أخبار - 2019.09.15

محمّد إبراهيم الحصايري: شـذرات دبـلوماسيـة مـن سـيرة قائد السـبسي

 محمّد إبراهيم الحصايري: شـذرات دبـلوماسيـة مـن سـيرة قائد السـبسي

حين التحقت، في أواسط سنة 1981، بالعمل في وزارة الشؤون الخارجية، عُيِّنْتُ، مباشرة، في ديوان الوزير الذي كان يومئذ السيد الباجي قائد السبسي تغمّده الله بواسع رحمته. وحين أعود بالذاكرة إلى السنوات الثلاث التي قضّيتها في العمل في الديوان (جويلية 1981/ جويلية 1984)، فإنّ أهمّ ما أزال أحتفظ به في ذهني عن شخصيّة السيد الباجي قائد السبسي الجذّابة ثلاث خصال كبرى سأحاول تفصيل الحديث عنها فيما يلي:

الخصلة الأولى: الجرأة الحكيمة أو الحكمة الجريئة

كانت هذه الخصلة تتجلّى بكل وضوح في اجتماعات وزراء الشؤون الخارجية العرب العادية والطارئة التي كانت تنعقد، بوتيرة مسترسلة، في تونس التي كانت تحتضن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وقد كنت أحضرها، بانتظام، لأنّ المغفور له السيد الطيب السحباني الذي كان مندوب تونس الدائم لدى الجامعة، كان حريصا على تشريكي فيها بعد أن أعجب بالتقرير الذي أعددته عن مجريات أوّل اجتماع حضرته إلى جانبه وأنا ما أزال في بداية حياتي الدبلوماسية.

في تلك الفترة التي أعقبت إبرام اتفاقيات كامب ديفيد وخروج مصر من جامعة الدول العربية، وانتقال الجامعة إلى تونس، والتي تعاقبت فيها على الساحة العربية جملة من الأحداث الجسيمة، على غرار تأجّج الحرب بين العراق وإيران، وضرب المفاعل النووي العراقي، واجتياح بيروت، وانتقال القيادة الفلسطينية إلى تونس، وانعقاد قمّتي فاس الأولى والثانية... كانت اجتماعات وزراء الشؤون الخارجية العرب صاخبة بسبب تنافر وجهات النظر والمواقف خاصّة بين الدول العربية الرئيسية، في ذلك الحين، وهي خلافات كانت تزداد احتدادا بحدّة ألسنة وزراء من أمثال الوزير السوري عبد الحليم خدام والوزيرين العراقيين سعدون حمادي ثم طارق عزيز، ورئيس الدائرة السياسية الفلسطيني فاروق القدومي..

وكان الوزراء العرب، عندما يشتدّ الخلاف، ويحتدّ الجدل يرقبون السيد الباجي قائد السبسي، رحمه الله، ويترقّبون مداخلاته التي كانت تتميّز بما أسمّيه الجرأة الحكيمة أو الحكمة الجريئة والتي كانت تساعد على تقريب وجهات النظر وعلى الخروج من مآزق التشبّث العنيد بالمواقف الصّارمة، لا سيّما وأنّه كان يطعّم صراحته بروح دعابته المعهودة...

أما أنا فقد كنت، كدبلوماسي مبتدئ، أجد في مداخلات السيد الباجي قائد السبسي من حيث المبنى والمعنى، دروسا ميدانية في العمل الدبلوماسي الذي كان علينا أن نتعلّم مبادئه بالمراس إذ لم يكن للوزارة، في ذلك الوقت، معهد دبلوماسي للتكوين والدراسات، مثلما هو الشأن اليـوم، ولا أكاديمية للدراسات الدبلوماسية مثلما سيكون الشأن قريبا.

الخصلة الثانية: الروح الوطنية العالية والحسّ القومي الصادق

لم تكن مداخلات السيد الباجي قائد السبسي ومقترحاته تحظى بالإعجاب والقبول، لأنّها كانت منطقية ومعتدلة فحسب، وإنّما أيضا لأنّها كانت مشبعة بروح وطنية عالية وحسّ قومي صادق، وقد ظهرت هذه الروح وتجلى هذا الحسّ في العديد من المواقف التي أعرب عنها، والعديد من التحرّكات التي قادها، باسم تونس، من أجل المساهمة في معالجة عدد من الأوضاع العربية الحرجة.

كان ذلك مثلا من خلال الجهود الدبلوماسية الحثيثة التي بذلها مع العديد من كبريات العواصم وخاصة مع العاصمة الفرنسية باريس، من أجل فكّ الحصار عن الرئيس ياسر عرفات وعناصره وإخراجهم من بيروت سالمين، بعد أن اجتاحها الجيش الإسرائيلي.

ومثلما يروي ذلك في كتابه «الحبيب بورقيبة، المهمّ والأهمّ» فقد كان حريصا، التزاما من تونس بقرارات قمّة فاس، على المشاركة شخصيا «في البعثة التي ترأسّها الملك الحسن الثاني إلى الرئيس ريغان والبعثات التي ترأسّها العاهل الأردني الملك حسين إلى الرئيس ميتران في باريس، والرئيس أندروبوف في موسكو، والرئيس زيانغ تشاو السكرتير الأوّل للحزب الشيوعي الصيني في بيكين» من أجل التعريف بخطة السلام العربية والتعرّف على مواقف الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي منها...

غير أنّه من منطلق مبدئي قرّر، في مرحلة أولى، عدم مشاركة تونس في البعثة التي التقت بمارغريت تاتشر بسبب رفضها استقبال ممثل منظمة التحرير الفلسطينية، فقد اعتبر أنّ  هذه البعثة التي كانت هي أيضا برئاسة الملك حسين «لا معنى لها مبدئيا دون أبو مازن بينما منظمة التحرير الفلسطينية هي في صميم المشكلة» غير أنّ «إصرار الزملاء العرب أدّى إلى حلّ وسط» تولّى بموجبه السيد محمود المستيري كاتب الدولة للشؤون الخارجية تمثيل تونس فيها (انظر كتاب «الحبيب بورقيبة، المهمّ والأهمّ»، الباجي قائد السبسي، دار الجنوب للنشر تونس سنة 2011،  ص 245).

على أنّ مزيج الروح الوطنية العالية والحسّ القومي الصادق، تجلّى في أبهى مظاهره في المعركة الدبلوماسية التي أعقبت العدوان الإسرائيلي على حمّام الشطّ، فمثلما هو معلوم أفضت مداولات مجلس الأمن بشأن هذا العدوان إلى انتزاع أول وآخر امتناع أمريكي عن استخدام حق النقض في مواجهة قرار يدين إسرائيل...

ومن ناحية أخرى وفيما يتعلق بالحرب بين العراق وإيران، أتذكّر أنّ آخر مهمّة رافقت فيها السيد الباجي قائد السبسي، رحمه الله، كانت قبيل تعييني بالرباط، وقد قادتنا إلى أثينا عاصمة اليونان، ولشبونة عاصمة البرتغال اللتين زرناهما رفقة السيد عبد الواحد بلقزيز وزير الشؤون الخارجية والتعاون المغربي في إطار بعثة عربية مكلفة بحث العاصمتين على المساهمة في العمل على وقف الحرب العراقية الإيرانية.

ولذلك، وفي ضوء ما تقدم، قد لا يكون من باب الصدفة أن شاءت الأقدار أن تكون آخر تظاهرة سياسية كبيرة يختم بها مسيرته الطويلة الحافلة هي القمة العربية الثلاثون التي انعقدت بتونس في 31 مارس 2019، تحت رئاسته والتي شارك فيها عـدد كبير من القادة العرب تقديرا له ولتونس.

الخصلة الثالثة: أريحية التعامل مع الكرسي

ما أزال أذكر أن السيد الباجي قائد السبسي، رحمه الله، ألقى، ذات مرّة، كلمة بمناسبة توسيم ثلة من إطارات الوزارة، فقال، فيما قال، إنّه عندما عُيِّنَ على رأس الوزارة سُئِلَ عن الصفة التي يرغب في وضعها على جواز سفره الدبلوماسي الجديد، فكان جوابُه أَنْ ضَعُوا عليه صفة «محــام» ولا تضعوا صفة «وزير»، وقد فسّر ذلك بأنّه كان يعتقد أنّ صفته كمحام قارة ثابتة، في حين أنّ صفته كوزير مؤقتة زائلة، فهو اليوم وزير وقد   لايكون كذلك غدا أو بعد غد...

إنّ هذه النظرة الحصيفة ولكن غير المألوفة عند كبار المسؤولين إلى الكرسي كانت يومئذ مثار إعجاب الحضور، وهي فيما أرى أحد أكبر أسرار ما كان يتمتّع به من ثقة بالنفس، ومن جرأة في الصَّدْع بآرائه، فهو لم يكن يخشى في الحقّ لومة لائم ولا أن يفقد منصبه الذي كان يتوقّع مغادرته في أيّ لحظة...

وبالنظر إلى هذه الخصال وغيرها، لم يكن عجيبا أن يحظى، عند عودته إلى ممارسة الحياة السياسية، بعد الرابع عشر من جانفي 2011 بترحيب الشعب التونسي، وفي الآن نفسه باحتفاء قادة أكبر دول العالم خاصة خلال اجتماع مجموعة الدول الثماني في دوفيل، بفرنسا.

ولأنّه استطاع بفضل حنكته وتجربته السياسية الطويلة أن يقود سفينة تونس إلى برّ الانتخابات التي أفضت إلى تشكيل المجلس الوطني التأسيسي، ثمّ أنّ يساعد على انطلاق الحوار الوطني وعلى نجاحه، فقد كافأه الشعب الذي عانى طويلا من هفوات «الترويكا» وأخطائها، على الصعيدين الداخلي والخارجي، بانتخابه رئيسا للبلاد في خريف سنة 2014.

ولقد استطاع خلال السنوات الخمس الماضية أن يعيد للبلاد بعض إشعاعها، وأن يحقّق لها بعض المنجزات القيّمة، حيث أنّه أحيى دورها على الصعيد العربي باستضافتها القمة العربية الثلاثين، وعلى الصعيد الدولي بانتخابها بإجماع يكاد يكون كليا كعضو غير دائم في مجلس الأمن، وكذلك باختيارها لاحتضان القمة الفرنكوفونية الثامنة عشرة التي سيتزامن انعقادها السنة القادمة مع الاحتفال بالذكرى الخمسين لإنشاء المنظّمة الدولية الفرنكوفونية...

وما من شكّ أنّ التونسيين كانوا يتطلّعون إلى أن يحقّق، على الصعيد الخارجي (كما على الصعيد الداخلي طبعا)، أكثر مما حقّق، خاصة وأنّ سنوات «التّيه» التي مرّت بها البلاد خلال حكم «الترويكا» ألحقت الأذى بثوابت سياستها الخارجية وأضرّت ببعض علاقاتها الإقليمية والدولية، وبالفعل فقد كان الشعب ينتظر منه أن يقدم على إعادة العلاقات كاملة مع سوريا، كما كان ينتظر منه وهو الذي كان يردّد دائما أنّ التونسيين والليبيين شعب واحد في بلدين أن يتحرّك بصورة أكثف وأنصف من أجل مساعدة ليبيا على الخروج من أزمتها المستفحلة...
وربّما كان ينتظـر منه أيضا موقــف دقيق وواضح من العلاقات المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي وبالذات من اتفاق التبادل الحـرّ المعمّـق والشامل المثير للجدل، وكذلك حضور أكبر على السـاحة الإفريقية...

وإلى ذلك فقد كان من المؤمّل، في ظلّ المتغيّرات العميقة التي تشهدها الأوضاع الإقليمية والدولية، أن يبادر بتحيين خيارات تونس الخارجية وبإعادة انتشار الدبلوماسية التونسية حتّى تكون بلادنا على استعداد دائم للتعامل مع المجتمع العالمي الجديد الذي سينشأ عن مخاض «الحراكات» الفوقية والتحتية التي اجتاحت، ولو بصورة متفاوتة وغير متزامنة، مختلف بلدان العالم كبيرها وصغيرها، وقويّها وضعيفها دون استثناء...

ولكن لا بدّ لنا، موضوعيا، من الإقرار بأنّ هامش الحركة والفعل لم يكن واسعا أمامه، والأغلب على الظنّ أنّه كان يملك إرادة التغيير غير أنّ السياقات الوطنية والإقليمية والدولية المستجدة وما رافقها ويرافقها من إكراهات وضغوط داخلية وخارجية كبّلت تلك الإرادة ومنعتها من بلوغ عنفوانها...

رحم الله السيد الباجي قائد السبسي وقيّض لتونس رئيسا جديدا قادرا على مواصلة السير بها على درب تحقيق تطلعاتها إلى الرقي والرخاء والرفعة...

محمّد إبراهيم الحصايري

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.