أخبار - 2019.08.01

عـن الطاهر البكري وكتابة الذات بلغة الآخر: الكتابة يد الحبّ في وجه الطغيان

عـن الطاهر البكري وكتابة الذات بلغة الآخر: الكتابة يد الحبّ في وجه الطغيان

اسندت الأكاديمية الفرنسية واحدة من أهمّ جوائزها للعام 2019 إلى الشاعر التونسي الطاهر البكري. هذه الجائزة تتوّج سنويا الكتاب الذين تميزوا بأعمال تساهم في إشعاع اللغة والأدب الفرنسيين وتسندها أعرق مؤسّسة أكاديمية فرنسية، أمّا الشاعر فتونسي مقيم بعاصمة الأنوار منذ منتصف السبعينات ويدرس الأدب العربي بجامعاتها، له في رصيده أكثر من ثلاثين مؤلّفا تتوزّع بين الشعر والنثر والدراسة الأدبية منها ما ترجم إلى لغات عدّة عبر العالم، ومنها ما هو موضوع للدراسة الأكاديمية. ويأتي هذا التتويج بعد أن تحصّل الطاهر البكري في العام 2018 على جائزة «بنجامين فوندان» الدولية للأدب الفرنكوفوني، التي تصف حيثياتها باختصار شديد مسيرته والمدى الذي بلغته تجربته في الكتابة والتثاقف، حين تنوّه بمساهمته «في الحوار بين المثقفين والكتاب من ضفّتي المتوسط، والتعريف بالأدب العربي في فرنسا وإثراء اللغة الفرنسية بمعان من التّراث العربي».

لكن المتأمّل في تجربة الطاهر البكري الأدبية عن كثب يدرك أنّها تتجاوز ذلك بكثير لتمثّل حالة إبداعية نموذجية، فهي وإن كانت تقع فعلا في نقطة تقاطع بين ثقافتين مختلفتين تعبّر عن إيمان صاحبها بأنّ الكتابة حــوار وتواصل وبناء في زمن التصادم، وأنّ الأدب صوت الإنســـــان ومحمـل قيمـــــه الأساسيــة. وانطلاقا من ذلك يمثّل شعر الطاهر البكري صورة عن عصره وعن معاناة الإنســان الراهــــن فيه، ففي ديــــوانه الصادر العام 2018«صحراء في المغيب» و«شجرة توت حزينة في الربيع العربي» الصادر العام 2016، يكتب الشاعر مستحضرا التراث الأدبي العربي عن تحوّلات الإنسان الذي ثار ضد الظلم والهوان من أجل العزة والحرية وانتهى لاجئا مشرّدا، والشاعر لا يملك إزاء هذه التراجيديا إلا الشعر.

لا تنازل في الكتابة عن كرامة الإنسان وحريّته

في سؤال عن ماهية الكتابة وانشغالاتها الأساسية في عصرنا يقول الطاهر البكري لمجلة «ليدرز العربية»: «أحسّ دائما بثقل المسؤولية، وأعتبر الكتابة تعبيرا عميقا عن الكيان الذاتي والجماعي يتّحد بالرؤية الشاملة للإنسانية، لا تنازل فيها عن كرامة الإنسان أو حريّته. أخلاقية الكتابة تملي عليّ ضرورة الدفاع عن احترام الإنسان وقضاياه وقيمه الأساسية، بعيدا عن اللغو والتزمّت والتعصّب والتأزّم المفتعل، فأنا مع حبّ الإنسانية والحياة، ضدّ باعثي الموت والخراب».

وعن رؤيته لمسار التحوّلات التي تعيشها بلادنا في خضمّ ما يسمّى في الغرب بالربيع العربي يقول «نشرت بعد الثورة التونسية ثلاثة دواوين: «أسمّيك تونس»، «في حضرة يونس إمري» و«شجرة توت حزينة في الربيع العربي»، وكلّ هذه الكتب تسائل تونس وتحيّي مدنيتها وحريّتها. فرغم أسس الــدولة الحـــــديثة الراسخة يأتي الخوف مجتمعيا من القوى المحــــافـــظة العنيفة والتي تحاول التقدّم، وأنا أخشى على تونس من التلاعب بمكاسب الشعب سياسة ودينا، ولذلك فعماد الثقافة له أهميته في السلم الاجتماعية وصدّ الماضويين عن منع التطور واحترام الديمقراطية. الكلمة في تونس حرّة وهذا كسب كبير، والمبدعون في تونس لم ينتظروا حلول الثورة ليولّدوا الربيع العربي، بل منذ عقود مضت كان لهم حضور شجاع ويقظ.

كتابة الشعر لا تمنعني من العقلانية ونقد الذات

يقول الطاهر البكري متحدّثا عن تجربته في سياق الردّ عن سؤال يتعلّق بالأدوار المنوطة بالكتّاب العرب الذين يقيمون في الغرب والذين تحملهم مجتمعاتهم عبء الحوار مع الآخر بلغته: «الانشداد إلى الواقع العربي يكاد يكون منبع كلّ كتاباتي وأحمل همومه كما تحملني تاريخا وحاضرا، وإلى جانب كتبي بالعربية مثل «قصائد إلى سلمى» و«مذكّرات الثلج والنار» تسمح لي اللغة الفرنسية بإعطاء صورة عن الإنسان العربي غير التي يروّجها الإعلام سلبيا ويعمل عمدا إلى طمس إنسانيتها حتى يمرّر مخططات جائرة، كتابة الشعر لا تمنعني من العقلانية والرؤية الفاحصة و التصوّر الصحيح للواقع و نقد الذات والنفور من النواقص المخزية و المحبطة».

ويرى البكري أنّ ازدواجية اللغة هي عامل إثراء حضاري تتيح للكتّاب أن يكونوا جسر تواصل بين الثقافات فيقول عن تجربته: «الكتابة باللغة الفرنسية لم تكن عندي يوما ما على حساب اللغة العربية أو الأدب العربي أو الثقافة العربية، ومن حسن حظّي فازدواجيتي اللغوية وهي من فضل التعليم التونسي تمكّنني من الحوار الجادّ والثريّ في معادلة متوازنة، دون خلل أو انغمار في الذات. وأعتبر أنّه من المهمّ أن يقرأك غيرك في لغته وأنت تنتمي إلى حضارة كبيرة وعريقة كالحضارة العربية والإسلامية. أن توصل صوتك بكلّ سلميّة وتحضّر يساعد غيرك على أن يفهمك».

من قصائد الطاهر البكري

إذا كان على الموسيقى أن تموت وكان الحب من عمل الشيطان

إذا كان جسمك سجنك وكان الصوت هو ما تعطي

إذا كان قلبك لحيتك وكانت الحقيقة حجابه

إذا كانت أغنيتك رصاصة وكان نشيدك رثاء

إذا كان صقرك غرابا وكان نظرك أخا للغراب

كيف لك أن تحب الشمس في الغار؟

بالتراث نساهم في حداثة الأدب العالمي

في تجربة الطاهر البكري الشعرية تيمتان بارزتان، التراث الذي يمثّل عماد الثقافة العربية وأساسها، والقضية الفلسطينية التي تحضر في الوجدان العربي الراهن عنوانا لأحد أبرز مآسي العصر الحديث، يقول الشاعر عن هذا: «لي دواوين على لسان إمرئ القيس «نشيد الملك الضلّيل» وابن حزم الأندلسي «مسابح الوصل» وأخيرا «صحراء في المغيب» ترجيعا للمعلّقات، وأنا أرى أنّ الكتابة التراثية داخل النصّ الفرنسي تحاول المساهمة في حداثة الأدب العالمي بإعطائه نفسا عربيا يحمل استعارة و مقارنة  للواقع العربي وكلّ الهواجس التي أعيشها اليوم. أمّا بخصوص القضية الفلسطينية فبعد رحلتي إلى فلسطين المحتلّة سنة 2009 نشرت كتاب «سلام غزّة» وهو يوميات ودفاتر تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني، كما أصدرت أنطولوجيا بالفرنسية «شعر من فلسطين» لجيل ما بعد محمود درويش، كما ساهمت كذلك في العدد الخاص بمحمود درويش والذي أصدرته مجلّة «أوروب» الفرنسية. إنّ مأساة فلسطين تحتاج إلى أكثر من صوت وسند وهي في صميم الفكر والقلب وما الكتابة إلا قبضة يد مملوءة حُبّا في محيط عارم من الطغيان والبهتان.

عامر بوعزة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.