»سامحني« مقاربة سينمائية تبحث في فلسفة الموت وتحاكي نبض الحياة
طرحت السينما التونسية العديد من القضايا والمواضيع المعقّدة والحسّاسة في علاقة بالواقع الاجتماعي وبأبعاده الفكرية والنفسية والسلوكية، غير أنّ الشريط الروائي الأوّل والأخير للمخرجة الراحلة نجوى سلامة مثّل نقلة فنية مبتكرة وقدّم صورة جمالية محدّثة تشي بالتأمل العميق في المعتقدات والموروث الاجتماعي فيما يتعلّق بتصوّرات الفناء الإنساني ومدى تداعياته وتأثيره على سلوكيات الأفراد ومواقفهم.
لم تكن ظروف تصوير فيلم «سامحني» عادية، بل اقترنت باكتشاف مخرجة العمل لإصابتها بالمرض الخبيث وبداية رحلة العلاج في الخارج مع انطلاق التصوير، حيث كانت تسابق الزمن وتصارع المرض لتتمكّن من متابعة مرحلة ما بعد الإنتاج، في إصرار عنيد على مواجهة الموت المحقّق. الفيلم يشكّل دعوة إلى التأمل والتفكير الجوهري في الوجود المستمر للموت، حيث حاولت مخرجة العمل الغوص في أعماق الذات البشرية لترصد التناقضات التي تملأها وتوغل في سبر ورسم تداخلات المشاعر الانسانية بحالاتها المختلفة والمتقلّبة، لشخوص لا تمثّل ذواتها المنفردة بقدر ما تمثّل فئات وتيارات وتوجّهات لا يخلو منها أيّ مجتمع.
تدور أحداث الفيلم حول صراع ذاتي ومتناقض بين شخصيتين رئيسيتين، هما «فوزي» القاضي المرتشي الذي جسّد دوره باقتدار الممثل «محمد علي بن جمعة» و«مستاري» الفنان والباحث في علم الآثار والتاريخ الذي جسّد دوره النجم السوري «عابد فهد»، هذا الممثّل الذي تعرّض إلى مظلمة قضائية واتّهم زوراً وبهتاناً بتهريب الآثار ليقضي بعدها عشر سنوات كاملة بالسجن.
وفي سياق الأحداث شاءت الأقدار أن يتقاطع مصير الشخصيتين من جديد، إثر تشخيص طبّي خاطئ اختلطت على إثره الملفّات الطبية، ليتّضح من خلاله أنّ مستاري هو المصاب بداء السرطان في المرحلة الأخيرة وليس القاضي الذي زجّ به حيفا وزورا في السجن. وبعد أن باتت أيّامه معدودة ينهمك مستاري في التحضير لجنازته ومدفنه على طريقته الخاصّة، بينما يمضي القاضي في مطاردته طلبا للصفح والعفو، بعد صحوة ضميره.
بقيّة الأدوار الأخرى شكّلت سندا حقيقيا للشخصيتين الرئيسيتين وساعدت في بناء السرد وتطوير الأحداث، كما لعبت دورا مهمّا في زيادة حدّة الصراع النفسي الداخلي بين الشخصيات المحورية وخاصّة كلّ من «سوسن معالج» في دور خليلة القاضي فوزي وزوجته المتنفّذة «مريم بن حسين»، بالإضافة إلى «رياض حامد» الصديق الوفي لمستاري.
مخرجة العمل تعمّدت أن تفرد الشخصيتين المحوريتين في الفيلم بعــــدد كبير من المشاهد وحوّلت الكاميرا من وسيلة تسجيل وتوثيق إلى وسيلة رصد ومراقبة لمسار كلّ شخصية على حدة في حركة مستمرّة تقود البناء الدرامي نحو ذروة الأحداث، عاكسة حالة الصراع والتناقض الداخلي في أوج الانكسار النفسي للشخصيتين التي تجمّلها الأحداث تتأرجح بين أقصى مشاعر الحزن والسعادة و الغضب والحب واليأس والأمل... وذلك في دليل واضح على صعوبة التقاطع والالتقاء فيما بينها، نظرا لتباين النزاعات الداخلية لكل شخصية، حيث يدخل القاضي في صراع حادّ مع ضميره طيلة الفيلم ويسعى جاهدا إلى التكفير عن غلطته بعد أن طغى الطمع والجشع على سلوكه ودفع به لاقتراف جريمة في حقّ متّهم بريء كان قد أصدر حكما جائرا ضده. أما مستاري فقد كان مشغولا بصراع من نوع آخر، صراع الوجود والعدم، ورفضه القطعي لهاجس الموت الذي يلازمنا طيلة رحلة الحياة لينهمك في إعداد مراسم دفنه بطريقة غريبة وغير معهودة (تزويق مدفنه، انتقاء مكان وتصميم الضريح، حجز فرقة سمفونية ليوم الدفن الخ) بعيدا عن أجواء اليأس والإحباط ورافضا لجميع الطقوس والمعتقدات التقليدية، إيمانا منه بأنّ الموت ما هو إلاّ وجه آخر من وجوه الحياة.
من خلال صراع الشخصيتين تنجلي ثنائية الموت والحياة في الفيلم، لنكتشف عمق الجدلية بين هذين المفهومين وتداعياتها على النفس البشرية لحظة المكاشفة والمحاسبة باعتبارها لحظة مفصلية في حياة الإنسان، وكأنّ مخرجة العمل أرادت أن تبحث في لعبة الحياة والموت دون أن تقع في فخّ روحي وأخلاقي ديني يغذّي الصورة النمطية عن فكرة الموت وما وراء الموت من الأهوال والحساب.
وفي جزء من قراءة تأويلية للمعنى داخل الفيلم، نستشفّ نقدا لاذعا للأوضاع السياسية والاجتماعية والأخلاقية التي آلت إليها الظروف المعيشية في البلاد، في توصيف واضح لواقع تدهور قطاع الصحّة وجودة الخدمات الطبية وعدم تقديم الإحاطة النفسية اللازمة لمرضى السرطان خلال فترة العلاج، بالإضافة إلى التسلّط والفساد المستشري ضمن مفاصل الدولة ومؤسّساتها، دون أن تنسى مخرجة العمل التعريج على وضعية المثقف والفنان الذي يعاني في صمت من التهميش والاغتراب.
فيلم «سامحني» يقدّم رؤية سينمائية ذات لمسة إنسانية درامية تأملية مفعمة بالشاعرية، للتعبير عن هواجس الإنسان ومخاوفه الوجودية، والمنتقدة لخواء الروح وعمى البصيرة الإنسانية واستغلاق القلوب وظلام النفس نتيجة اليأس الذي يقبع كضيف لحوح خلف أسوار نفوسنا وعقولنا، وفي نفس الوقت دعوة صريحة من المخرجة الراحلة إلى الاحتفاء بالوجود الذي سيقودنا حتما إلى النهاية نفسها مهما اختلفت مساراتنا وتعدّدت خياراتنا.
فيلم الوداع كما أرادته الفقيدة، هو دعوة دائمة إلى الثبات والصمود وعدم الاستسلام للفشل أو اليأس والإحباط ورسالة خالدة مفادها أنّ الإقرار بحقيقة فنائنا ضرورة حتمية وأنّ الحياة هي مجرّد محطة عبور نحو الخلود، ولأنّ إنكار الموت، إنما هو إنكار للحياة.
تحية إلى روح المخرجة نجوى سلامة.
ناظم الوسلاتي
- اكتب تعليق
- تعليق