د. أحمد بن ميلاد ( 1902 – 1994) عندما يمتزج الطبّ بالنّضال الوطنيّ والاجتماعي
وللأطبّاء في حركتنا الوطنيّة التّحريريّة شأن وأيّ شأن ، في الأحزاب قادة وزعماء، وفي الجمعيّات والمنظّمات روّاد ونشطاء، وفي الصّحافة المناضلة أقلام في الإصلاح جريئة وأصوات في الحقّ عالية. أوّلهم محمود الماطري يترأّس الدّستور الجديد وبعده الحبيب ثامر وسليمان بن سليمان في لجنته التّنفيذيّة ومن حولهم الصّادق بوصفّارة وعبد الرّحمان مامي وصالح عزيّز ومحمود سليم مناضلون وحكماء. وفي النّساء توحيدة بن الشّيخ تسهر على أوّل مجلّة نسائيّة تونسيّة «ليلى» منذ 1937 وتبعث جمعيّة «دار اليتيم» وجمعيّة « كساء الرّضيع «. وواسطة القلادة طبيب وافر النّشاط متّقد العزم دائب الحركة، نقابيّ وشيوعيّ في البدء ثمّ دستوريّ قديم »غرنوطيّ« بعد ذلك فنقيب للأطبّاء وباحث مؤلّف، وهل يكون غير د. أحمد بن ميلاد؟
ولد سنة 1902، فهو ترب بورقيبة والحدّاد وغيرهما من الأفذاذ الذّين ولدوا مع انبلاج القرن الجديد كأنّهم جاؤوا ليدشّنوه ثمّ يملؤوه فعلا وإنجازا ووقعا وتأثيرا.
نشأ في المدينة العتيقة ينشق عطرها ويتشرّب أصالتها وينهل قيمها، يتنقّل بين باب الجديد حيث سكن العائلة وسوق الحرايريّة حيث دكّان والده وسوق السّرّاجين حيث دكّان عمّه، يتنعّم في أزقّة الرّبض ومنعطفاته بملاهي الطّفولة مع الأتراب والأجوار، وفي الأسواق يتعلّم «الصّنعة» ويرتاض على حذق أصولها، تمضي أيّامه بين هزل الصّغار ولعبهم وجدّ الكبار وجهدهم، فإذا هو يلج عالم الكهول مبكّرا ويبدأ نحت تجربته في الحياة.
أُدخل المدرسة الصّادقيّة مثل الكثير من أبناء جيله، ومنها رُدّ إلى المعهد العلوي قريبا من باب الجديد، ولم يُمض به سوى سنتين حتّى أُلحق بمعهد كارنو. ثمّ انقطع عن الدّراسة ستّ سنوات كاملة عمل خلالها في دكّان عمّه بسوق السرّاجين. ولم ترض نفسه الطّموح بمربّع الدّكّان الصّغير يضيق به وبمردود الحرفة التّقليديّة تغزوها البضائع الأوروبيّة فتنحدر إلى كساد. وسَمَتْ به همّته القعساء إلى طلب المعالي وتحرّك فيه الشّوق إلى مقاعد العلم من جديد، فأقرّ العزم على السّفر إلى فرنسا.
وكان قبل ذلك قد شهد من الأحداث ما أيقظ وعيه الوطنيّ وحرّك نقمته على الغاصب الأجنبيّ، حضر أحداث الجلّاز في نوفمبر 1911 واقِعَةً جللا في النّضال الشّعبيّ، وشهد جنازة الزّعيم الوطنيّ البشير صفر في 1917 موكبًا مهيبًا في إكبار كلّ من يُكرّس الحياة لخدمة الغير. وانضمّ في تلك الأثناء إلى الشّبيبة الاشتراكيّة وحضر اجتماعاتها السّياسيّة، وانخرط بداية العشرينات في الحركة الشّيوعيّة النّاشئة، وواكب تأسيس جامعة عموم العملة التّونسيّين وشارك في حركة الإضرابات التّي قادها في صائفة 1924 واختلط بزعيمها محمّد علي الحاميّ وبالطّاهر الحدّاد ومختار العيّاريّ وغيرهم من قادتها. فلم ينتقل إلى فرنسا إلّا وقد تشكلّ وعيه السّياسيّ والاجتماعيّ وصُقلت تجربته وتعمّق فهمه للأشياء.
دامت التّجربة الباريسيّة ثماني سنوات بالتّمام والكمال (1925 – 1933) وتوزّعت بين التّحصيل العلميّ في كليّة الطّبّ والنّضال السّياسيّ الطّلاّبيّ. في العلم نال شهادة الدّكتورا في الطبّ إثر تقديم أطروحة حول « المدرسة الطبيّة بالقيروان في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريّين «فكانت مدخله إلى الاهتمام بتاريخ الطّبّ عند العرب بعد ذلك. وفي النّضال الطّلاّبيّ كان من مؤسّسي جمعيّة طلبة شمال إفريقيا المسلمين بفرنسا سنة 1927 وتولّى فيها مهمّة الكتابة العامّة، وساهم بفاعليّة في أنشطتها ومؤتمراتها ومنشوراتها . وفي السّياسة نشط صلب الحركة الشّيوعيّة وســـاهـــــم في التّحـــرير في مجلّــة « L’Humanité» النّاطقة باسم الحزب الشّيوعي الفرنسي، واتّصل بنجم الشّمال الإفريقي ذي التّوجّهات الوطنيّة المغاربيّة.
غادر تونس أوساط العشرينات طالبا وعاد إليها بداية الثّلاثينات طبيبا، غادرها وقد قُمعت حركة محمّد علي وتشتّت شملها وأُسكت في البلاد كلّ صوت حرّ، وعاد إليها وقد بدأت تظهر بوادر حركة وطنيّة جديدة بزعامات شابّة مستنيرة تتّقد حماسة. وخيّر الطّبيب الشّابّ أن ينضمّ إلى اللّجنة التّنفيذيّة للدّستور القديم في الوقت الذّي التحق جلّ زملائه خرّيجي الجامعات الفرنسيّة بالحزب الحرّ الدّستوريّ الجديد، ذلك أنّ بن ميلاد كان قبل رحيله إلى فرنسا من أتباع الثّعالبي والمعجبين بأفكاره ولازمه بعد عودته إلى حين وفاة الشّيخ سنة 1944
فتح عيادته بحيّ الحلفاوين الشّعبيّ ولُقّب بطبيب الشّعب لما أبداه من حرص على مساعدة المحتاجين والتّطوّع لفحص المرضى مجّانا يوما في الأسبوع، واتّجه إلى العمل الجمعيّاتي والتّطوّعي فأسّس «جمعيّة الاتّحاد الكشفي التّونسيّ» سنة 1937، وأسّس «دار ابن الجزّار» سنة 1935، وهي أوّل مستوصف تونسيّ، وجنّد لمعالجة المرضى مجّانا مجموعة من أصدقائه مساء كلّ يوم، ونظّم حملات عديدة لمقاومة بعض الأمراض المعدية المنتشرة في ذلك الوقت، وألقى دروسا في حفظ الصّحّة بالمدرسة الخلدونيّة وبدار المعلّمين. ثمّ أنشأ على نفقته مدرسة ابتدائيّة بمنطقة برج الطّويل لنشر التّعليم في الوسط الرّيفيّ، ونجح في التّصدّي لضمّ معهد باستور إلى الممتلكات الفرنسيّة. ولمّا جدّت أحداث 9 أفريل 1938 التّي سقط فيها من الشّهداء ما يزيد عن المائة وأصيب فيها أمثالهم من الجرحى تطوّع بمعيّة زوجته السيّدة نبيهة بنت عثمان بن عبد اللّه لعلاج الجرحى فكان ذلك ممّا خفّف من وطأة المصاب.
حاول في صائفة 1937 صحبة عدد من الوطنيّين توحيد الحزبين القديم والجديد بعد عودة الثّعالبي من الشّرق ولكن دون جدوى إذ ظلّت الرّؤى متباعدة بين القيادتين. إلّا أنّه حضر بعد ذلك مؤتمر ليلة القدر الشّهير (23 أوت 1946) ممثّلا عن الحزب القديم صحبة صالح فرحات، وقد ضمّ المؤتمر أطراف الحركة الوطنيّة التّونسيّة: الحزب الدّستوريّ القديم والحزب الدّستوري الجديد والاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل ومشائخ من جامع الزّيتونة (الفاضل بن عاشور والشّاذلي بلقاضي) وأرباب الصّناعة والتّجارة والفلاحة والأطبّاء والصّيادلة والمحامون والأساتذة والمعلّمون وبعض وزراء المنصف باي ( محمّد شنيق) ، وألقي عليه القبض من قبل السّلطات الاستعماريّة ليُطلق سراحه مع سائر المعتقلين في 23 سبتمبر 1946.
وإبّان الثّورة المسلّحة (1952) واكب بمقالاته في جريدة «كفاح» السّريّة الاعتداءات التّي قام بها الجيش الفرنسيّ ضدّ التّونسيّين بالوطن القبلي فساهم في فضح الممارسات الاستعماريّة أمــــام الرّأي العامّ الفــــرنسيّ والعالميّ، وأعـــدّ بصفته طبيبا تقارير حـــول تلك الاعتداءات.
بادر إثر الاستقلال إلى تكوين نقابة للأطبّاء التّونسيّين ( 1956 – 1958 ) وتولّى رئاستها، وقد ضمّت ألمع الأطبّاء وقتئذ: د. إبراهيم الغربيّ ود. الهاشمي العيّاري ود. علي الفوراتي. ولم تنقطع روح التّطوّع وخدمة الغير فيه فاتّجه إلى تقديم المساعدة والعون للثّورة الجزائريّة المضطرمة. ثمّ اندلعت معركة بنزرت (جويلية 1961) فتطوّع لمعالجة جرحاها بمستشفى منزل بورقيبة. وهو على ذلك ناشط كعادته حـــركيّ دؤوب، وطنيّ صادق، يعمل بلا هــوادة ويُعطي بلا حساب. ولمّا استقرّ حال البلاد واستكملت سيادتها تفرّغ لممارسة مهنة الطبّ إلى حدود سنة 1975 وعكف على البحث والتّأليف في تاريخ الطبّ عند العرب وفي التّاريخ السّياسيّ والاجتماعيّ لتونس الحديثة، فأصدر كتابا حول «محمّد علي وظهور الحركة العمّاليّة التّونسيّة»، ثمّ نشر بمعيّة الباحث الجامعيّ محمّد إدريس ما احتفظ به من وثائق الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي تحت عنوان: «الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي والحـــركة الوطــــنيّة: 1892 – 1940».
وبعد مسيرة حافلة بالعمل والتّفاني في المجال الطبّي وفي الحقل السّياسيّ والاجتماعيّ توفيّ الدّكتور أحمد بن ميلاد في 4 نوفمبر 1994 بعد نصف قرن بالضّبط من وفاة شيخه وأستاذه الثّعالبي تاركا للأجيال اللّاحقة أنموذجا أمثل في الوطنيّة وخدمة الغير وقدوة حسنة في أعمال البرّ والإحسان الخالصة لوجه اللّه دون انتظار جزاء أو شكور.
الحبيب الدريدي
- اكتب تعليق
- تعليق