صـعـود اليـمـين المــتطرّف: خطر داهـم وانعكاسات سلبيّـة على سياسات الاتحاد الأوروبي ومصالح جنوب المتـوسّط

صـعـود اليـمـين المــتطرّف: خطر داهـم وانعكاسات سلبيّـة على سياسات الاتحاد الأوروبي ومصالح جنوب المتـوسّط

أثار موضوع تعريف اليمين المتطرّف نقاشات طويلة خلال العشريتين الماضيتين إلاّ أنّها لم تفض إلى توافق في الآراء حول هذا التيّار السياسي الخطير الذي بات يعرف  بـ»الطاعون البنّي«. فهو يذكرنا »بمآسي« الفاشية والنّازية التي طبعت ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي رغم سعيه المتواصل إلى التّأقلم مع متطلبات الحاضر، فأفكاره لازالت عنصريّة ونُخبويّة مناهضة للتعدّديّة الثّقافيّة وكافة أشكال الكونيّة وتكنّ الحقد للإسلام وترفض الهجرة بوازع حماية الهويّة.

عادت «الفاشية» بشكل أو بآخر إلى الساحة السياسيّة الأوروبيّة رغم عدم وجود أحزاب جماهيريّة كبرى يمكن مقارنتها بالحزب القومي الاشتراكي الألماني في ثلاثينات القرن الماضي. وهناك شريحة هامّة من اليمين المتطرّف في أوروبا لها حاضنة فاشيّة أو نازيّة جديدة مباشرة من ضمنها حزب الفجر الذهبي اليوناني «Aube Dorée» والحركة من أجــل مجر أفضل «Jobbik» و«SVOBODA»  و«Secteur Droite» الأكرانـيــين وكذلك التجمّع الوطني الفرنسي «Rassemblement National» وحزب الحـرية النـمـساوي «F.P.O» و«Vlams Belang» البلجيـكي وحركة «PEGIDA» الألمانيّة (الوطنيون الأوروبيون ضدّ أسلمة الغرب) التي مهّدت الطريق لبروز حزب البديل من أجـل ألمانيا «AFD» المناهض بشدّة للهجرة والذي يعدّ حاليّا أكبر حزب معــارض في ألمانيا... وغيرها من الحركات والأحزاب المتطرّفة حيث كانت لمؤسّسيها علاقات وطيدة بالفاشيّة التاريخيّة وبالأوساط المتعاونة مع النّازيين.

وفي بلدان أخرى مثل هولندا وسويسرا وبريطانيا والدّانمارك لا ترتبط أحزاب اليمين المتطرّف بأصول فاشيّة لكنّها مع ذلك تتقاسم مع الأحزاب المذكورة أعلاه العنصريّة وكره الأجانب والخوف من الإسلام ومهما كانت الخصوصيّات التي تجمع أو تفرّق هذه الحركات والأحزاب فإنّ السّمة الأساسيّة بينها هي القدرة على الانتشار وفرض أجنداتها على السّاحة السياسيّة وهو ما أجبر الأحزاب التقليديّة على تعديل خطابها ومراجعة سياساتها المتعلّقة أساسا بالهجرة واللّجوء والإقامة والحريّات الدينيّة. وتشير الدّراسات حول اليمين المتطرّف إلى أنّ بلدانا أوروبيّة قليلة بقيت بعيدة عن هذا التيّار العنصري الحاقد وهي قبرص ولكسمبورغ ومالطا وإيرلندا رغم معاناة بعضها من الأزمة الماليّة لسنة 2008 التي كانت من ضمن العوامل الأساسيّة في صعود اليمين المتطرّف إلى جانب أحداث 11 سبتمبر 2001 وثورات الربيع العربي.

1 - الانتخابات الأوروبيّة المجراة في ماي 2019 والمشهد السياسي الجديد:

حقّق اليمين المتطرّف نجاحا كبيرا في الانتخابات الأوروبيّة الأخيرة وضاعف عدد مقاعده في البرلمان الأوروبي مقارنة بانتخابات 2014 (من 37 إلى 73 مقعدا) ما أدرجه في المرتبة الخامسة ضمن المجموعات البرلمانيّة السّبع، قبل المحافظين السياديين واليسار الموحّد وبعد الخُضْر مباشرة (74 مقعدا). إلاّ أنّ أعداد النّواب المناهضين والمشكّكين في الاتحاد الأوروبي والسياديّين الموالين لبعض من أفكارهم تناهز مجتمعة قرابة 180 نائبا أي ما يعادل ربع أعضاء البرلمان تقريبا وهو ما يبوّؤهم لاحتلال الموقع الثاني بعد الحزب الشعبي الأوروبي « PPE » في صورة انضمامهم إلى مجموعة واحدة. إلاّ أنّ ذلك لم يعد ممكنا بعد فشل المحاولات التي قام بها أكبر الأحزاب اليمينيّة المتطرّفة: حزب الرابطة الإيطالي بقيادة زعيمه Matteo Salvini وحزب التجمّع الوطني الفرنسي بقيادة Marine Le Pen.

إلى جانب هذين الحزبين الذين يعتبران الدّعامة الأساسيّة لمجموعة «هويّة وديمقراطيّة» في البرلمان الأوروبي، يجب التّذكير بما حقّقته أحزاب أخرى تحسب على التيّار المتطرّف لكنّها لا تنتمي بالضرورة إلى هذه المجموعة مثل حزب «BREXIT» البريطاني الذي حصد أكثر من 40 % من أصوات النّاخبين وحـزب «FIDESZ» المجـــري الذي ناهـــز نسبة 52 % من الأصوات وحركة 5 نجوم الإيطاليّة، حليفة الرابطة في الائتلاف الحكومي الإيطالي، التي تجاوزت نسبة التصويت لصالحها 17%. وهناك أحزاب يمينيّة أخرى مثل حزب الحرية النّمساوي «FPO» شريك حزب المحافظين في الحكم، المعروف برفضه الشّديد للإسلام والذي حقّق نسبة 17,2 % في الانتخابات الأخيرة رغم تورّطه في فضيحة ماليّة مع أطراف روسيّة أدّت إلى سقوط الائتلاف الحكومي. كما تجدر الإشارة إلى حزب «P.V.V» الهولندي الذي شدّد زعيمه Geert Wilders على ضرورة منع بيع كتب القرآن الكريم في هولندا وناهض بشدّة الهجرة وطالب بالتخفيض الأقصى في أعداد المهاجرين والخروج من الاتحاد الأوروبي وأصبح بذلك القوّة السياسيّة الثانية في البرلمان الهولندي. وهناك أحزاب أخرى عديدة تتبنّى الفكر المتطرّف حقّقت مراتب متقدّمة في أوروبا الشرقيّة وفي البلدان السكندينافيّة وأصبحت شريكة في الحكم (سلوفاكيا، فنلندا).

أمام تقهقر الأحزاب التقليديّة (اليمين واليسار) بات من الواضح بروز توازنات جديدة قوامها الليبراليّة من جانب والقوميّة من جانب آخر وهو ما يظهر بوضوح على الساحة الفرنسيّة حيث يدور الصّراع على السلطة بين الليبرالي Macron والقوميّة Le Pen.

2 - ما تأثير صعود اليمين المتطرّف على سياسات الاتحاد الأوروبي وبلدان جنوب المتوسّط؟

يكمن الخطر الأساسي في وصول أحزاب اليمين المتطرّف إلى الحكم وهو ما حصل فعلا في إيطاليا بعد تشكّل الائتلاف الذي جمع الرابطة بـــ»حركة 5 نجوم» وكذلك في النمسا من خلال انضمام حزب «FPO» (الحرية) إلى محافظي Sebastian Kurz وفي فنلندا حيث دخل حزب «الفنلنديون الأصليون» : les vrais Finlandais الائتلاف الحكومي وكذلك في سلوفاكيا وفي المجر رغم خصوصيات حزب « FIDESZ».

وتتمركز عديد الأحزاب اليمينية المتطرّفة الأخرى في المرتبة الثانية أو الثالثة في انتظار الوصول إلى الحكم. وهناك عدّة عوامل إقليمية ودولية تساعد على تقدّم الحركات المتطرفة من ضمنها الأوضاع الاقتصادية والبطالة والهجرة والخوف من الإسلام والإرهاب والحروب في الجوار المتوسطي وكلّها عناصر أساسية في خطاب هذه الحركات وتستقطب الرأي العام الأوروبي. وقد يؤدّي تفاقم هذه العوامل إلى تحوّلات كبرى في الموازين السياسية في أوروبا ورغم وجود تفاهمات سياسية في الدول الأوروبية تقضي بعدم التعاون مع ما يسمى بـــ«الطاعون البني» المناهض للقيم الأوروبية إلاّ أنّ هذه التفاهمات بدأت تسقط مع وصول بعض هذه الأحزاب إلى مواقع القرار. وهناك خطر توحيد المواقف لدى اليمين المتطرّف بين المشكّكين في البناء الاتحادي المطالبين بمغادرته والذين يريدون البقاء فيه ومحاولة تغييره من الداخل طبقا لمفاهيمهم وقد شاهدنا في الآونة الأخيرة تطوّرا في مواقف التجمّع الوطني لـــMarine Le Pen الذي تخلّص من العناصر الأكثر تطرّفا في قيادته وعدل عن الدعوة إلى الخروج من الاتحاد واعتمد سياسات ضدّ شيطنة الحزب بغرض الاندراج في مسار جديد يضفي الشرعية عليه ويلمّع صورته لدى الرأي العام.

وقد ساهمت تجربة الـــــ«Brexit» المريرة في هذا التحوّل حيث تبيّن الآن أنّه من المكلف جدّا النسج على منوال المملكة المتّحدة لتحقيق ما سمي بــــ«Frexit» (خـروج فرنسا من الاتحاد) وبــ«Dexit» (خــروج ألمانيـا من الاتحاد) أو حتّى «Euxit» (تفكّك الاتحاد).

وهناك خطر تضليل الرأي العام المقترن بصعود الأحزاب الشعبوية أو الشعبوية الجديدة التي يصنّفها Jean Yves Camus الباحث المتخصّص في القومية والتطرّف بأوروبا، كحركات سياسية لا ترتبط بالفاشية أو معاداة السامية والتي تتبنّى نقدا صارما لأوروبا الموحّدة والهجرة والإسلام، وهو ما يقلّل من حدّة التهم بالعنصرية وكره الأجانب والمسلمين على وجه الخصوص ويغضّ الطرف عن الموروث النازي (الجديد) لبعض هذه الأحزاب التي تسعى إلى عدم الإفصاح عنه.

يقول Jean Yves Camus إنّ النتائج الانتخابية لهذه الأحزاب أضعف من أن تمكّنها عموما من الوصول إلى الحكم إلاّ أنّها تشارك بقوّة في الحياة السياسية في بلدانها وتؤثّر بفاعلية في اختيار مواضيع الحوار. هذا الوضع تغيّر بعد دخول العديد من الأحزاب المتطّرفة في ائتلافات حكوميّة مع المحافظين.

وهناك خطر تسرّب أفكار ومواقف اليمين المتطرّف إلى بعض المجموعات السياسية الأخرى وخاصّة منها المحافظة التي شدّدت من مواقفها إزاء الهجرة واللجوء ومظاهر التديّن (الإسلام) وذلك لجلب الناخبين ومحاولة سدّ الطريق أمام تقدّم اليمين المتطرّف.

هذه الظاهرة تبرز خاصة في انضمام عديد القوميين واليمينيين المتطرّفين إلى مجموعة الحزب الشعبي الأوروبي (PPE) المحافظة بصفتها أكبر مجموعة برلمانية وربّما كذلك للتأثير على الخطاب المحافظ ومن ضمن هؤلاء نواب الاتحاد المدني المجري Fidesz الذي علّقت عضويّته أخيرا في هذه المجموعة لتحامله على سياساتها.

كذلك يفسّر بعض المحللين عدم وجود أحزاب يمينية متطرّفة قويّة في شرق أوروبا بتواجد أحزاب محافظة متشدّدة في السلطة تتبنّى نفس السياسات تقريبا.

لذلك يمكن القول إنّه في غياب أغلبية له داخل البرلمان الأوروبي، لن يتمكّن اليمين المتطرّف من تمرير مواقفه ويصعب على هذه الفئة أن تبني تحالفات مع مجموعة أو مجموعات أخرى، إلاّ أنّها ستساهم بقوّة في الحوارات الجارية حول المسائل المذكورة أعلاه. كما يمكن لها اعتماد سياسات داخل بلدانها لا تتماشى بالضرورة مع سياسات الإتحاد الأوروبي (إيطاليا والمجر على وجه الخصوص).  وعلى العموم، فإنّ المشهد السياسي بالبرلمان الأوروبي بدأ يتغيّر، فقد اهتزّت هيمنة الحزب الشعبي الأوروبي (PPE) والتحــالف التقــدمي للاشتراكيين والديمقراطيين (SXD) اللّــذيــن خسـرا ما بين 35 و45 مقعدا لكلّ منهما في حين تقدّم الليبيراليون والخضر بقوة، ومع أنّ الأحزاب الموالية لأوروبا الموحّدة وسياساتها بقيت محافظة على الأغلبية داخل البرلمان وباستطاعتها السيطرة على التيارات المتطرّفة إلاّ أنّ هذه الأخيرة ستواصل صعودها وانتشارها داخل البلدان الأوروبية. وستكون لذلك آثار سلبيّة على مصالح بلدان جنوب المتوسّط ومن ضمنها تونس، وهو ما يستدعي متابعة تطوّر هذه الظاهرة واستشراف انعكاساتها المحتملة في كافّة المجالات.

محمد لسير

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.