورة الإعادة، أو نتيجة الاستفتاء، تقوم الهيئة بإعادة الاقتراع أو الاستفتاء في الدوائر الانتخابية التي ألغيت فيها النتائج طبق الأحكام الواردة بالأبواب المتعلقة بالفترة الانتخابية والاقتراع والفرز وإعلان النتائج، وذلك في مدة لا تتجاوز الثلاثين يوما الموالية لانقضاء أجل الطعن في النتائج الأولية للانتخابات والاستفتاء أو للإعلام بالأحكام الصادرة عن الجلسة العامة القضائية للمحكمة الإدارية".
كما تنص الفقرة الرابعة والأخيرة على أنه: "لا تتم إعادة الاقتراع إلا بين القائمات والمترشحين والأحزاب الذين سبق لهم المشاركة في الانتخابات والاستفتاء".
لكن في المقابل، وبموجب الفصل 143 يمكن للهيئة "أن تقرر إلغاء نتائج الفائزين إذا تبين لها أن مخالفتهم لهذه الأحكام أثّرت على نتائج الانتخابات بصفة جوهرية وحاسمة وتكون قراراتها معللة. وفي هذه الحالة يقع إعادة احتساب نتائج الانتخابات التشريعية دون الأخذ بعين الاعتبار القائمة أو المترشح الذي ألغيت نتائجه، وفي الانتخابات الرئاسية يتم الاقتصار على إعادة ترتيب المترشحين دون إعادة احتساب النتائج".
ونلاحظ بعض التداخل بين النصوص وعدم وضوح في بيان الآثار المترتبة عن إلغاء نتائج الدورة الثانية من الانتخابات وبين أي من المترشحين يستوجب إعادة الاقتراع. وهنا، نرى أنه من الضروري الفصل والتمييز بين حالتين مختلفتين:
• حالة الفصل 142: إلغاء الدورة وإعادة الانتخابات؛
إذا تبين للهيئة وجود إخلالات جوهرية وحاسمة شابت عملية الاقتراع والفرز، في هذه الحالة يمكن لها أن تلغي النتائج في مكتب اقتراع أو أكثر أو في دائرة انتخابية. وهذا النوع من الإخلالات يتعلق بعدم احترام الشروط الإجرائية لعملية الإقتراع من تصويت وتجميع وفرز للأصوات، ولكن هذه عناصر تؤشر أيضا على مدى سلامة المناخ العام المتصل بيوم الاقتراع من عدمه. لكن هذه الحالة الأولى تبقى في حدود الإخلالات التي تحدث يوم الاقتراع، ولا يمكن حينئذ إلغاء الانتخابات لأسباب وظروف تعلقت بإخلالات جوهرية حدثت خلال الفترات السابقة ليوم الاقتراع سواء كانت متصلة بفترة الحملة الانتخابية أو بمرحلة ما قبل الحملة الانتخابية.
لكن الإلغاء ليس بآلي وهو ليس كذلك بكلي وإنما يمكن أن يكون جزئي. إذ يُشترط أولا أن تؤثر النتائج الملغاة على تحديد المترشح الفائز في الانتخابات الرئاسية، أو المترشحين لدورة الإعادة. وهو ليس بكلّي ثانيا لأنه لا يتوجب إعادة الاقتراع إلا في مكتب الإقتراع أو فــي الدوائــر الانتخابية التــي ألغيــت فيهــا النتائــج.
هذا سيناريو لا يطرح عمليا مهما كان الفارق في الأصوات المتنازع في شأنها بين المترشحين الأولين، ولكنها يحدث خاصة بسبب وقوع إخلال جسيم في عملية الاقتراع بما يمس بنزاهتها، مثل التزوير وحشو صناديق الاقتراع، وكلّ الأفعال التي ترمـي إلـى تغييـر أو محاولـة تغييـر نتيجـة الاقتراع أو النيـل مـن ّسـرية التصويـت، وجميعها جرائم انتخابية يعاقب عليها القانون الانتخابي.
يترتب عن عدم احترام الشروط الإجرائية لعملية الإقتراع إعادة الاقتراع بين المترشحين وفقا للفقرة الأخيرة من هذا الفصل. وهنا السؤال المطروح ما المقصود بعبارة "بين المترشحين"؟ هل أنهما المترشحان للدورة الثانية وفي هذه الحالة يعاد الاقتراع للدورة الثانية فقط وبين هذين المترشحين فحسب، أم أن لفظ المترشحين يسري على كافة المترشحين للدورة الأولى وفي هذه الصورة تعاد الانتخابات منذ الدورة الأولى بمشاركة جميع المترشحين الذين سبق لهم المشاركة في هذه الجولة؟
قراءة سليمة للنص تقتضي أن تعاد الانتخابات بين المترشحين المتبقين للدورة الثانية وفي الدوائر الانتخابية التي ألغيت فيها النتائج فقط. لكن السؤال المطروح ماذا لو كانت هذه الإخلالات الجسيمة والجرائم المرتكبة يوم الاقتراع هي بفعل أحد المترشحين؟ وهل تعاد الانتخابات كذلك من دون مشاركة المترشح لدورة الإعادة الذي تكون قد سلطت عليه عقوبة تكميلية تقضـــي بالحرمان من الحقوق المدنية والسياسية قبل يوم الإعلان عن النتائج النهائية؟
الفرضية المطروحة ولئن كانت نظرية واستثنائية، لأنه يمكن أن يقع التلاعب بنتائج الدورة الثانية أو أن يحدث أمر خطير يوم الإقتراع يؤدي إلى توقيف العملية الانتخابية والتصريح بإلغاء كل عملية الاقتراع. في نهاية الأمر كلّها أسئلة لا نجد لها إجابات واضحة وصريحة في القانون الانتخابي للغموض والتداخل الذي يعتري الفصلين 142 و143.
• حالة الفصل 143: إلغاء نتائج الفائزين وإعادة ترتيب المترشحين؛
في هذه الصورة تُنسب الإخلالات للمترشحين أنفسهم إذا تبين للهيئة ارتكابهم لمخالفات لأحكام الفترة الانتخابية وتمويلها بما يؤثر على نتائج الانتخابات بصفة جوهرية وحاسمة. والنتيجة التي يرتبها القانون في هذه الحالة هي مزدوجة: إلغاء نتائج الفائز وليس الدورة بأكملها، ثم إعادة ترتيب المترشحين دون إعادة احتساب النتائج.
غير أن هذا الفصل يبقى غير دقيق لأنه لا يتعلق بالدورة الثانية فقط وإنما بكل الانتخابات الرئاسية. فالمسألة لا تتعلق بإعادة ترتيب مترشحين إثنين فحسب، كأن يصبح الثاني الأول والأول الثاني، ولكن قد يؤدي إلغاء نتائج الفائزيـن بصفـة كليـة أو جزئيـة إلى إعادة تأهيل المترشح الثالث في الدور الأول بموجب إعادة الترتيب. وهذه الصورة تبقي غريبة نوعا ما لأنها ستؤدي إلى استعادة مترشح ثالث أو حتى رابع من الدور الأول وإسناده ترتيبا في الجولة الثانية دون أن تقع إعادة هذه الجولة الأخيرة من الانتخابات، وكأن الهاجس الأول لواضعي قانون الانتخابات والاستفتاء هو النتائج وليس سلامة العملية الانتخابية برمتها وتمرير السلطة من رئيس منتخب إلى آخر.
بالإضافة إلى هذا التداخل بين الدورتين الأولى والثانية، فإن الإشكاليات المترتبة عن تطبيق الفصل 143 على ضوء الفرضيات المحتملة لا يمكن حلّها بالاستناد إلى النص. ومثل الحالات التي تبقى في رأينا ممكنة هو أن يفقد أحد المترشحين للدور الثاني وقبل الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية صفة الناخب، بموجب حكم قضائي سالبا الحرية مع العقوبات التكميلية (حرمان من الحقوق المدنية والسياسية) الأمر الذي يُفقده صفة المترشح، فما الحل؟
هذه ليست بحالة تدخل في مجال تطبيق الفصل 143 حتى يقع إعادة ترتيب المترشحين، ولا حتى ضمن الحالة المنصوص عليها بالفصل 142 حتى تتولى الهيئة إلغاء النتائج وإعادة الانتخابات. ولكن المنطق واحترام المبادئ الديمقراطية يقتضيان من جهة أخرى إعادة الانتخابات على الأقل بين المترشحين الذين سبق لهم المشاركة فـي الدورة الأولى للرئاسية، هذا على فرض أنه لن تقع إعادة العملية الانتخابية منذ البداية.
والقصور الذي نشير إليه ناجم كذلك عن الفصل 75 من الدستور وكذلك الفصل 49 من قانون الانتخابات والاستفتاء والذين لم يتعرضا إلا لحالة وفاة أحـد المترشحينْ فـي الـدورة الأولى أو أحـد المترشحينْ لـدورة الإعادة، ولم يقع التعرض فيهما إلى حالة فقدان أحد المترشحين في الدورة الأولى وخاصة لدورة الإعادة لصفته كمترشح للسبب الذي أسلفنا ذكره. وفي هذه الحالة الأخيرة هل يعـاد فتـح بـاب الترشـح وتحديـد المواعيد الانتخابية مـن جديـد فـي أجـل لا يتجـاوز خمسـة وأربعـن يومـا، أم أنه يتم إعادة ترتيب المترشحين بتقديم المترشح الذي حل في المرتبة الثالثة في الدورة الأولى ليصبح في المرتبة الثانية ويؤهل بذلك لدورة الإعادة وتنظم على هذا الأساس الدورة الثانية بينه وبين المترشح الأول؟ وما الحلُّ في صورة ما إذا فقد أحد الفائزين في الدورة الأولى لصفتهم كناخب خلال الفترة الفاصلة بين دورة الإعادة وقبل التصريح النهائي بنتائج الانتخابات؟
إذا تم إلغاء الانتخابات، من الذي يترأس ولأي أسباب؟
لا ينظم الدستور فرضية إلغاء الانتخابات وعدم إعلان النتائج، وهي حالة تتعارض مع فرضية تأجيل الانتخابات الرئاسية المنصوص عليها بالفصل 75 من الدستور إذا ما تعذر إجراء الانتخابات فـي موعدهـا بسـبب خطـر داهـم وفـق الفصـل 80 مـن الدسـتور.
إلغاء الانتخابات وإعادتها جزئيا أو كليا قد يترتب عنه في الوضع المؤقت الحالي تجاوز المدة الرئاسية المؤقتة والمحددة بالدستور بأجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما وفق الفقرة الثانية من الفصل 84 من الدستور، ولو تجاوزنا الآجال الدستورية ببضعة أيام فقط.
أسباب تجاوز المدة الدستورية المؤقتة يمكن أن تكون بسبب الطعن في نتائج الدور الثاني للانتخابات الرئاسية من قبل أحد المترشحين للدور الأول واستنفاد جميع أطوار التقاضي في الغرض، أو كذلك بسبب إعادة الانتخابات في الحالة المنصوص عليها بالفصل 142 من قانون الانتخابات والاستفتاء وذلـك فـي مـدة لا تتجاوز الثلاثين يوما الموالية لانقضاء أجـل الطعـن فـي النتائـج الأولية للانتخابات أو للإعلام بالأحكام الصــادرة عن المحكمة الادارية العليــا.
احترام آجال التقاضي سيؤدي حتما إلى تجاوز مدة التسعين يوما القصوى المحددة بالدستور. وانتهاء المدة الرئاسية المؤقتة يعني دستوريا وعمليا انتهاء صلاحيات الرئيس الحالي القائم بأعمال رئاسة الجمهورية. من سيتولى حينئذ رئاسة الجمهورية خلال المدة الفاصلة بين انتهاء المدة الرئاسية المؤقتة والإعلان النهائي عن انتخاب رئيس جمهورية جديد ومباشرة هذا الأخير لمهامه بعد أداء اليمين الدستورية وليس قبلها؟
أولا، المبدأ العام هو أن السلطة لا تتحمل الفراغ وأنه لا بد من استمرارية الدولة ومؤسساتها وبالتالي لا مجال لاحداث أي فراغ دستوري على مستوى رئاسة الجمهورية.
ثانيا، الهدف الأول والأخير من الانتخابات الرئاسية المبكرة هو تأمين انتقال السلطة وتمريرها من رئيس موقت كلّفه الدستور بمهام رئيس الجمهورية لفترة انتقالية إلى رئيس منتخب سيتولى ممارسة مهامه لمدة خمس سنوات كاملة.
ثالثا، لا يجوز التمديد في المدة الرئاسية الانتقالية الحالية بقانون لعدم توفر الشروط القانونية المنصوص عليها بالفصلين 75 و 80 من الدستور.
رابعا، انتهاء المدة الرئاسية الانتقالية مع عدم انتخاب رئيس جمهورية خلال الآجال الدستورية المحددة بتسعين يوما أقصاها سيحدث حالة شغور في منصب رئاسة الجمهورية. وسد الشغور يكون وفق أحكام الدستور وخاصة الفصل 84 فقرة ثانية والفصل 85 منه.
خامسا، لا مجال لتطبيق أحكام الفصل 84 فقرة أولى في هذه الصورة، لأن الشغور الوقتي لا يحدث إلا في صورة حدوث أسباب تحول دون تفويض رئيس الجمهورية سلطاته وخلال المدة الرئاسية وليس بعد انتهائها.
سادسا، أن حالة انتهاء مدة القائم بمهام رئيس الجمهورية تعيد الأطراف إلى الحالة التي كانت عليها قبل سد الشغور النهائي الذي استوجبه وفاة الرئيس المباشر آنذاك السيد محمد الباجي القائد السبسي يوم 25 جويلية 2019، وبانتهاء هذه الفترة يعود السيد محمد الناصر إلى مباشرة مهامه بوصفه رئيس مجلس نواب الشعب.
سابعا، أن الفصل 84 فقرة ثانية من الدستور حدد حالات الشغور النهائي في في حالة تقديم رئيس الجمهورية استقالته كتابة إلى رئيس المحكمة الدستورية، أو في حالة الوفاة، أو العجز الدائم، أو لأي سبب آخر من أسباب الشغور النهائي؛ وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار انتهاء المدة الرئاسية الانتقالية وعدم انتخاب رئيس جديد ومباشرته لمهامه هو من حالات الشغور النهائي التي تقتضي مبدئيا تفعيل أحكام الفصل 84 فقرة ثانية، والذي يقتضي معاينة الشغور فورا من قبل المحكمة الدستورية (غير قابل للتنفيذ) وتكليف رئيس مجلس نواب الشعب الذي يتولى فورا مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة لأجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما.
عمليا، هذا يعني أنه سيكون من الضروري العودة إلى المبدأ العام الذي بموجبه رئيس مجلس نواب الشعب هو الذي يتولى مهام رئيس الجمهورية المؤقت، لأنه سيكون هناك شغور نهائي للسلطة، ولمدة زمنية مؤقتة قد لا تتجاوز حتى الأجل الأدنى المحدد بخمسة وأربعين يوما إلى حين الانتهاء من انتخاب رئيس جمهورية جديد يتسلم مهامه وفقا للدستور. وفي هذه الصورة قد يُعيد الرئيس الحالي العهدة مرة ثانية بعد أداء اليمين الدستورية مرة أخرى وقد يكون القائم بأعمال رئيس الجمهورية رئيس مجلس نواب الشعب الجديد إن تم التصريح بالنتائج النهائية قبل انقضاء الآجال الدستورية للتسعين يوما - وهو أمر صعب من الناحية العملية.
الخيار الأخير هو أسلم من الناحية القانونية لأنه يضمن شرعية المؤسسات الدستورية وصحة أعمالها ويدعم ركائز سيادة القانون. لأن الذهاب نحو خيار آخر سيعرض أعمال الشخص الذي سيواصل مباشرة مهام رئيس الجمهورية رغم انتهاء المدة الدستورية إلى إمكانية الطعن في شرعية قراراته وإلغائها. فلو أخذنا الفرضية القصوى المتمثلة في إلغاء الانتخابات الرئاسية وإعادتها جزئيا أو كليا، يتولى رئيس الجمهورية دعوة الناخبين للانتخابات الرئاسية الجزئية أو المعادة كليا، في هذه الحالة يصبح أمر دعوة الناخبين صادرا عن سلطة منتهية الصلاحيات.
في الختام، الخيار صعب بين التمسك بالصيغ والآجال الدستورية والسهر على احترامها بحذافيرها وما يمكن أن يخلق ذلك من تعقيدات وحالة شاذة، كأن يكون لنا قائم بمهام رئيس الجمهورية مجددا لبضعة أيام فقط، وبين المحافظة على استمرارية الدولة مع احترام استقرارا المؤسسات وانتقال السلطة من رئيس مكلف إلى رئيس منتخب دون الدخول في مطبات التغييرات الدستورية المفاجئة أو الحلول المعقدة، حتى وإن اقتضى الأمر تجاوز الآجال الدستورية ببضعة أيام؛ لأن وظيفة رئيس الجمهورية ليست بغاية في حد ذاتها بقدر ما هي ضمان لاستمرارية الدولة. ولهذا نرى من الضروري تقديم روح الدستور على أي اعتبار آخر حفاظا على الدولة واستمرار المؤسسات وحماية للمسار الديمقراطي الذي بات مهددا بتعلات وممارسات غير أخلاقية وغير دستورية، مع شرط المحافظة على شرعية المؤسسات وضمان السلامة القانونية لأعمالها كركيزة أساسية لسيادة القانون.
هيكل بن محفوظ
أستاذ القانون الدستوري
كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس
- اكتب تعليق
- تعليق