محمد النفطي: انتخابات تونس بتحليل دقاز من الجريد
اشتهيت العمّاري (تمر) وأنا في سدادة ( قرية على شاطئ الجريد) منكفئا من برّ نفزاوة عازما على الاقامة في بر الجريد يوما أو بعض يوم. وبعدما قضيت بعد الوقت في حمام المحاسن الاستشفائي ساقني الشوق الى نزهة في غابة من غابات النخيل راغبا في اقتناء رطل أو رطلين من ذلك الرطب النادر الذي لا ينبت إلا في أرض الجريد والذي يتعسر وجوده في هذا الوقت المتأخر من جني التمور. وكم كانت خيبتى كبيرة بعدما مرت أكثر من ثلاث ساعات من البحث دون أن أظفر بتمرة واحدة. هممت بالرحيل ومغادرة ربوع الجريد لولا أن لفت انتباهي حلقة من الأفراد تحت ظلال النخيل يتجاذبون أطراف الحديث وتسودهم أجواء من الضحك تارة والاعجاب تارة أخرى. اقتربت منهم بداعي الفضول وقلت لعلني أجد بديلا للعماري واستمتع بحديث أهل الجريد و بطرافتهم وانتفع بعلمهم وأروح عن نفسي قليلا. سلمت وسألت عن مكان يوجد به العماري. دعاني أحدهم للجلوس والراحة هنيهة وقدم لي كأسا دهاقا من اللاقمي المشعشع (كأن الحص فيه بدون مخالطة ماء أو شئ آخر). شكرت وجلست ثم شربت. كان الجمع يستمعون لشيخ يبدو في كلامه أنه من العارفين بأمور الدنيا وخيرات الآخرة ويظهر من لباسه ووقاره أنه من الزاهدين الطاهرين وهي صفات أهل الجريد المتعلمين والمثقفين. سأله أحدهم عن الانتخابات الرئاسية في تونس وهل هي موافقة لشريعة الله ومن سيفوز حسب رأيه. تناول جرعة من اللاقمي ومسح شاربه وقال :
عرفت بلادنا ثورة جميلة لم نقدّرها حقّ قدرها. عيّرناها وشتمناها ونعتناها بأبشع الصور ووصفناها بثورة البرويطة وثورة العراة والهمج والثورة غير الشرعية وشبهناها بأطفال SOS الذين لا تحلّ لهم الزكاة لأنهم أبناء زنا .فكذلك الثورة التي لم يكن لها فحل ولا زعيم لا تحلّ تزكيتها وبالتالي هي غير شرعيّة. وأي ثورة ناجحة كان لها زعيم؟ وقد يكون السبب في أصله أن السواد الأعظم منّا نحن العامة التونسيّة سلفيون لا نريد المحدث والجديد لأن المحدث بدعة والبدعة ضلال. كما أنّ الخاصّة لا تعير هذا التحوّل اهتماما لأنّها تتكالب على السلطة والمنافع التي تهيمن على كلّ أفكارها. وبقيت طبقة نبيلة من التونسيين متشبثة بقيم عالية وثابتة تسعى إلى البناء والإصلاح غير أنّها مغمورة وعاجزة أمام قوة وهيمنة أصحاب المال وأصحاب التجارة التي لا تبورولا يخشى كسادها ألا وهي السياسة. ولكن السياسة في تونس غير السياسة المعروفة في البلدان الديمقراطية. السياسة في تونس الخضراء تختزل في الانتخابات. ترشحات حملات وجولات وانتصارات لبعض الخواص الذين سيكونون أهل الحل والعقد. ومباشرة بعد نجاحهم في الانتخابات سيشرعون في التخطيط للانتخابات المقبلة سنة 2024 لأن الوقت يداهمهم والاحداث تسير بسرعة كبيرة وتتواتر بطريقة معقدة ولا سبيل لدراستها أو مجابهتها في غياب برامج واستراتيجية مدروسة. وها نحن أمام موعد انتخابي جديد وهو أهم حدث أو لنقل أهم إنجاز وطني في تاريخ البلاد التونسية الحديثة. انتخاب رئيس الجمهورية ذو الصلاحيات المحدودة جدا جدا. و الدليل على أهمية هذا الحدث هو نكران الذات الذي اتسم به أصحاب أكبر وأعلى السلطات في البلاد حيث خيروا الاستقالة من مناصبهم وتفويض سلطاتهم في سبيل خدمة تونس وخدمة الشعب وتكريس كل جهودهم في الحملة الانتخابية. إن لتونس ربا يحميها. وهذه الثورة غير الشرعية أهدت لنا الحرية والشفافية في الانتخابات وربما تهدينا بعد سنين قيما أخرى جديرة بأن ترتقي بنا في مجال سياسة الشعب والاعتناء به وتحقيق مطالبه أو أحلامه. وفي انتظار ذلك ليس لنا إلا السمع والطاعة لله وللرسول وأولي الأمر منّا.هذا ما يتحتم علينا عمله تجاه من سيتم اختياره.
سألته أليس في ديننا الحنيف إشارة للديمقراطية ؟ وما هو أمر الشورى؟وما هي الخلافة ؟ قال:
لو كان للمسلمين نظام سياسي منزّل من السماء لرسمه القرآن الكريم أو لبيّن الرسول حدوده وأصوله ولفرض على المسلمين الإيمان به والإذعان له في غير مجادلة ولا مناضلة ولا مماراة. وأمر الخلافة كلّه قام على البيعة أي أنه تحدّد برضاء كبار الصحابة. كما لم يكن نظام حكم النبيّ ثيوقراطية مقدسة وإنما كان أمرا من أمور الناس يقع فيه الخطأ والصواب. ولكن العدل كان هو قوام الحكم. ولم يكن ديمقراطيّا كما يظن أكثر الناس لأن لفظ الديمقراطية يدلّ على (حكم الشعب بالشعب وللشعب) أي أنّ الشعب يختار حكامه اختيار حرّا ويراقبهم مراقبة حرّة ليتبيّن أنّهم يحكمونه لمصلحته هو ولا لمصلحتهم هم كما هو دارج عندنا وعند كثير من الأمم. والشعب يعزل حكامه إن لم يرض عن حكمهم ولم يطمئن إلى الثقة بهم. هكذا اصطلح على معنى الديمقراطية. لكن الديمقراطية تطوّرت منذ سالف العصور عند اليونان حيث كانت تسري على طبقة صغيرة من الخاصة. ومنذ الثورة الفرنسية اتّسعت إلى العامة الذين يدفعون الضرائب و الذين لهم الحق في الانتخابات. ولم تشمل جميع المواطنين بعد الحرب العالمية الثانية.ولكن العرب المسلمين كانوا دوما متأثرين بالدين لافتقارهم حضارة قبل ظهور الإسلام ولتمسّكهم بالعصبية القبليّة التي عقلتهم في الفكر السلفي ( السلف الصالح أو جماعة السنة) الذي يتصدّى لكلّ محدث وكل جديد عندهم بدعة وكل بدعة ضلال. فحاربوا كل تطوّر في نظام الحكم وحصروه في ( وأمرهم شورى بينهم) وهو مصطلح استأثر به الفقهاء وعقلوا فيه كل فكر مجدّد وابعدوا عنه أراء المفكرين والفلاسفة حتى يحافظواعلى تأثيرهم ومكانتهم ومنزلتهم عند الخليفة والسلطان والأمير. وفي نفس الوقت وجد الحكام في الفقهاء خدمة جليلة لمصالحهم وأهوائهم.وطوال ما يقارب 12 قرنا كان نظام الحكم في تونس بأهواء الملوك والفقهاء ولم يطبّق نظام شورى ولا ديمقراطية ولا نظام عدل ومساواة بل كان الحكم عرفيّا في شريعته وقهرا في سياسته.
وسألته على المترشح الذي يمتلك أكبر الحظوظ في الفوز؟ قال إن لهذا السؤال جذورا متعددة. ومنها الاجابة العلمية وهي تستند إلى علم "الاحتمالات" التي أصبحت دقيقة في عصرنا الحديث. ونشهد اليوم نتائجها في الدراسات التي تنجزها منظومات وشركات الاستطلاعات. ولا سبيل لمتابعتها كلها فنحن نساند تلك التي يديرها مدير من الجريد فهي أفضلها. ومن خلال نتائجها يمكن لنا أن نبدأ الدراسة للإجابة عن سؤالك. وأما الجذر الثاني فهو عرقي مجتمعي حيث أن العرب ابعد الأمم عن سياسة الملك ولا يحصل لهم ذلك إلا بصبغة دينية. وأخيرا وليس آخرا فالتونسي كما جاء في كتاب علم الاجتماع التونسي المنصف ونّاس له شخصية فريدة وخاصيته أن(يميح مع الأرياح) يتغير مع الفصول ولا يستقر على رأي مثل نواب الشعب الذين يتغيرون مثل الحرباء ويسيحون بين الاحزاب فهم ينتخبون كعروبيين ثم ينتقلون للنداء ويبدلون للوفاء ويستقرون على حب تونس أو مشروع تونس أو فؤاد أم تونس وهي موضة تونسية فريدة من نوعها. ولهذه الاسباب فإن كل التوقعات عسيرة ولا يمكن لي إلا تقديم رأي طريف على شاكلة أهل الجريد.
ومن جانب آخر فأنا واثق أن التونسي لا يقتنع إلا بكلام موشح بكلام الله العزيز الحكيم. قلت هات ما بدى لك يا شيخنا. قال إني رأيت في المنام أني ... أن المترشحين أو بعضهم جاؤوا أمام محكمة من الشعب راغبين في التزكية وجاؤوا بكتبهم وبرامجهم. وبعدما درس أعضاء المحكمة هذه البرامج جاء وقت الأحكام.
تقدم أول المترشحين في هيبة وإجلال ووقار مرتديا جبة تونسية صفراء فاقع لونها تسر الناظرين يتلو القرآن بصوت جهوري مهيب. انحنى أعضاء المحكمة وقال رئيسهم ( وإذا السماء تمور مورا). تفضل يا شيخ في موضع الاعراف.
تقدم المترشح الثاني في هدوء تام وتردد كثيرا متأثرا بالمقام وربما نسي ما سيقوله للمحكمة. ولكن رئيس المحكمة أجابه ( فأما الزبد فيذهب جفاء ...). إن شاء الله في الفرصة القادمة يا سيدي الكريم.
وجاء من أقصى المدينة مترشح يسعى مستبشرا ضاحكا فرحا مسرورا. قال رئيس المحكمة : ( سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا). لا بديل ولا والو يا سيدي. إن شاء الله فرصة قادمة.
جاء دور مترشحة محترمة جدا في مظهرها وكلامها. وهم الرئيس بتزكيتها دون أن يسألها وفي الأخير ألقى عليها سؤالا في غاية البساطة من صنف ماهو لون الحصان الأبيض الذي يملكه هنري الرابع؟ فتلكأت واحمر وجه الرئيس ثم نظر اليها فأجابته ( فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) وغادرت دون أن تترقب الجواب.
جاء دور المترشح الموالي وتظهر عليه بشائر الثقة. وقرأ الرئيس ( من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه..). تفضل يا سيدى في موضع الأعراف.
تقدم كهل يتقد نشاطا وحيوية وذكاء. واردف الرئيس ( إن الله يرزق من يشاء بغير حساب). بالطبع في موضع الأعراف.
ودخلت قاعة المحكمة سيدة تتكلم بسرعة كبيرة وبطلاقة فائقة بل قل إنها سيدة الفصاحة تدعوها فتجيبها وتأمرها فتطيعها غاضبة مزمجرة لأن المحكمة رفضت ترشحها استنادا على ( الرجال قوامون على النساء...). قالت ألا تعلمون ما جاء في القرآن في سورة النساء ولا توجد سورة للرجال، الا تعلمون ما جاء في الآية 164 من سورة النساء ( وكلم الله موسي تكليما). ذعر الرئيس وانحنى احتراما وقال تفضلي في صدر موضع الاعراف.
التفت الشيخ الجريدي وقال لي هل أعجبتك منامتي ؟ قلت : أم حسبتم أن أصحاب الجريد كانوا من آياتنا عجبا ...
محمد النفطي
- اكتب تعليق
- تعليق
الله يبارك فيك سيدي امير اللواء. أتحفتنا لغة وعلما وجدا في ثوب هزل. وقد قلت ففصحت وحللت فعمقت وسألت فأبقيت السؤال معلقا بين الثرى والثريا...وبقينا على الطوى.
نحليل منطقي وظريف وطريف ....فالسياسة عند الجريدي كياسة وفراسة ...وما يحدث في تونس نوع من التخضرم وسوء النطاسة ....فالننتظر ما تسفر عنه الغلاسة ......