عمر شرميطي: الفلاحة التونسية بين التحديات والآفاق والمصير
من المتأكد أن البلدان المتقدمة التي وصلت إلى مستوى تكنولوجي وصناعي مرتفع نسبياً، لم يكن ذلك دون تنمية زراعية شاملة. لذلك ، ومن المعلوم أن تونس ، ومنذ استقلالها ، عملت في مجال التنمية الزراعية، بآعتبار أنها تشكل المصدر الرئيسي للدخل لغالبية مواطنيها، وبالتالي أهمية دورها الاقتصادي، والاجتماعي والسياسي. ومع ذلك، شهدت الفلاحة التونسية على مدى عقود فترات مختلفة من التاريخ، إذ أن مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي، التي مثلت أكثر من 20 ٪ خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، أصبحت هذه المساهمة خلال السنوات الأخيرة أقل من 10 ٪.
كما نلاحظ أيضا أن توفر العديد من المنتجات الزراعية في السوق المحلية يمكن أن يترجم، بالنسبة للبعض، وبالخصوص للسياسيين، أن الفلاحة التونسية في حالة جيدة، ولكن لا ينبغي أن يخفي هذا الوضع هشاشة أنظمة الإنتاج. وفي الواقع، يلاحظ خلال الفترات الممطرة، أضرارا كبيرة في العديد من المناطق، ومثل هذه النتائج ليست جديدة للمزارعين وكذلك للمسئولين. وبالمثل، فإن الضرر كبير، خلال سنوات الجفاف، ولكن من طبيعة أخرى. إذ أنه في ظل هذه الظروف، تكون المحاصيل محدودة ومنعدمة في عديد المناطق. فعلى سبيل المثال، تتأثر إنتاج الحبوب والأعلاف، وبالتالي، ترتفع نسبة الواردات من الأسواق الخارجية ويكون اللجوء إلى الصندوق العام للتعويض هو الحل الذي ظل قائما منذ عقود.
الفلاحة الوطنية بين الواقع والتحديات
تجابه الفلاحة الوطنية العديد من التحديات مما يعيقها أن تكون أكثر إنتاجية، وأكثر تنافسية وأكثر مردودية مع الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية لضمان حياة أفضل للأجيال القادمة. ومن بين هذه التحديات، نشير بالخصوص بما يلي:
- لقد أعتبرت الفلاحة التونسية ومنذ عقود، على أنها أداة إنتاج ، في حين وجب اليوم تعريفها على أنها الولوج إلى الأسواق. وبالإضافة إلى ذلك، غالباً ما يترك المنتجون الفلاحيون والبحارة في أيادي الوسطاء الذين يستفيدون من هوامش كبيرة من الربح؛ في حين أن الأسعار على مستوى الإنتاج غالباً ما تكون أقل من تكاليف الإنتاج. وبالتالي فإن من بين نتيجة سياسة الأسعار هي عزوف الشباب على القطاع لأنه غير مربح، ونتيجة لذلك لم نتمكن من خلق جيل جديد من المنتجين الزراعيين.
- غالباً ما يتم تحديد الأسعار المفروضة على الفلاحيين من قبل المسوقين للمنتوج الفلاحي، والحالة الأكثر إثارة هي الحبوب، بآعتبار، أن المجمعين هم الذين يحددون الأسعار ، بعد أن يتم تحديد الجودة من خلال التحاليل التي يقومون بها بأنفسهم، وفي كل الحالات يكون السعر أقل من السعر المحدد من طرف الوزارة.
- تكاثر عمليات السطو والسرقات والتهريب، وبالتالي أصبح انعدام الأمن الزراعي حقيقة ملموسة، كما أصبحت القوى العاملة أكثر فقرا في السنوات الأخيرة، إذ يشكل الجزء المهم من هذه القوة العاملة النساء الريفيات التي تضم أكثر من 400 ألف فرد، في ظل عدم إهتمام السياسات الفلاحية بهذه القوى.
- عديد الفنيين والمهندسين الزراعيين والأطباء البياطرة المتخرجين من عديد المؤسسات الجامعية ومراكز التدريب المهني والتقني عاطلين عن العمل،
- نظام وطني للبحوث الزراعية فريد من نوعه في العالم يتميز بتشتت وتناثر الهياكل (معاهد، مراكز جهوية ، محطات بحوث، مختبرات جهوية، إدارات ومصالح جهوية، إلخ) ، بالرغم من عديد الإنجازات المتاحة ، لعقود من الزمن. وبالمثل ، نتساءل كذلك ما إذا كانت المواضيع التي تتناولها برامج البحث تلبي بالفعل إنتظارات الفلاحين؛ في حين توجد العديد من التحديات وجب معالجتها اليوم وغداً، على غرار التغيرات المناخية، الطاقة، القدرة التنافسية، المردودية، جودة المنتجات الزراعية، التسويق والتصدير إلى الأسواق الخارجية، إلخ.
- هشاشة كل نظم الإنتاج الفلاحي سوى خلال السنوات الممطرة أو الجافة، عزوف الشباب عن الفلاحة نتيجة ضعف المردودية للقطاع، بالرغم من أن كل السياسيين يقرون أن تونس بلد فلاحي بآمتياز وأن القطاع الفلاحي يكاد يكون القطاع الوحيد من الممكن أن يساهم إسهاما كبيرا وفاعلا في التنمية الاقتصادية، بينما يقع إهتمام أكثر للقطاعات الأخرى، على غرار السياحة والتجارة والصناعة. نشير أن تونس ليس بلدا صناعيا أو منتجا للتكنولوجيات الحديثة، بل مستورد لأغلبية المنتجات، بما في ذلك المنتوجات الفلاحية للتغذية البشرية والحيوانية، ونخص بالذكر الحبوب والذري والصوجا والمكملات الغذائية.
لا يمكن أن يستمر مفهوم الفلاحة على أساس أنه أداة إنتاج
اعتبارا لأهمية القطاع الفلاحي على المستويين التنموي و الإجتماعي والسياسي، نرى أنه أصبح من الضروري التفكير في تحديد مفهوم ودور الفلاحة اليوم وغدا لهدف لضمان حياة أفضل للأجيال القادمة. ومن بين المقترحات:
- ضرورة مراجعة منظومة التكوين التقني والمهني والإرشاد والتعليم العالي والبحث العلمي والإرشاد الفلاحي لتكون ذات نجاعة فاعلة، تأخذ بالإعتبار التحديات الحالية والمستقبلية للقطاع، ومرتبطة بمنظومة الإنتاج والتسويق، وهذا ما يتطلب أيضا مراجعة هيكلة وزارة الإشراف (révision de l’organigramme du ministère)
- إعادة النظر في دور الدواوين والمجامع المهنية لتكون أكثر فاعلية وبالخصوص في ما يتعلق بالمسائل التقنية والفنية والربط بين البحث العلمي ونقل وتطبيق التكنولوجيا لدى الفلاح
- العمل على إيجاد منهجية وبرامج فعلية لحل المسائل الإستراتيجية المتعلقة بالموارد الطبيعية والمصادر الوراثية وبالخصوص التربة والبذور والمياه مع إعتبار التغيرات المناخية وتسويق المنتجات الفلاحية والغذائية على المستوى الإقليمي والدولي
- تكثيف استعمال التكنولوجيات الحديثة و إعتماد طرق تراعي متطلبات الفلاحة المستدامة والمحافظة على الموارد الطبيعية، زيادة على تحسين المردودية والرفع من القيمة المضافة مع العمل على إيجاد حلول جذرية لتحسين القيمة المضافة لمنتجاتنا عامةً و لتثمين المنتجات الفلاحية الإضافية والنهوض بالصناعات الغذائية والفلاحة البيولوجية
- مراجعة نظم مسالك التوزيع ومراقبة الجودة وتحديث طرق التسويق بما يرفع من مداخيل الفلاح ويضمن نوعية المنتوج التونسي والنهوض بالصادرات
- العمل على تسوية المشاكل العقارية و حسن استثمار المخزون العقاري الفلاحي ومراجعة مقاييس الإستثمارات وتمويل المشاريع الفلاحية لهدف خلق جيل جديد من المقاولين المزاراعين (ُEntrepreneurs Agricoles) مع إحداث قانون أساسي للفلاحين المقاولين (élaboration d’un statut d’entrepreneurs agricoles) وكذلك مؤسسات فلاحية ذات مسؤولية محدودة (Entreprises Agricoles à Responsabilité Limitéé : EARL) عوض التعاضديات والمجامع والشركات التقليدية.
من الممكن أن تتيلور مثل هذه المقترحات وعديد المقترحات الأخرى، في إطار برنامج وطني أخضر مزدوج وآستعجالي (Programme National Doublement Vert et d’Urgence :PNDVU)، يآخذ بالإعتبار خصوصيات الجهات والتكامل بينها، زيادة على البرامج ذات الطابع الأفقي والمرتبطة بكل القطاعات، على غرار التمويل والبنية التحتية والبيئة ووسائل الإتصال والمعلومات والأمن والتجهيز بآعتبار أن الفلاحة قطاع متعدد الوظائف (l’agriculture est un secteur à caractère multifonctionnel). لذلك من الضروري تشريك كل الكفاءات وليس إبعادها لتكون فلاحة الغد ضامنة للسيادة الغذائية، تساهم أكثر ويصفة مستمرة في الميزان التجاري من خلال التواجد في الأسواق العالمية ومحافظة على البيئة والمحيط والموارد الطبيعية لضمان حياة أفضل للأجيال القادمة.
د/ عمر شرميطي
مدير البحث الفلاحي
المدير العام السابق للمعهد الوطني للبحوث الزراعية بتونس وعضو المجلس التنفيذي للمنتدى الإفريقي للبحوث الزراعية
- اكتب تعليق
- تعليق