في الذكرى الثالثة والستين لصدور مجلّة الأحوال الشخصية (13 أوت 1956): تشريع "ثوريّ" غيّر مصير المرأة والأسرة التونسيَّتَيْنِ
أحيا التونسيّون يوم الثلاثاء 13 أوت 2019 اليوم الوطني للمرأة الذي يوافق الذكرى الثالثة والستين لإصدار مجلّة الأحوال الشخصية وهو ثاني نصّ تشريعي وضعي بالبلاد العربية والإسلامية (بعد لبنان) يلغي مسألة تعدد الزوجات وينظم كل ما يتصل بالعائلة التونسية من زواج وطلاق وحضانة وواجبات الزوجين... وهو نصّ اعتبره عديد الملاحظين والخبراء داخل تونس وخاصة خارجها نصّا رائدا و"ثوريا" بما للكلمة من معان ودلالات لكونه لم يقطع مع "ظاهرة" تعدّد الزوجات فحسب، بل أرسى أسس جديدة للعائلة التونسية وأسّس لميلاد مجتمع تونسي حداثيّ ومتطوّر، قطع نهائيا مع قرون من الجمود والتخلّف و "الاستعباد" والوصاية على المرأة التونسية لتأخذ المكانة التي تستحقّها داخل الأسرة والمجتمع وفي الحياة العامة إلى جانب أخيها الرجل.
وبهذه المناسبة العزيزة على التونسيّات والتونسيّين من الضروريّ الوقوف عند أهميّة هذا الحدث التاريخي ورمزيّته وأسباب ودوافعه ومرجعيّاته الفكرية والقانونية وصداه في أوساط التونسيّين في تونس المستقلّة والجدل الكبير الذي أحدثه، لا سيّما في أوساط كل من المحافظين والحداثيّين على حد سواء وعودة هذا الجدل على الساحة بعد 14 جانفي 2011 بعد أن خلناه قد حُسِمَ منذ قرابة ستة عقود وكيف نؤسّس لجمهورية الغد بتونس خالية من الفوارق والحقوق والواجبات بين المرأة والرجل.
في السياق التاريخي للمجلة ومرجعياتها:
رغم كثرة القضايا والملفات الشائكة التي اعترضت حكومة الاستقلال منذ اليوم الأوّل من تشكيلها، فقد وضع رئيسها الحبيب بورقيبة قضيّة المرأة في مقدمة أولوياته وتحمّس لتخليصها من النظرة التقليدية والمكانة الدونيّة التي كانت عليها وحرص على الرفع من مستواها المعرفي والثقافي والاقتصادي...، سعيا منه لبناء مجتمع عصري جديد ونواة صلبة للعائلة التونسية بعيدا عن مظاهر التفكّك الأسري والفكر الشرقي القروسطي... وقد ساهمت عدة تحولات وفي مقدمتها التحولات السياسية والإدارية التي شهدتها البلاد في التأسيس لمجتمع تونسي حداثي منفتح ومتطوّر يتساوى ويتكامل فيه دور كل من المرأة والرجل دون تمييز بسبب الجنس تكون الأسرة قاعدته الأساسية.
وفي الواقع لم تنشأ مجلة الأحوال الشخصية من عدم، بل كانت اختزالا للتراث الموروث عن الجدل والكتابات حول قضايا المرأة من تعليم وحجاب وخروج إلى الفضاء العام... قبيل الفترة الاستعمارية وإبّانها، بدءا برسالة أحمد بن أبي الضياف (1802-1874) "رسالة في المرأة" سنة 1856، مرورا بكتاب محمّد السنوسي (1851-1900) في المرأة بعنوان "تفتّق الأكمام" الصادرة بالحاضرة سنة 1897 ومحاضرة خيرية بن عيّاد (1851-1913) بعنوان "المرأة التركية: حياتها الاجتماعية والحرم" سنة 1904 بمدينة فيينّا وخطب كل من منوبية الورتاني في 15 جانفي 1924 و حبيبة المنشاري في 08 جانفي 1929 بنادي "الترقّي" وكتابات "إيفا نوال" (Eve Nöel) بجريدة "تونس الاشتراكية" (Tunis Socialiste)...، وصولا إلى المؤلّف المرجع الطاهر الحداد(1899-1935)، "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" الصادر في مطلع أكتوبر 1930...
ومنذ 1956 تأكدت حاجة وإرادة الدولة للمرأة بغاية المساهمة في بناء الدولة الوطنية الحديثة في عمليات الإنتاج والتنمية المستدامة بعد خروج المستعمر ومغادرة المرأة الفرنسية والأوروبية البلاد: الموظفة والطبيبة والممرّضة والقابلة والمعلّمة والأستاذة والتقنيّة السامية والصحفية والمحامية... الخ.وتظهر ملامح هذا الجدل من خلال الخطب والمنشورات الرسمية والمقالات والتصريحات للمسؤولين والشخصيات الرسمية على الصعيدين المركزي والمحلي.
وقد استثمر رئيس الحكومة حينها، الأستاذ بورقيبة حالة الحماس والالتفاف الشعبي حوله في فترة ما بعد التحرر، ليأذن بعد أسابيع فحسب بإعداد نصّ قانوني يهمّ الأسرة والعائلة عامة والمرأة تحديدا. فلم تمض أربعة أشهر عن استقلال البلاد و 05 أيام فحسب عن تكوين حكومة الأستاذ الحبيب بورقيبة قي 12 أفريل 956 حتى كلّف رئيس الحكومة يوم 17 أفريل 1956 وزير العدل الأستاذ أحمد المستيري بصياغة مجلة للأحوال الشخصية في أقرب وقت. وتأكيدا لذلك يذكر الأستاذ أحمد المستيري في مذكراته: "... تكونت لجنة للمجلة من خيرة العلماء كان من بينها السيد محمد بن سلامة الرئيس السابق لمحكمة التعقيب والمرحوم الأستاذ محمود العنابي والمرحوم الشيخ محمّد بن خليفة القروي (مفتي مدينة سوسة) بالتعاون مع المغفور له الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور...". ويضيف قائلا: "... واتفقنا على مبادئ على ضوئها يتم تأليف المجلة أولها: أنّ ما فيها لا يتنافى مع القرآن والسنة، ثانيا: لا تحلّ حراما، ثالثها تقيّد وتمنع مباحا، ورابعها: تتماشى وتطوّر المجتمع التونسي وعلى ضوء ذلك قيّدنا الطلاق بالطلاق أمام القاضي ومنعنا المباح وهو تعدد الزوجات. وقد كلّف بهذه المهمّة الأستاذ أحمد المستيري كاتب دولة للعدل والمفتي محمّد خليفة القروي والوزير الأسبق للعدلية عبد العزيز جعيّط، الذي كان قد صاغ في سنة 1948 "لائحة مجلّة الأحكام الشرعية" المعروفة باسم "لائحة الشيخ جعيّط"...، إضافة إلى الاستئناس ببعض القوانين والتشريعات الأجنبية الصادرة بدول عربية: لبنان بالأساس ودول أوروبية: فرنسا وألمانيا وإيطاليا... كما كان رئيس الحكومة الحبيب بورڤيبة على اتصال وثيق بالشيخ محمّد الطاهر بن عاشور يستشيره في كل صغيرة وكبيرة.
كما استندت مجلة الأحوال الشخصية إلى جملة من النصوص والتشريعات القانونية التونسية (الأوامر العليّة) الصادرة سابقا وفي مقدمتها: الأمر العليّ المؤرخ في 30 ربيع الثاني 1293 (5 ماي1876) المتعلق بتنظيم سير المحاكم الشرعية بالحاضرة وبالآفاق وعلى الأمر المؤرخ في 30 صفر 1375 (21 سبتمبر 1955) المتعلق بتنظيم السلط العمومية تنظيما مؤقتا كما نقحه الأمر المؤرخ في 25 ذي الحجة 1375 (3 أوت 1956) وعلى أمر محمّد الأمين باشا باي المؤرخ في 3 ذي الحجة 1375 (12 جويلية 1956) المتعلق بضبط الأحوال الشخصية للتونسيين من غير المسلمين واليهود،وعلى الأمر المؤرخ في 25 ذي الحجة 1375 (3 أوت 1956) المنقّح لفصول من مجلة المرافعات المدنية وعلى الرأي الذي أبداه مجلس الوزراء، وبناء على ما عرضه الوزير الأكبر رئيس الحكومة، الأستاذ الحبيب بورقيبة.
مضمون استثنائي لمجلّة رائدة:
تألفت المجلة من ديباجة ضمّت 06 فصول و 170 فصلا من الصفحة توزّعت على عشر كتب (في 71 صفحة) وهي تباعا: الكتاب الأول: الزواج (من الفصل الأول إلى الفصل 28) و الكتاب الثاني: الطلاق (من الفصل 29 إلى الفصل 33) والكتاب الثالث: العدّة (من الفصل 34 إلى الفصل 36) والكتاب الرابع: النفقة (من الفصل 37 إلى الفصل 53) والكتاب الخامس: في الحضانة (من الفصل 54 إلى الفصل 67) والكتاب السادس: النسب (من الفصل 67 الفصل 76) والكتاب السابع: في أحكام اللقيط (من الفصل 77 إلى الفصل 80) والكتاب الثامن: في أحكام المفقود (من الفصل 81إلى الفصل 84) والكتاب التاسع: في الميراث (من الفصل 85 إلى الفصل 152) والكتاب العاشر: الحجر والرشد (من الفصل 153 إلى الفصل 170).
وجاء في مذكّرة صادرة عن وزارة العدل في 13 أوت 1956 بمناسبة إصدار مجلة الأحوال الشخصية ما يلي : "... ولا عجب أن توصّلنا إلى تدوين مجلة من هذا النوع ترضي الجميع وتنال استحسان العلماء وتلائم في آن واحد العصر والتفكير العام. ولا عجب ولا غرابة في ذلك لأننا أخذنا نصوصها من مناهل الشريعة الفياضة ومختلف مصادرها بدون تقيد بمذهب وبرأي طائفة من الفقهاء دون أخرى... ". ومن أهم ما يلفت النظر في هذه المجلة هو: سهولة عباراتها فقد تجنبنا فيها الألفاظ غير المألوفة... وكذلك الألفاظ التي لا تلائم الأذواق العصرية والضيق في الأحكام المتعلقة بالطلاق بكيفية تضمن للزوجة جميع حقوقها الزوجية وتحديد سن الزواج الأدنى بالنسبة للمرأة والرجل تماشيا مع مصلحتهما الصحية والاجتماعية والذهاب على رأي بعض علماء الإسلام في مسألة تعدد الزوجات وعدم إباحته.... الخ. وقد صدرت مجلة الأحوال الشخصية بمقتضى الأمر العليّ المؤرخ في 13 أوت 1956 المنشور بالرائد الرسمي عدد 66 بتاريخ 17 أوت 1956 ودخلت حيز التطبيق بداية من غرة جانفي 1957.
وقد ألحقت ببعض فصول هذه النسخة تعليقات الكاتب العام للحكومة ورجل القانون، الأستاذ محمد الطاهر السنوسي وقد شملت هذه التعليقات 29 فصلا أي حولي سدس العدد الجملي لفصول المجلة. وقد أشرف عليها محمد الطاهر السنوسي. كما صدرت نفس المجلة في طبعات لاحقة من أهمها طبعة سنة 1958عن المطبعة الرسمية التونسية التي جاءت في 129 صفحة، حيث انضافت إليها مجموعة من الأوامر وهي: الأمر المتعلق بإهمال عيال وأمر نظام المقدمين و أمر الحالة المدنية و أمر التبنّي. ومن أهمّ ماء جاء في هذه المجلّة: إلغاء تعدد الزوجات، إلغاء حق الجبر - أي جبر الولي لابنته على قبول الزواج الذي اختاره لها إذا لم تكن راضية به - (الفصل 18) وإقرار الطلاق القضائي (الفصل 31 وما بعده) ومنح الزوجين الحق في طلب الطلاق وتحديد السنّ الأدنى للزواج بـ 17 سنة بالنسبة للفتاة بشرط موافقتها و 20 سنة للفتى و منح الأمّ في حالة وفاة الأب حق الولاية على أبنائها القصر وحقها في حسن المعاملة من قبل الأب و الأخ و الزوج وحقّ التعلّم في مختلف مراحل الدراسة وحقها في الإنفاق عليها حتى بعد الطلاق وحقها في الإرث بما حدّده الشرع وحقها في إبداء الرأي و المشاركة في قرارات العائلة وحقها في المساواة عندما تتحقق شروطها... الخ. كما كرّس الدستور التونسي الصادر في غرّة جوان 1959، مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في المواطنة وأمام القانون.
وفي سنة 1964 تمّ اتخاذ قرار ثوري آخر لا يقلّ أهمية عن هذه الإجراءات نظرا لتأثيره العميق على حياة المرأة التونسية وعلى صحتها وعلى الأسرة التونسية بشكل عام وهو البرنامج الوطني للتنظيم العائلي الذي أقرّ التربية الصحية والتثقيف الصحي والتنظيم العائلي في كل جهات البلاد وإدماج خدمات تنظيم الأسرة ورعاية الأم والطفل في المستوصفات ومراكز الصحة الأساسية، وتقريب هذه الخدمات من المناطق الريفية النائية بواسطة الفرق المتنقلة التابعة للديوان الوطني للأسرة والعمران البشري... وعموما وباستثناء لبنان (بموجب القرار الرقم 60 الصادر في 13 مارس 1936) مثل صدورمجلّة الأحوال الشخصية في تونس "ثورة" قانونية واجتماعية قياسا بواقع بقية دول العالم الإسلامي بتوفيرها حماية للعائلة وللمرأة وللطفل... على حد سواء، إضافة إلى توحيد القانون والقضاء في مجال الأحوال الشخصية وتنظيم الحالة المدنيّة. وهي أمور انعكست إيجابيا على المجتمع التونسي عامة وعلى وضع المرأة بصفة خاصّة مكنتها من احتلال مكانة هامة في المجتمع كشريك مساو للرجل ولا كمُكمّل له ودفعها إلى اقتحام جميع الميادين دون استثناء وتبوّؤ مراتب ومناصب متقدمة في مختلف مواقع القرار. ولنا أن نتساءل كيف كانت ردود فعل تجاه صدور هذه المجلّ في تونس؟
ردود الفعل تجاه صدور مجلّة الأحوال الشخصية:
اختلفت الأقوال والآراء والمواقف والكتابات حول مجلّة الأحوال الشخصية من وسط إلى آخر، بدءا بالوسط الرسمي (أعضاء الحكومة والحزب الحاكم وكبار المسؤولين والزعماء السياسيّين في الحزب والدولة...)، مرورا بالوسط الرجالي، وصولا إلى الوسط النسائي نفسه. وكانت أكثر المواضيع إثارة للجدل هي بدون منازع مسألة تعدد الزوجات. وفيما يخصّ التبني الذي حرّمه الشرع يذكر الأستاذ احمد المستيري في حوار صحفيّ له أنه لم يتمّ التطرّق لهذه المسألة في نص المجلة الصادر بالرائد الرسمي في 17 أوت 1956 بقوله: "... ارجع إلى مجلة الأحوال الشخصية في نسختها الأولى فسوف لا تجدها قد تعرضت للتبني...". وفعلا لم يتمّ إدراج مسألة التبني في مجلة الأحوال الشخصية إلا بموجب قانون عدد 27 لسنة 1958 المؤرخ في 4 مارس 1958 الذي يضبط شروط وأحكام التبني... أمّا بالنسبة للإرث فيقول أحمد المستيري: "… وللتاريخ أقول: يمكن لي أن أدّعي أن موضوع الإرث وأحكامه في المجلة نقلناها من مشروع المجلة الذين أعده الشيخ عبد العزيز جعيّط، وأنّ بعض فصول المجلة كتبها الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور بخط يده وتبقى المجلة مشروع اجتهاد وليست مقدّسة...".
• في الوسط الرسمي:
ليس من اليسير الإتيان على كل المسؤولين في جهازي الحزب والدولة لذلك سنقتصر على ذكر موقف الرئيس الحبيب بورقيبة من خلال بعض الأحداث والمناسبات الوطنية الهامة المتصلة بالمجتمع والأسرة التونسيَيْنِ عامة والمرأة التونسية بصفة خاصة: العيد الوطني للمرأة (13 أوت من كل سنة منذ 1957)، مؤتمرات الاتحاد القومي النسائي التونسي...
وكثيرة هي التصريحات والمقالات والخطب التي خصّ بها الحبيب بورقيبة المرأة التونسية منذ مطلع الاستقلال كرئيس للحكومة ثمّ كرئيس للجمهورية إلى غاية إزاحته من الحكم في 07 نوفمبر 1987 وهي مكملة لكتاباته وتصريحاته التي تعود للفترة الاستعمارية: مقاله بعنوان " Le Voile" الحجاب " بتاريخ 11 جانفي 1929 الصادر بجريدة "صوت التونسي "L’Etendard Tunisien" والصدى الكبير الذي لقيه هذا المقال في صفوف النخبة السياسية العصرية التونسية بين مؤيد ومعارض نذكر في مقدمتها مقالات كل من الأستاذ الطاهر صفر والدكتور محمود الماطري.... و بعد سنة ونصف تقريبا حصل جدل كبير بتونس ملأ الدنيا و شغل الناس إثر صدور كتاب "إمرأتنا في الشريعة والمجتمع" للمصلح الاجتماعي الطاهر الحداد ظلّ لعدة أشهر قائما بين مكونات النخبتين العصرية الحداثية والتقليدية المحافظة.
ومنذ مطلع الاستقلال تسارعت وتيرة هذا الجدل حول المرأة بتبني رئيس الحكومة ثمّ رئيس الجمهورية قضية المرأة التي وضعها ضمن أولوياته وركيزة من ركائز مشروعه الاجتماعي في تونس المستقلة في شكل خطب وتصريحات وندوات صحفيّة سبقت الإعلان عن مجلّة الأحوال الشخصية وعقبته مباشرة ثمّ في 13 أوت من كل سنة أو بمناسبة ترأسه لافتتاح أو اختتام أشغال الاتحاد القومي النسائي التونسي. ونذكر في مقدمة هذه الخطب: خطاب 07 أفريل 1958 وخطاب 13 أوت 1960 وخطاب 15 ديسمبر 1961...
• ترحيب الفتاة والمرأة:
تؤرّخ بعض المقالات الصحفية والصور لنساء وفتيات تونسيات خرجن في الشوارع والساحات العامة عشية الإعلان عم مجلة الأحوال الشخصية في العاصمة وكبرى المدن التونسية رافعات الرايات التونسية وهاتفات بحياة الزعيم بورقيبة وبتونس وبالحزب الدستوري وحكومة الاستقلال وبالحريّة "Vive la liberté"... كما قامت بعض النساء والبنات بتزيين مداخل البيوت والشقق بالرايات التونسية وصور زعماء الحزب لعدة أياّم وأقبلن منذ الغد على اقتناء الصحف للاطلاع على نصّ الأمر العليّ للمجلة وصورة التوقيع عليه بمكتب رئيس الحكومة بالقصبة.
• ترحيب المثقّفين الحداثيّين بالمجلّة:
اعتبر المثقفون العصريون مجلة الأحوال الشخصية مكسبا وطنيا أتى ليعزّز بقية المكاسب السياسية والسيادية الأخرى التي تحققت منذ 1955 وفي مقدمته الاستقلال الداخلي فالاستقلال التام وتَوْنَسَةِ الأمن في 18 أفريل 1956 ثمّ جهاز إدارة الداخلية في 21 جوان 1956 والقضاء والمحاماة وبعث الجيش التونسي في 24 جوان 1956... وتأكيدا لذلك يرى الأستاذ الطيّب اللومي (رئيس المحكمة الإدارية بتونس) أنّ اهتمام المشرّع التونسي بمجلة الأحوال الشخصية كان ملفتا للنظر وذلك لاعتبار تلك المجلة تمس بكيان العائلة عموما، والمرأة والأطفال خصوصا ورأى أنّ المجلة كانت مستمدة يوم صدورها برمتها من قواعد الفقه الإسلامي، عدا بعض الفصول. وعقد الكثير من المثقفين والمسؤولين في جهازي الحزب والدولة محاضرات وحلقات نقاش واجتماعات شعبية لتبسيط مضمون المجلة وتقريبه للتونسيين في مختلف الجهات الأوساط والشرائح الاجتماعية والفكرية... وحتى إن كانت لبعض الرسميّين في جهازي الحزب والدولة والمثقفين تحفظات على المجلّة وخاصة على تعدّد الزوجات لاعتبارات شخصية فكانوا ينبسون في الخفاء " أحنا موافقين لكن ربي يهديه سي الحبيب [أي رئيس الحكومة] ما هوش وقته "، يعني أنهم معترضون على توقيت إصدار المجلّة فحسب !
• رفض المحافظين لها:
في سؤال وجهته وزارة العدل إلى علماء الزيتونة وبقية المدرّسين "من أصحاب الغيرة الدينية وممن يكونون أهلا للقانون والصداع بالحقّ بأن يبدوا آرائهم ويبيّنوا للناس حكم الله فيما جاء بالمجلة الشخصية هل هو مطابق لنصوص أحكام القرآن والسنة والإجماع أم هو مباين لكل ذلك"؟ بإمضاء وزير العدل الأستاذ الوزير أحمد المستيري طُلب منهم: " بأن يدلوا بآرائهم ويُبيّنوا للناس حكم الله فيما جاء بالمجلة الشخصية " وقد أتى رد هؤلاء بإمضاء 83 شيخا منهم نشرت في جريدتي "العمل" و"الاستقلال" في شهري أوت و سبتمبر 1956، نورد البعض منها:
- ردّ الشيخ محمد العزيز جعيّط: جاء في ردّ شيخ الإسلام المالكي ما يلي: (...) إنّي أطمئِنُ هؤلاء المتمسكين بدينهم العاضّين عليه بالنواجذ أني قمت بالواجب ووجهت لوزارة العدل مكتوبا في 13 محرّم وفي 20 أوت 1376-1956 بيّنت فيه ما يلزم من تحويره وتغييره أو حذفه من الفصول التي لا تتماشى مع الحكم الشرعي في نظري –وفيما أعلم- إذا بقيت على حالها وبيّنت كيفية التدارك، وهي الفصول 14-18-19-21-30-35-88 (...)". علما، أنّ وزارة العدل - وكان على رأسها آنذاك أحمد المستيري - كاتبت الشيخ محمّد العزيز جعيّط بصفته شيخ الإسلام المالكي طالبة رأيه في بعض المسائل المتعلقة بمجلة الأحوال الشخصية، ومنها:
- مسألة الوصية الواجبة أخذا برأي ابن حزم، وقد رفض الشيخ هذا الرأي.
- العمل بالرد في توريث البنت تقليدا لإيران ومذهبها الشيعي.
لكن الشيخ رفض هذا الرأي قائلا: "...هذا لا يصحّ أن يكون مستندا لأنّ ما أجمعت الأدلة على بطلانه لا يصحّ تقليده، والأدلة هنا متظافرة على بطلانه"....
- فتوى أعضاء المحكمتَيْنِ الشرعيتَيْن العليّتين: جاء في رد قضاة المحكمتين الشرعيتين العليّتين المالكية والحنفية (في رتبة محكمة التعقيب) بالحاضرة عن استشارة مجلة الأحوال الشخصية ما يلي: "إنّ فيما نشرت هذه المجلّة فصولا منكرة شرعا لا تتفق مع الكتاب والسنة والإجماع منها: منع تعدد الزوجات، وترتيب غرامة مالية على من يعدّد.. ومنها عدم الاعتداد بالطلاق الواقع من الزوج إلا إذا كان على يد الحاكم وهو مصادم للآيات الكثيرة الصريحة والأحاديث الصحيحة في أنّ الطلاق لا يتوقف مضيه على حكم الحاكم. ومنها ما اقتضته من تأبيد تحريم المطلقة ثلاثا على مطلّقها مع أن الحرمة مغيأة بما صرح به القرآن... ومنها ما اقتضته تزوج المسلمة بغير المسلم حيث لم تذكر في موانع الزواج تزوج المسلمة بغير المسلم... ومنها ما اقتضته من التوارث مع اختلاف الدين حيث اقتصرت في موانع الإرث على القتل مع أن الإجماع والحديث على خلاف ذلك. والسلام، وحرر في 5 صفر الخير وفي 11 سبتمبر سنة 1376 هـ/1956م محمد عباس شيخ الإسلام الحنفي – محمد البشير النيفر – إبراهيم النيفر – محمد الهادي ابن القاضي - علي بن مراد – أحمد بن ميلاد - عبد الوهاب الكرارطي - عبد العزيز بن جعفر – أحمد المهدي النيفر – محمّد المنستيري – علي بالخوجة – الطيّب سيالة – محمّد الحطاب بوشناق".
- فتوى الشيخ محمد الشاذلي بن القاضي: نشرت جريدة "الاستقلال" في عددها 49 بتاريخ 21 صفر 1376هـ/29 سبتمبر 1956) فتوى مطوّلة للشيخ محمد الشاذلي ابن القاضي بيّن فيها بالأدلة مخالفة بعض فصول مجلة الأحوال الشخصية للشريعة الإسلامية.
وممّا جاء في الفتوى قوله: " (...) ومما سنبيّنه يتضح مخالفة بعض فصول المجلة للتشريع الإسلامي، فالفصل 31 وما بعده يقتضي أنّ الطلاق يتوقف نفاذه على حكم الحاكم به ولا يحكم به إلا بعد أن يبذل وسعه في البحث عن أسباب الإصلاح بينهما وذلك مخالف للتشريع الإسلامي من وجوه."… كما بيّن رحمه مخالفة المجلة للتشريع الإسلامي في مسألة: المطلّقة ثلاثا، وتعدّد الزوجات، والزواج مع اختلاف الدين، وفي صحة العقد، والعدّة، والإرث مع اختلاف الدين.
لذلك عارض الشيخ محمّد الشاذلي النيفر مجلة الأحوال الشخصية مدعيا كونها أعدّت خارج البلاد بقوله: " (...) هذه المجلّة - فيما أحسب - نسجت خيوطها الأصلية خارج البلاد التونسية من مستشاري الرئيس السابق [الحبيب بورقيبة] في الخارج. وإنما دعي لها بعض الناس في داخل البلاد للتفاوض فيها، وكأنه لتلوينها بلون ييسّر قبولها والاغترار بها... والمبرّر لاشتباهي في منبتها ما حال بعدها من أحداث وما سبقها من مثل كتاب الحدّاد 'امرأتنا في الشريعة والمجتمع' الذي دعا إلى نسخ نصوص القرآن الحكيم في الزواج والميراث، بعدما أكثر من الثناء على الإسلام وتشريعه وقدسيته، وادّعى أن الزمان تطوّر والاجتهاد كفيل بتجديد ما تطوّر منه ومن أحكام (...)".
أمّا من حيث المرجعية فقد اعتبرها الشيخ محمّد الشاذلي النيفر مخالفة لقوانين الإسلام بقوله: "(...) أمّا مجلة الأحوال الشخصية فإلي مخالفتها لقوانين الإسلام فقد قوت الحذر وزرعت النفرة لأتفه الأسباب ولا أدلّ على ذلك من كثرة حوادث الطلاق وتكدّس النوازل حول مجلة الأحوال الشخصية بصورة طغت على المحاكم طغيانا كبيرا حتى أنّ المحاكم لما كادت أن تتعطّل في شهر أوت لكثرة الحرّلم يسمح لجلسات محكمة الأحوال الشخصية أن تتعطل ومن أثر ذلك أن حدثت جرائم ليتخلص احدهما من الآخر حتى في قاعة الجلسات بالمحكمة (...)". (انظر: أروى النيفر، روّاد الصحوة الإسلامية في تونس والجزائر: الشيخ محمّد الصالح النيفر (1902-1993)، ج 2، ص ص141-144.
وعموما وإذا ما استثنينا الشيخ محمد الطاهر بن عاشور وابنه الشيخ محمّد الفاضل بن عاشور وبدرجة أقلّ الشيخ محمّد العزيز جعيّط، الذي رغم مساهمته في إصدارها كانت له تحفظات على بعض بنودها، فقد اعترض جلّ مشايخ ومدرّسي الزيتونة على صدور مجلة الأحوال الشخصية.
مجلّة مواكبة لروح العصر وتطوّر المجتمع التونسي:
تماشيا مع التحولات التي شهدها المجتمع التونسي ومواكبة لروح العصر عرفت مجلة الأحوال الشخصية عدة مراجعات وإضافات وتنقيحات في العديد من فصولها (التي انتقلت من 170 إلى 213 فصلا) وأبوابها وكتبها (انتقلت من 10 إلى 12 كتابا) وذلك بين 1957 و 2008 متصلة بكل من: بالهبة والموروث والزواج والطلاق والحضانة والولاية على الأطفال وزيارة الجدين... و ذلك بمقتضى القوانين التالية: 27 سبتمبر 1957 و4 جويلية 1958 و19 جوان 1959 و28 ماي 1964 و22أكتوبر 1962
و3 جوان 1966 و18 فيفري 1981 و5 جويلية 1993 و9 نوفمبر 1993 و31 أكتوبر 1994 و9 أكتوبر و28 أكتوبر 1998 و06 مارس 2006 و04 مارس 2008...، كما تمّ تدعيم المجلة بإصدار مجلة حماية الطفل في 9 نوفمبر 1995. وهي تنقيحات اقتضتها حاجيات الأسرة المجتمع التونسيَيْنِ تماشيا مع تطوّر العصر وعديد الإشكاليات التي طرحت أمام الزوجة والأبناء من نفقة وحضانة وكفالة ووصاية على الأبناء... حيث أسندت حضانة الأطفال إلى أحد الأبوين حسب مصلحة المحضون، وبصفة عامة للأمّ، خاصة إذا كان الطفل صغير السنّ. وإذا أسندت حضانة الطفل إلى الأب، فلا يمكنه حرمان الأم من حقّ الزيارة. كما منحت المجلة الولاية على الأطفال للأب، وتنتقل للأمّ إثر وفاة الأب أو اختفائه أو فقدانه للأهلية... وغيرها من الضمانات. وعلى المستوى الفكري والثقافي فقد أدّى كلّ ذلك إلى حصول ما يُمكن أن نسمّيه "وعيا حقوقيّا" لدى طرفي العلاقة الزوجيّة ثمّ لدى الأطفال في مستوى ثان، فتشكّلت، ثمّ ترسّخت مكانة جديدة للمرأة، صلب الأسرة أوّلا وصلب المجتمع لاحقا.
ورغم تنامي التيّار المحافظ غي مجلس الوطني التأسيسي وفي الحكومة بعد ثورة الحرية والكرامة فقد تدعّمت مكاسب المرأة والأسرة بفضل صمود النساء وجمعيات المجتمع المدني في الدفاع عن حقوقهنّ وذلك بإلغاء كل ما هو تمييز في قانون جوازات السفر وأصبح سفر القاصر يخضع إلى ترخيص أحد الوالدين أو الولي أو الأم الحاضنة. كما تمّ في 23 أفريل 2014 إلغاء تحفظات الجمهورية التونسية على اتفاقية "سيداو" CEDAW" (18 ديسمبر 1979) لسنة 1979 والمتعلقة بالقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة التي صادقت عليها الحكومة التونسية منذ 1985 مع تحفظات على المواد 9 و15 و16 و29 منها.
هل مكاسب المرأة التونسية مهّددة اليوم؟
رغم كل ما تحقّق للمرأة والأسرة التونسية من مكاسب منذ 13 أوت 1956 إلى اليوم خلال الحقبتين البورقيبية والنوفمبرية فإنها قد تعرّضت هذه المكاسب للتشكيك بعد 14 جانفي 2011، بمناداة بعض صقور حركة النهضة وحلفائهم من المتشددين والغربان الناعقة داخل المجلس الوطني التأسيسي وخارجه...، الذين رفعوا شعار المرأة مكمّل للرجل وليست مساوية له ونادوا بتعدّد الزوجات وإلغاء مجلة الأحوال الشخصية واتباع الشريعة الإسلامية في الزواج ودعوة المرأة العاملة إلى ملازمة البيت (باستثناء بعض المهن) لمواجهة معضلة البطالة والفصل بينهما في مواقع العمل ومكاتب الإدارة وفصول التعليم وتغيير البرامج والمناهج التربوية المعتمدة منذ الاستقلال في مراحل التعليم الثلاث... الخ، وذلك تمهيدا لأسْلَمَةِ المجتمع التونسي وإدخال أفكار جديدة غريبة عن ثقافتنا تدعو إلى ختان البنات وإرضاع الكبير ولباس النقاب...، التي بشّر بها بعض الدعاة وعلى رأسهم الداعية وجدي غنيم وأمثاله ممّن وُجّهت لهم الدعوة للقدوم والمحاضرة على منابر مساجد تونس وقاعاتها... زمن حكومة الترويكا غير المأسوف عليها برئيسها ووزرائها ومستشاريها الأفذاذ !
واليوم، المرأة التونسية مدعوّة أكثر من أيّ وقت مضى، لا إلى المحافظة على المكاسب التي تحقّقت لها وانتزعتها بنضالاتها في أكثر من ميدان منذ 1956، بل إلى تدعيمها بمكاسب جديدة وفي مقدمتها القضاء على كل أشكال التمييز بينها وبين الرجل والمساواة في الميراث بينهما كما جاء في تقرير "لجنة الحريات الفردية و المساواة" التي أذن ببعثها الرئيس الراحل الأستاذ الباجي قايد السبسي في 13 أوت 2017 ولم يفعّل تقريرها إلى اليوم...، حتى يتسنى لها القيام بأدوارها في المجتمع على أحسن وجه، حفاظا على كيانها ككائن بشري أولا، وأسرتها ثانية، لأنّه في تقويض الأسرة التونسية بأيّ حجّة من الحجج تفكّك للمجتمع التونسي بأسره !
د. عادل بن يوسف
- اكتب تعليق
- تعليق