محمد الناصر: الرئـيـس الحَكم
في نفس اليوم الذي غيّب فيه الموت الرئيس الباجي قائد السبسي والذي صادف الاحتفال بالذكرى الثانية والستين للجمهورية تولّى، عملا بالفصلين 84 و85 من الدستور، رئيس مجلس النوّاب السيد محمّد الناصر مهامّ رئيس الجمهورية بالنيابة ، تأكيدا لاستمرارية الدولة وحسن سير مؤسّساتها. وبقدر ما غرق التونسيون والتونسيات في حزن عميق على إثر رحيل رئيس كانوا يكنّون له كلّ المحبّة والتقدير غمرهم شعور بالفخر والاعتزاز لسلاسة التداول على السلطة وسكنت قلوبهم الطمأنينة وهم يرون رجل دولة محنّكا يتسلَّم مقاليد البلاد وهي مقدمة على انتخابات رئاسية سابقة لأوانها تتلوها بعد أسابيع قليلة انتخابات تشريعية يؤمّل أن تكون لبنة صلبة على درب ترسيخ المسار الديمقراطي، في فترة حبلى بتحدّيات جسام ، اقتصادية واجتماعية وأمنية. فلمحمّد الناصر، بشهادة الكثير ممّن تابعوا مسيرته السياسية وعرفوه عن قرب أثناء تحمّله المسؤولية في مواقع مختلفة ، من التجربة والخصال والشمائل ما يؤهّله ليكون مؤتمنا على شؤون البلاد إلى غاية انتخاب رئيس جديد لها.
مسيرة زاخرة في خدمة الدولة
لا جدال في أنّ محمّد الناصر هو من خيرة الكفاءات التي أنجبتها تونس، إذ يعدّ من كبار المختصّين في القانون الاجتماعي الذي حصل فيه على شهادة الدكتوراه من جامعة السربون في سنة 1976، وهو ما بوّأه ليكون وزيرا للشؤون الاجتماعية في ثلاث مرٌات 1974 - 1977 و 1979 - 1985 و(من 27 جانفي إلى 24 ديسمبر 2011)، فضلا عن مسيرته الإدارية والحكومية والدبلوماسية والبرلمانية البارزة التي أكسبته خبرة كبيرة في الاضطلاع بأسمى الوظائف وفي دراسة الملفّات واتّخاذ القرارات المناسبة في ضوئها. فهو من سهر على تأسيس الديوان الوطني للتكوين المهني والتشغيل في بداية السبعينات في عهد الهادي نويرة قبل أن يتولّى خطة والي سوسة (1973-1974) فتمرّس على العمل الميداني والسياسي في ولاية هامّة مثل هذه الولاية، ممّا مهّد له السبيل للانضمام إلى الفريق الحكومي في سنة 1974.
وزيرا للشؤون الاجتماعية كان وراء سنّ العديد من القوانين والتشريعات واتّخاذ العديد من التدابير لا سيّما في مجالي الشغل والرعاية الاجتماعية ، بالإضافة إلى صياغة الميثاق الاجتماعي الذي ينظّم العلاقة بين الحكومة والشركاء الاجتماعيين وفِي طليعتهم الاتحاد العام التونسي للشغل بهدف إرساء السلم الاجتماعي. وقد كان محمد الناصر آنذاك حريصا على سلامة العلاقة مع هؤلاء الشركاء من خلال تغليب لغة الحوار على منطق التصادم وقد آثر الاستقالة من الحكومة في ديسمبر 1977 لمّا أيقن أنّ سياسية التصلّب التي انتهجها شقّ من الفريق الحكومي وإدارة الحزب الاشتراكي الدستوري تجاه المنظّمة الشغيلة ستؤدّي لا محالة إلى عواقب وخيمة. وبعد أن ترأّس في منتصف الثمانينات وإلى غاية فيفري 1991 المجلس الاقتصادي والاجتماعي، هذه المؤسسة الدستورية التي كان لها دور مهمّ في إبداء الرأي في مشاريع القوانين ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعيّة والتي ألغيت بعد الثورة، خاض محمّد الناصر مدّة خمس سنوات تجربة دبلوماسية ثريّة ، ممثّلا دائما لتونس لدى الهيئات والوكالات الأممية المتخصّصة في جنيف مما مكّنه من سبر أغوار العمل الدبلوماسي ، ولا سيّما منه المتعدّد الأطراف، وحذقِ أساليب حشد الدعم للملفّات التي كانت تقدّمها تونس وانتهاج أقوم المسالك لخدمة مصالحها، علاوة على فهم أبعاد العلاقات الدولية وإدراك منطلقاتها وخلفياتها. وقد ارتبطت عودة محمّد الناصر إلى الحياة السياسية بعد انقطاع دام زهاء 15 سنة باسترجاع الباجي قائد السبسي دوره ومكانته في مسرح الأحداث في تونس بعد 14 جانفي 2011. ومنذ ذلك التاريخ انصهر مصير الرجلين في مسار واحد ليؤثّٰرا معا في مجرى تاريخ تونس بعد الثورة.
رفيقان على نفس الدرب
كانت تجمع محمّد الناصر والباجي قائد السبسي صلات نضالية وشخصية وطيدة وقواسم مشتركة عديدة. فهذان الرجلان اللذان مارسا مهنة المحاماة في فترات من حياتهما هما تقريبا من نفس الجيل. ففارق السنّ بينهما لا يتعدّى ثماني سنوات (محمّد الناصر هو الأصغر) .. هذا الجيل الذي تربّى في مدرسة بورقيبة زمن الكفاح التحريري ثمّ إبّان ملحمة بناء الدولة بعد الاستقلال وفِي المدرسة ذاتها نهل من معين القيم الوطنية والإيثار والتضحية في خدمة الصالح العامّ وتشبّع بثقافة الدولة، وألمّ بأبعاد المسؤولية فكانت له إسهامات قيّمة في إقامة صرح تونس الحديثة.. وكلاهما انحاز إلى التيّار التحرّري داخل الحزب الاشتراكي الدستوري الداعي إلى إصلاحه ودمقرطته انطلاقا من إيمانهما بفضائل الديمقراطية والحوار والانفتاح على الرأي الآخر.. وكلاهما عارضا تصعيد الأزمة بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل في ديسمبر 1977 والتي أدّت إلى أحداث 26 جانفي 1978 الأليمة فكان أن استقال محمّد الناصر من منصب وزير الشؤون الاجتماعية وكان أن سعى الباجي قائد السبسي رفقة أحمـد المستيري وحسيب بن عمَّار إلى بذل مساع لدى الطرفين لتفادي المواجهة غير أنّ المبادرة جاءت متأخّرة.
وقـد التقت مسـيرتا الرجلين في ستيـنات القـــرن الماضي حينما كان محمّد الناصر رئيسا لبلدية الجمّ وكان الباجي قائد السبسي مديرا عاما للشــــؤون الجهــــويّة ثمّ وزيرا للداخليـــة بعد وفاة الطيب المهيري يوم 29 جوان 1965 وذلك قبل أن يتزاملا في الثمانينات لمدّة تفوق الستّ سنوات في حكومة محمّد مزالي، الأوّل وزيرا مـن جديـد للشؤون الاجتمـاعية والثاني وزيرا معتمـدا لدى الوزير الأوّل ثــمّ وزيـرا للشـؤون الخارجية.
وبعـد أن ابتعـد محمّد الناصر والباحي قائد السبسي عن الساحة السياسية في عهد بن علي لسنوات عديدة تجدّد لقاؤهما بعد 14 جانفي 2011 في حكومة كان فيها الأوّل وزيرا للشؤون الاجتماعية والثاني وزيرا أوّل وهي الحكومة التي أدارت شؤون البلاد بحكمة وتبصّر في ظرف حرج للغاية أمنيا وسياسيا واجتماعيا وقادتها نحو أوّل انتخابات حرّة ونزيهة وشفّافة في تاريخ تونس في أكتوبر 2011 أفضت إلى إرساء مجلس وطني تأسيسي يضع دستورا جديدا للبلاد.
وعندما عزم الباجي قائد السبسي على تأسيس «نداء تونس» في سنة 2012 سعيا منه إلى تعديل المشهد السياسي الذي اتّسم آنذاك بهيمنة حركة النهضة، كان محمّد الناصر من بين الشخصيات الوطنية الوازنة التي دعاها الرئيس الراحل إلى جانبه لرفع أركان الحزب ورسم برامجه وتوجّهاته ومعا حققّا انتصاره في انتخابات 2014 قبل أن يعقبه فوز الباجي قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية.
وكان من الطبيعي أن يكون محمّد الناصر الذي انتخب عضوا بمجلس نوّاب الشعب عن دائرة المهدية مرشّح حركة نداء تونس لمنصب رئيس المجلس لقربه من الباجي قائد السبسي وثقة رئيس الجمهورية به فنال هذا المنصب بعد حصوله على 176 صوتا من أصوات النواب المائتين وأربعة الحاضرين.
ولا غرو أن يتوجّه محمّد الناصر إلى الباجي قائد السبسي في موكب التأبين المهيب الذي حضره عدد من قادة الدول الشقيقة والصديقة ووفود أجنبية وشخصيات وطنية يوم 27 جويلية قائلا في لحظة فاضت فيها دموعه من شدّة التأثّر: «الأقدار تقول لي هذا رفيقك قد ترجّل فأتمم مشواره ومشوارك في خدمة الوطن والشعب، أيّها العزيز عرفنا فيك الحماس والتفاني في خدمة الوطن والشعب والتعلق بمبدإ الوحدة الوطنية والسعي للتوافق في مصلحة البلاد... سوف نواصل ما شرعنا فيه لتعزيز المكاسب وتجسيد المطامح المشروعة للشعب ... يا رفيق دربي غــيابك ألم وخســـارة للوطن... لن تغادرنا سوفى تبقى معنا رمزا وقدوة للوطن».
القوّة الهادئة
لم تكـن مهمّة محمـّد الناصــر رئيسـا لمجلس نوّاب الشعب هيّنة في ظلّ ما كـان يشقّ المشهــد البرلماني والمشهــد الســياسي عموما من تجاذبات وانقسامات ونزعة إلى تغليب المصالح الحزبية والفئويّة على مصالح الوطن العليا انعكست سلبا على آداء المؤسّسة التشريعية، باعتبــــارها مـــركز السلطة الأساسي بعــد 14 جانفي، فتعطّل النظر في عديــد مشـــاريع القوانين المهمّـــة والإصلاحات الكبرى التي كانت البلاد في أمسّ الحاجة إلى اعتمادها لتغيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردّية وتجاوز تداعيات أزمة خانقة متعدّدة الأبعاد. كما تعطّل استكمال إرساء منظومة المؤسسات الدستورية وفي مقدّمتها المحكمة الدستورية. وعلى الرغم من صعوبة المهمّة ودقّتها لم يدّخر محمّد الناصر وسعا من أجل تحفيز همم النوّاب والدفع في اتّجاه تحريك ملفّات عالقة لاستعجال البتّ فيها ومنها بالخصوص إصلاح منظومة التقاعد والصناديق الاجتماعية إلى جانب ملفّات أخرى لم تكن تحتمل التأخير أو الإبطـــاء، معوّٰلا في ذلك على حنكته وقدرته على الإقناع.
وقد واجه محمّد الناصر موجات الغليان والمناكفات التي شهدتها العديد من الجلسات العامّة الصاخبة بصبر وأناة، فارضا احترام النظام الداخلي للمجلس بحزم ولين في الآن نفسه، مجنّبا البرلمان مزيد الانزلاق في متاهات الفوضى والانحراف عن وظيفته فضاءً للحوار الديمقراطي، فكان دائما القوّة الهادئة المحفّزة على الوفاق والبحث عن المشترك للوصول إلى التسويات التي ترضي مختلف الأطراف. وقـــد كان لرئيس مجلـــس النواب مـــوقف حاسم يــوم الخميس 27 جوان الماضي عندما سرت إشاعة موت الرئيس الباجي قائد السبسي سريان النار في الهشيم فوضع حدّا للجدل الذي قام يومها تحت قبّة البرلمان بشأن الفراغ المؤقّت أو الفراغ الدائم في منصب رئيس الجمهورية وأجهض في المهد مناورات كانت ستدخل البلاد في نفق مظلم، في يوم عصيب تزامن فيه انتشار إشاعة موت الرئيس مع عمليتين إرهابيتين كانـــت العـــاصمة مـــسرحا لهما.
ووقـف محمّــد الناصر كذلك موقف الاعتــدال والوفــــاق لما عُهد له برئاسة حركة نداء تونس بالنّيابة في وقت كانت فيه حرب الشقـــوق في صلبها على أشدّها فنأى بنفسه عن الصراعات والتجاذبات ساعيا إلى تقريب وجهات النظــــر بين الأجنحة المتناهشة غير أنّ الخلافات كانت أعمــق مــن أن تحـلّ بسهولة ويســر إذ ظلّ كلّ شــقّ متمسّكا بموقعه رافضا أيّ تنازل.
رهانات المرحلة
اليوم وقد دخل محمّد الناصر قصر قرطاج رئيسا مؤقّتا للجمهورية فإنّ دوره في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ تونس في غاية الخطورة. ولا شكّ أنّه استبطن ما ينتظره منه التونسيون حينما التزم عند توليه مقاليد رئاسة الجمهورية بأن يؤمّن الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها والانتخابات التشريعية التي ستليها في كنف احترام القانون وبأن يكون رئيسا للجميع دون استثناء أو تمييز، ضامنا للدستور ، حريصا على الوحدة الوطنية، ساهرا على أمن البلاد واستقرارها، راعيا لمصالح الدولة وللمكاسب التي حقّقتها في مسار انتقالها الديمقراطي، داعما للحوار بين مختلف مكونات المجتمع لإرساء السلم الاجتماعي، مشيعا للأمل في نفوس المواطنين وللثقة في المستقبل.
ولعلّ ما يحرص عليه محمّد الناصر، اعتبارا لحسّه الوطني والديمقراطي المرهف وإيمانه العميق بمفهوم الدولة، وضع مصالح البلاد العليا فوق كل اعتبار والوقوف على نفس المسافة من كلّ الأحزاب والمنظّمات ومن مختلف المتنافسين في السباق الانتخابي، حكمًا نزيها ساهرا على سلامة العملية الانتخابية وعلى توفير الظروف الملائمة لحسن سيرها. وعلاوة على ذلك فإنّ المهامّ التي أوكلها له الدستور تدعوه إلى البتّ في مسائل أمنية ودبلوماسية باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلّحة ورئيس مجلس الأمن القومي بمفهومه الشامل والمرجع في تحديد توجّهات السياسية الخارجية دون قطيعة مع الثوابت والسياسات التي سارت في ضوئها تونس في عهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي.
لقد آل محمّد الناصر على نفسه يوم استلامه منصب الرئيس بالنيابة ألّا يبقى في المنصب أكثر من المدّة التي حدّدها الدستور للقائم بمهامّ رئاسة الجمهورية. ولعلّه يفكّر منذ ذلك الحين في اليوم الذي يسلّم فيه الأمانة إلى الرئيس المنتخب هانئ البال مرتاح الضمير بعد أن قام بما يمليه عليه واجبه الوطني ليدخل التاريخ من بابه الواسع، رجلَ دولة بامتياز أسهم في إيصال تونس إلى برّ الأمان.
عبد الحفيظ الهرڤام
- اكتب تعليق
- تعليق