عياض ابن عاشور: خواطر حول الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية
كان لوفاة الرئيس الباجي قايد السبسي أثره على تسريع سير الأحداث السياسية في بلادنا في اتجاه قد يصعب التنبّؤ به، لا سيّما فيما يخصّ الانتخابات. وها إنّ الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية قد تمّت، فما هي الاستنتاجات التي يمكن أن نخلص إليها؟
إنّ التّونسيين بوسعهم، بغضّ النّظر عن كلّ النّقد الموجّه إلى المؤسّسات المنبثقة عن الثورة ودستور 2014، أن يفخروا بقدرتهم على رفع التحديات غير المنتظرة التي فرضتها الأحداث بالاعتماد الطبيعي على المؤسّسات الدّستورية. فرغم كلّ شيء، أدّت القواعد الدستورية وظيفتها التعديلية مدعومة في ذلك بحكمة الرّجل القائم اليوم بمهام رئيس الدّولة بالنيابة، السيد محمّد النّاصر. لقد توفّقنا في تجنّب أزمات كان بإمكانها أن تعصف بنا وتهدّد حاضرنا ومستقبلنا. فاللّعبة الديمقراطية لا بديل عنها، وقوّة الديمقراطية هي الأقدر على تذليل أعتى الصّعوبات.
وطبيعي أن تصدم نتائج الجولة الأولى فئات من الرّأي العام، مقابل تقبّل فئات أخرى لها بارتياح وفرح. فالأمر طبيعي في الديمقراطية. لقد منحت صوتي لمرشّح لم يحالفه التّوفيق في اجتياز عتبة الجولة الأولى ولكن لم يثر ذلك حزنا في نفسي أو أسفا على اختياري، بل لمست في الأمر اعتزازا بمرشحي الذي ساهم في إثراء النقاش الديمقراطي وتعزيز خيار التّعدّدية، وفخرا لي بالنظر لما أعيشه من تقدّم سيـــاسي عظيم قطعته تونس منذ أن وأدت نظامها الدّكتاتوري.
لقد أفضت الانتخابات إلى معاقبة الشخصيات التي ساهمت، ولو على نحو غير مباشر، في منظومة الديمقراطية النّاشئة منذ الترويكا إلى انتخابات 15 سبتمبر والتي مثّلت، فعلا، وكما أشار إلى ذلك عديد الملاحظين، انتخابا عقابيا ضدّ المنظومة. لكن عن أيّ منظومة نتحدّث؟
إنّها المنظومة التي ساهمت في تعميق مَواطن الضّعف في النّظام الدّيمقراطي، والمتمثّلة في تحمّل تبعات الاشتغال السيّء للمؤسّسات، سواء داخل المجلس أو صلب الجهاز التنفيذي؛ والإخفاق في إرساء المحكمة الدّستورية؛ وسوء التصرّف في مسألة التنقيح الأخير للقانون الانتخابي والاستهتار به، رغم مشروعيته والتحذيرات التي أطلقتها الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات السّابقة منذ 2015؛ وإلقاء القبض على مرشّح إلى الرئاسيات في أوج الحملة الانتخابية متسبّبة في مشكل لا حلّ له ومأزق قانوني يستحيل على أيّ مختصّ في القانون إيجاد مخرج له. وهي أيضا المنظومة التي تتحمّل مسؤولية انحراف الحياة الحزبية وما شابها من تجاوزات؛ واستفحال الفساد ودمقرطته؛ وتفشّي الفوضى في المجتمع، واستضعاف الدّولة في مجالات التهيئة العمرانية، والالتزام الاجتماعي بالقانـون، لا سيما في حركة المرور، والحفاظ على البيئة، والتصرّف في النّفايات؛ والعجز عن إدارة الأزمة الاقتصادية، وتدهور الظروف الاجتماعية للمواطن؛ والتّصادم بين الفئات الاجتماعية، أخلاقيا واجتماعيا ودينيا؛ وهجرة النّخب؛ واستفحال سياســـة المكيالين في مجـــال خدمات الصحّة العمومية والتعليم؛ والتّدهور المريع لمستــــوى العيش وما صاحبه من تأزّم ظروف الحياة. على أنّ هـذه المســؤولية لا علاقة لها بالأداء الشخصي للوزراء ورؤساء الحكومات المتعـاقبين أو كفاءتهم، وإنّما هي مسؤولية موضوعية يتعيّن عليهم تحمّل تبعاتها بحكم مشاركتهم في المنظومة.
لقد قيل عن مآل هذه الانتخابات أنّها نتيجة الشعبــوية. وهـــو استنتاج صحيح، إلاّ أنّ الشعبوية ليست، خلافا لما يُعتقد، ظاهـــرة مرضيــة ولا هي انحــراف للنظام الديمقراطي بل هـي التطبيق الصرف للمبدإ الديمقراطي القائل بالعودة إلى الشّعــب، وتحـديدا إلى أغلبية النّاخبين. لكن دعونا نلاحظ، بالمناسبة، أنّ هذه الأغلبية لا تتطابق تماما مع مفهوم «الشّعب» بل هي مجرّد اختزال له. وهذا المبدأ قابل للنقاش والمساءلة بصفته تلك، وقد سبق الطعن فيه، في مستوى الفلسفة الاجتماعية والسياسية، من طرف مفكّرين كبار. على أنّ هذه المسألة ليست من صلب اهتمامنا الحالي. وهو مبدأ أدرجناه في دستورنا ويتعيّن قبوله حتما. فالأغلبية التي أفرزتها انتخابات 15 سبتمبر منحت ثقتها لأشخاص تتوافق مع تمثّلاتها المحافظة للحياة الاجتماعية والسياسية. ليس أكثر ولا أقلّ. علما بأنّ خطر الشعبوية لا يكمن في كنه الشعبوية ذاتها بل في انحرافاتها التي قد تكون كارثية. والديمقراطية قادرة، مثلما هو الشأن في فرنسا السترات الصّفراء، على إيجاد الحلّ الدّيمقراطي للقضايا التي تطرحها الشّعبوية. لكن، للأسف، يمكنها، في صورة هشاشة النظام الديمقراطي، فسح المجال أمام بروز نظام تسلّطي ومحافظ اجتماعيا كما هو شــأن العــــديد مـــن التجارب الأوروبية أو اللاتينية الأمريكية الشهــيرة فيما مضى.
لننتظر، إذن الدّور الثّاني، ولننتظر خاصّة الانتخابات التّشريعية إذ سيتحدّد المستقبل على ضوء هذين الحدثين. بعدها ستختار تونس بين طرق: إمّا عقلنة نظامها البرلماني من خلال مراجعة الدّستور، وإمّا السير في طريق الشعبوية المحافظة، وإمّا المضيّ في حياة سياسية تشقّ طريقها الصّعب على المدى الطويل بين الزّحف الديمقراطي والأزمات الخانقة، وإمّا السقوط في الافتراض الأفلاطوني، أنّ الديمقراطية تنجب الاستبداد. وحسبي المراهنة، بالنسبة إلى النقطة الأخيرة، على إنّ تونس الحديثة ليست اليونان القديم.
عياض ابن عاشور
ترجمة فتحي بن الحاج يحيى
قراءة المزيد:
- اكتب تعليق
- تعليق