المهـاجـرون مـن تونـس: وِزْر المـكـان وفـتـنـة الزمان الجديد
1 - صرّح الشاب المتفوّق وطنيا في شهادة البكالوريا من شعبة العلوم التجريبية بمعدل 19.50 أنّ الطبّ لا يستهويه وأنّه سيواصل دراسته بالخارج. واصلت المتفوّقة في شعبة العلوم التقنية بمعدل 19.58على نفس النهج قائلة بعد أن عرّفت بسرّ نجاحها إنّ وجهتها في الدراسة هي ألمانيا. لم يكذِّب الأول في شعبة العلوم الإعلامية زميليه فطموحه هو الآخر الدراسة بالخارج.
2 - لماذا يتّجه طموح المتفوّقين إلى المغادرة التي يُستبعد أن تكون وقتية؟ وهل أنّ الأمر كما علّق أحد المدوّنين مظهرٌ آخر من مظاهر استيلاء أوروبا على المتفوّقين من النخب التي يبذل الأساتذة والأولياء جهودهم لإنجاحها بما يجعل تونس «كالشهيلي اللي يُطَـيِّب لغيره» أو بالعبارة الفصيحة: «كالمِسَنِّ يشحذُ ولا يقطع»؟
ما يثير القلق فعلا أن الأمر أصبح لافتا إذ تجاوز المغادرين المتخرجين بالباكالوريا والقاصدين أوروبا والبالغ عددهم الـ60 ألفا ليشمل العديد من الكفاءات التي صَيَّرتْ تونس الثانية عربيا في هجرة الأدمغة. لقد اتّجه للهجرة كبار المديرين والمعلّمين والمهندسين والأطبّاء وخبراء الحاسوب والصيادلة فيما يُفهم أنّ البلاد ضاقت بأهلها.
في هذا يفيد مدير عام ديوان التونسيين بالخارج أنّ احصائيات سنة 2018 كشفت أنّ 12 % من التونسيين مقيمون بالخارج وأنّ عددهم يقارب مليون و300 ألف تونسي وأنّ تَوَزُّعَهم على بلدان المهجر ظلّ دون تغيير كبير. لقــد بقيـــت فرنسا هــي الأولى، 800 ألف تونسي، تتلوها إيطاليا بـ 200 ألف وألمانيا بما يقارب الـ 100 ألف مع بلدان الخليج العربي بـ 120 ألف تونسي.
3 - حين نتابع اليوم حركة المهاجرين الباحثين عن المستقبل والاستقرار، ندرك أنّ مساعي المغتربين اتّسعت لتتّجه إلى كندا والصين وسنغافورة وتايوان والهند. فهل أنّنا في تونس، نسعى على نفس الدرب الذي سلكته لبنان التي يناهز عدد المغتربين حاليا الـ 18 مليونا مقابل ما يتجاوز الـ 6 ملايين من المقيمين والتي تبلغ نسبة نزيف هجرة الشبيبة اللبنانية الـ 46 % من أصحاب الشهادات العليا؟
في تفسير موجة النزوح التونسي، شبابا وكفاءات، يقدّم خبراء التنمية البشرية للعالم العربي ثلاثة أسباب يعتبرونها أســـاسية: - الإغراءات المادية نتيجة تدنّي الرواتب المحلية – البيئة العلمية المتطوّرة والمريحة – توفّر مواطن عمل للمتخرّجين العاطلين.
في تفسير المختصّين في التعاون والتنمية الاقتصادية لسنة 2018 يبرز العامل المادي المهني والنفسي. هو عامل لازَمَ حركة الأفراد والجماعات لأنّ «المكان» مثّل عِبئًا على الإنسان منذ القديم إذ كان يقمع حاجاته، يأسر تطلّعه ويحدّ من طموحه. من ثمّ كان الترحّل والنزوح عن المكان ظاهرة ملازمة للنشاط البشري حافزة على التطوّر والتحضّر. لذلك عبّر الشاعر العربي عن هذه المعاني الإنسانية بقوله:
سافــرْ تجدْ عوضا عمن تفارقه وانصُبْ فإنّ لذيذ العيش في النَصَبِ
إنّي رأيــتُ ركــود الماء يُفْسِـدُه إن سال طاب وإن لم يَجْرِ لم يَـطِـبِ
4 - في المستوى التجريدي احتّل «المكان» حيّزا هاما في النشاط الفكري المبدع حتّى قيل إنّه «لا يوجد في الفلسفة بل ولا في المعرفة النظرية ميدان لا يدخل فيه مشكل المكان أو يتداخل معه بكيفية أو بأخرى». يُدرَك هذا عند أرسطو ثمّ ابن سينا والرازي ليتواصل مع الفلاسفة المحدثين في الغرب من «ديكارت» و«لايبنتز» مرورا بالماديين حتّى «آينشتاين» والنظرية النسبية. مع هؤلاء ساهم الفيزيائيون والرياضيون وعلماء التربية والنفس إلى جانب الإثنولوجيين في بحث مسألة المكان كلٌ من زاوية اختصاصه مبيّنين أنّه موضوع متميّز لأنّ المكان ليس مجرّد فراغ.
مع بروز ظاهرة العولمة تمّ التشديد على مسؤولية هذه الأخيرة في تشجيعها على هجرة الأشخاص وحركية الجماعات. بفضل وسائل النقل الحديثة وبدعم من وسائل الإعلام والاتّصال التي حدّت من أبعاد المكان بدا التنقل البشري ضربةَ لازمٍ تأكّدتْ نتيجةَ التطوّرات التكنولوجية للتواصل المعرفي والمادي.
لقد تحقّق اليوم وبأجلى صورة المعنى الذي يجعل الإنسان كائنا تواصليا بامتياز ومخلوقا مهاجرا دأبه التغلّب على الحواجز وتجاوز الحدود.
هذا ما جعلنا نشهد تفاقم حركية التنقّل والهجرة الملحوظين بصورة غير مسبوقة. ذلك ما تشهده في المدينة والقرية وتلمسه في الزيجات المختلطة التي لا تأبه بالفروق الاجتماعية والجهوية والقومية والعرقية وفيما تسمعه من تنوع اللهجات واللكنات وتزاحمها فضلا عما يَشُدَّكَ من تدافع لا يهدأ في مطارات العالم وموانئه وعلى طرقه السيّارة. من هذه الوتيرة العالية في التنقل تحدّدت لدى الباحثين أسئلة كبرى عن أهميّة ظاهرة الهجرة وعن دلالاتها بالنسبة إلى الشباب وإلى المجتمعات المتخلّفة والنامية فضلا عن مردودها على ذوي الإمكانيات المحدودة والكفاءات المتدنية. ذات الأسئلة تطرح أيضا بالنسبة إلى المجتمعات الغنية وما يرتفع فيها من شعارات مقاومة للمهاجرين لكونهم يهدّدون «هويتنا الوطنية» أو «يسرقون وظائفنا».
5 - ما لا ينبغي أن نغفل عنه إلى جانب عنصر المكان الاستتباعُ الآخر للعولمة المتعلّق بالزمان وأثره في استشراء ظاهرة هجرة الكفاءات المتميّزة والصاعدة. لقد أسهمت العولمة بصورة مباشرة وواضحة في تجاوز أوزار المكان عندما عملت على اختزال العالَم في قرية تناهض فيها السوقُ الدولةَ ويستحوذ فيها المالُ على السياسة بما مهّد لصيغة جديدة من صيغ مركزة العالم حول قطب واحد.
الأهمّ فيما نحن بصدده أنّها فتحت أبواب عصر جديد يُعرَف بـ«الزمان الرقمي» المستـــوعِب لمستويين مـــن نمط العيـــش والتــفـكيــر والإدراك والإنــتــاج: مـستـــوى الزمــــن / التوقيت (Le temps numérique) ومستوى الزمان / العصر (L’époque ou l’ère numérique). يتيح المستوى الأوّل عيشاً بالنظام الفوري (Instantané) بفضل اختراق المسافات تخاطباً وتواصلا ونقلا للمعلومة والصّورة مُلْغِيًا الحواجز القديمة التي كانت تجعل المهاجر القديم كأنّه مُقدِمٌ على منفى يقطع أوصال ما بينه وبين أهله وأصحابه ولغته ووطنه. تحقّق ذلك بفضل وسائل الاتصال المختلفة التي أسقطت التباعد المكاني بشكل مكّن الزمن الجديد من التحكّم في الواقع والتصوّر والوعي.
في المستوى الثاني يتمّ الدخول إلى عصر جديد مُشرَّعٍ لمن استفاد من تعلّم اللغات ومَن تَضَمَّن إمكانيات الإعلامية والتكنولوجية الحديثة والذكاء الاصطناعي واحتوى المشاغل والمناهج الجديدة في انشداد إلى آفاق أرحب. هذا المستوى من العصر الرقمي جسّر علاقته بالزمن الرقمي في خاصية الفورية مضيفا إليها إرساء نموذج إدراكي جديد يمكّن من قيمة مضافة في مجالات الاختصاص والبحث المختلفة (الطب- الهندسة- التربية- الاقتصاد- الإعلامية- الاستراتيجية...).
6 - مع الزمان الجديد وفضائه الرقمي تنفتح للشباب المتفوّق وللكفاءات العالية آفاق واسعة بالغة الإغراء تتحدّى انتماءاتهم وعالمَهم القديم باختياراته المؤسّسية والاقتصادية. إنّهـــا آفاق القدرات المتعدّدة التي تتيح للمهاجر إمكانيات الارتقاء بالخطأ والصواب عبر حرية مُفضِيةٍ إلى أكثر من خيار بناء على فردانية متمركزة حول انتماء شاسع كوكبي.
يزيد من جاذبية هذا الزمان الجديد أنّ مهاجر اليوم يبدو بمنأى عن محنة الغُربة المريرة بفضل ما يتيحه الزمن الجديد من إمكانيات التواصل الفوري. لذلك فهو يعتقد أنه مُحصَّن من جهة وممتلكٌ لحرية الاختيار بما تتضمّنه تلك الآفاق من إمكان وتعدّد تجعله سيّد الموقف المُمسِكَ بزمام حياته من جهة أخرى.
فهل من مسوّغ لمؤاخذة هؤلاء المغادرين لأوطانهم المُصغين إلى أصوات المستقبل الواعد الذي يدعوهم إلى الإقدام على عالَمٍ ونموذجٍ جديدين؟
للإجابة هناك تصحيح ضروري: الزمان الرقمي ليس ظاهرة جزئية عابرة منتهاها إتاحة فرص علمية ومهنية ذات أبعاد اقتصادية -سياسية- نفسية محض. إنّها أكثر من ذلك لأنّها تدشّن دورةً حضارية جديدة بتطوّرات تقنية ومعرفية كثيفة ذات دلالات اجتماعية شاملة شديدة التأثير في الفضاء الثقافي والنسيج القيَمي والسلوك الفردي والجمعي.
هو زمان غير واضح المعالم، المؤكّد فيه أنّه يُوجِد شبكات تواصلٍ وتضامن وتنافس بين الفئات والجماعات على اتّساع الأرض. بذلك تتولّد شرعيات جديدة تتجاوز شرعيات الذات والعائلة والمدينة والوطن التي أنشأتْ المهاجر. هو ولوج في نموذج ينزع المهاجر من ثقافاته الوطنية للاندماج في ثقافة النخبة العالمية للعولمة. بهذا التمايز ينفصل المهاجر عن النموذج القديم بما يحشر ثقافته الوطنية (اللغة، الوعي، العلاقات، القيم، الذوق، التصرّف..) بعد مغادرتها في حالة ذبول وتخفيض نتيجة إبعادها عن حقول السلطة الناجعة علميا واقتصاديا وسياسيا.
7 - من هذا التمايز الثقافي تندلع «فتنة» الزمان الرقمي الذي يذكّر بفتنة «كاليبسو»، حورية الأسطورة اليونانية، التي تأسر من يتيه في البحر ويحلّ على شطآن جزيرتها. فتنة الزمان الرقمي ينحو الاستقطاب الأساسي فيها إلى أن يكون بين نخب وطبقات اجتماعية مندمجة على الكوكب لا بين فئات ذات طبيعة وطنية أو قومية. به يُخلَق رأسمال ثقافي ورمزي مستقلّ بنخبة عالمية جديدة تواجه ثقافات وطنية منزوعة القوّة والفاعلية ومُخفَضَة القيمة تدفع إلى التنصّل منها نحو نموذج معولم وكوكبي.
احميده النيفر
جـامعي وعضو بيت الحكمة
- اكتب تعليق
- تعليق