الحبيب التّهامي: قراءة في الميزان التجاري التونسي
بلغ عجز الميزان التجاري في تونس سنة 2018 ما يناهز 19 ألف مليون دينار وهو رقم قياسي لم يبلغه من قبل، فقد تطوّر بنسق سريع في السنوات الأخيرة حيث مرّ من 8297.8 مليون دينار في سنة 2010 إلي 19049 مليون دينار في سنة 2018 أي أنّه تضاعف في فترة وجيزة. ولقد كان من المفروض التحكّم فيه أو الحدّ من نسقه على الأقل بالضغط على تـــوريد الموادّ الكماليّة نتيجة انزلاق العملة الوطنية انزلاقا كبيرا لم تشهده البلاد من قبل حسب الرؤية المالية الكلاسيكية إلاّ أنّه تزايد بسرعة هائلة ممّا يدلّ على بطلان النظرية المشار إليها بالرجوع إلى خاصيّات الاقتصاد الوطني والأسباب الهيكلية الحقيقية الكامنة وراء العجز التجاري التونسي كما سنراه لاحقا.
الميزان التجاري بالمليون دينار
لقد عرفت تونس منذ استقلالها عجزا واضحا في ميزانها التجاري باستثناء سنة 1958. كما عرفت أيضا انخفاض نسبة التغطية إلي مستوى 7، 48 بالمائة في سنة 1965 نتيجة لتخفيض قيمة الدينار وقتئذ وبلوغــها نسبة 4، 81 بالمائة في سنة 1974 نتيجة لظروف دولية و مناخية ملائمة جدّا . ورغم ذلك فإنّ معدّلها في السنوات التي يعتبرها التونسيون سنوات رخاء ونجاح اقتصادي لا مثيل له أي السبعينات لم يتجاوز السبعين بالمائة. أمّا في الثلاثين سنة الماضية بالتحديد فإنّ نسبة التغطية شهدت استقرارا نسبيا لكن أثّرت فيها سلبا بين سنة وأخرى الظروف المناخية من جهة وتغيّر حاصل مبادلات الطاقة من جهة أخرى بداية من مطلع القرن الحالي.
أمّا في السنوات الأخيرة فإنّنا نلاحظ أنّ تزايد العجز التجاري كميّا لم يواكب تناقص نسبة التغطية حيث يتبيّن لنا أنّها بقيت في حدود التسعة والستين بالمائة كمعدل للسنوات 2012 - 2018 في حين تضاعف العجز تقريبا في الفترة نفسها. كما نلاحظ أيضا أنّ لتزايد العجز التجاري في الفترة نفسها أسبابا ثلاثة من الناحية الكميّة على الأقل وهي مؤثرات الحجم ومؤثّرات العملة ومؤثّرات الأسعار إلاّ أنّ مؤثّرات العملة ونعني هنا تردّي قيمة الدينار بالنسبة إلى العملات الأجنبية تبقي هي السائدة حسب البنك المركزي نفسه. فما السبب حينئذ في التساؤل بالخصوص عن تأثير تفاقم عجز الميزان التجاري على تردّي الأوضاع الاقتصادية والمالية للبلاد والحال أنّ لانخرام توازن المدفوعات الخارجية أسبابا متعددة منها كما أشرنا، عجز الميزان التجاري ومنها أيضا ما يتعلق بالتردي النسبي لمداخيل السياحة والعمل بالأسعار القارّة وحتّى بالأسعار المتداولة أحيانا ومنها ما يتعلّق بتناقص مداخيل الاستثمار الأجنبي المباشر؟
إنّ الجواب عن هذا السؤال في بلد يُدار اقتصاده وماليته بقصر نظر وآليات تجاوزها الزمان الجواب هيّن وصعب في الآن نفسه حيث انحصر النقاش الاقتصادي والمالي الدائر منذ سنوات حول تأثير تراجع الإنتاج المنجمي علي الصادرات وبالتالي على عجز الميزان التجاري وهو تأثير واضح لا محالة كما أنّ الأضواء سلطت بالخصوص على تزايد الفرق بين إنتاج البلاد من المواد الطاقية كالبترول وحاجياته وهو تأثير أكثر وضوحا من سابقه إلا أنّ هذا التحليل يبقى سلبيّا وغير مستقبلي لأنّه لم يتعرض للأسباب الحقيقية والهيكلية الكامنة وراء عجز الميزان التجاري التونسي.
الميزان التجاري حسب البلدان والمناطق الجغرافية
التصدير
لا تزال بلدان أوروبا تمثّل شريكنا التجاري الأوّل حيث كانت وجهة لأكثر من ثلاثة أرباع صادراتنا في سنة 2018 ومصدر خمسة وستين بالمائة من وارداتنا رغم ما طرأ من متغيّرات بين 2000 و 2018 ، كما لا تزال فرنسا شريكنا التجاري الأوّل من حيث الصادرات مع تراجع خفيف من حيث الواردات. فمن حيث الصادرات التونسية نلاحظ أنّ حصة إفريقيا منها تزايدت بين سنة 2000 وسنة 2018 في حين تناقصت حصّة أوروبا واستقرّت إجمالا حصّة آسيا ممّا أدخل بعض التغيّر في التبعية المألوفة تجاه أوروبا عامّة وفرنسا خاصّة وفتح آفاقا إيجابية باتجاه بلدان القارة الإفريقية رغم تراجع حصّة إفريقيا من الصادرات التونسية في السنوات الأخيرة.
التوزيع القاري للصادرات التونسية
أمّا من حيث حصّة البلدان من الصادرات التونسية فإنّ فرنسا لا تزال تتصدّر هذه البلدان تليها إيطاليا ثمّ إسبانيا وهي البلدان الواقعة شمال البحر الأبيض المتوسط التي ترتبط معنا بعلاقات تاريخية واقتصادية و ثقافية قديمة علاوة على ذلك قربها منّا ومشاركتنا في بعض التقاليد كاستهلاك زيت الزيتون ومنتجات الصيد البحري وفي المقابل نلاحظ الركود النسبي لحصص البلدان المغاربية من صادراتنا أو تراجعها وهذا يهمّ ليبيا بالخصوص نظرا للظروف السياسية والأمنية التي يعيشها هذا البلد المجاور منذ 2011.
حصص بعض البلدان من الصادرات التونسية
التوريد
يختلف التوزيع القاري للواردات التونسية وحصص مختلف البلدان منها عن التوزيع القاري وحصص مختلف البلدان من الصادرات التونسية و يظهر هذا الاختلاف بالخصوص في السنوات الأخيرة كارتفاع حصة آسيا والصين من الواردات التونسية و تراجع حصة أوروبا و فرنسا بالخصوص. على أنّ سلع الدول الأوروبية لا تزال تتصدّر قائمة الواردات التونسية حتّى وإن تراجعت حصتها بين سنتي 2000 و2017 كما يشير إلى ذلك الجدول أسفله.
التوزيع القاري للواردات التونسية
ويبرز الجدول المتعلّق بحصص بعض البلدان من الواردات التونسية أنّ حصّة فرنسا و إيطاليا تراجعت بين سنتي 2000 و2017 . أمّا حصّة الجزائر فإنّها تغيّرت حسب الظاهر مع تغيّر حاجيات البلاد من المواد الطاقية مع نموّ ملحوظ في الفترة المشار إليها وهو نموّ لا يرقى إلى مستوى العلاقات بين البلدين في حين تأثّرت حصة الواردات من ليبيا بعد سنة 2010 بالوضع السياسي العام وبقيت العلاقات التجارية مع المغرب متواضعة جدّا رغم الاتفاقيات المبرمة بين البلدين لتطويرها.
حصص بعض البلدان من الواردات التونسية
والحصيلة أنّ الميزان التجاري التونسي في 2017 عانى من عجز هائل مع أغلب المناطق الجغرافية الكبرى باستثناء إفريقيا ككلّ ويعاني أيضا من عجز مع أغلب البلدان باستثناء فرنسا وليبيا وبدرجة ثانية سويسرا وبريطانيا العظمى والمغرب وهولندا وبولونيا. ونظرا لرقم المعاملات التجارية بين تونس و فرنسا ونظرا لاستمرارية الفائض التجاري لصالحنا مع فرنسا منذ 2004 يمكن أن نقول إنّ معاملاتنا التجارية مع هذا البلد شهدت في السنوات الأخيرة منعرجا إيجابيا يخالف المألوف منذ الاستقلال.
تطور الميزان التجاري بمليون الدينار
هذه المعلومات منقولة عن الموقع الالكتروني التابع للمعهد الوطني للإحصاء وقد تتضمّن بعض الأخطاء في تفاصيلها لكن الحصيلة العامة والتفصيل القاري يبدوان صائبين.
الميزان التجاري حسب المجاميع القطاعية
يقسّم المعهد الوطني للإحصاء المجاميع القطاعية إلي تسعة أصناف رئيسية: الفلاحة والصناعات الغذائية/ الطاقة والمواد المشتقة/ المناجم و الفسفاط /النسيج واللباس والأحذية/ الصناعات الميكانيكية والكهربائية/مواد النقل/ صناعات ميكانيكية أخرى/صناعات الكترونية وكهربائية/ مواد صناعية أخرى. ويهدف هذا التصنيف في المجال الذي نتحدث عنه إلى تبيان ما لكلّ مجمع من تأثير في الميزان التجاري العام وحيث أنّ للظروف الطبيعية انعكاسا مباشرا على الإنتاج الفلاحي والغذائي وجب توسيع رقعة التأمّل والتحليل في الإحصائيات المتوفّرة إلى الأمد البعيد. وبالرجوع إلى الماضي البعيد نسبيا وبالتحديد سنة 1993 نلاحظ أنّ كلّ المجاميع المذكورة تشكو عجزا في ميزانها التجاري باستثناء المناجم والفسفاط من جهة والنسيج والملابس والأحذية كذلك الطاقة التي سيأتي دورها فيما بعد مع مطلع القرن الحالي ومن جهة أخرى، حيث ساهم قطاع الصناعات الميكانيكية والكهربائية وحده بأربعة أعشار عجز الميزان التجاري حسب المجاميع كما ساهم قطاع الصناعات الميكانيكية الأخرى في الثلث تقريبا في حين لم تساهم الفلاحة والصناعات الغذائية إلا في اثنين بالمائة فقط في هذا العجز مقابل لا شئ لقطاع الطاقة والمواد المشتقة. أمّا في سنة 2018 فإنّ قطاع الطاقة والمواد المشتقّة ساهم بخمس عجز الميزان التجاري حسب المجاميع مقابل الربع تقريبا للصناعات الميكانيكية والكهربائية والربع أيضا للصناعات الميكانيكية الأخرى في حين نلاحظ أنّ الفلاحة والصناعات الغذائية لم تتجاوز مساهمتها في عجز الميزان التجاري حسب المجاميع خمسة بالمائة.
مساهمة بعض المجامع القطاعية في عجز الميزان التجاري
ومعنى ذلك أنّ المتسبّب الحقيقي في عجز الميزان التجاري حسب المجاميع أصبح اليوم قطاع الطاقة من جهة وضعف نسبة اندماج الصناعات المعملية من جهة أخرى. ولقد طرحنا جانبا تأثير عجز قطاع الفلاحة والصناعات الغذائية في عجز الميزان التجاري ككل رغم أهميته لأنّه من الصعب التحكّم فيه بالنظر إلى الظروف المناخية والطبيعية التي تلعب دورا هامّا ومتقطّعا في زيادته أو نقصانه. وهذا ما يثبته التحليل القائم على اعتبار متوسّط مساهمة القطاعات في عجز الميزان التجاري بين السنتي 1993 و 2018 حيث نلاحظ أنّ الصناعات المعملية هي المتسبّبة الرئيسية في عجز الميزان التجاري حسب المجاميع وهذا ليس بالغريب وذلك لغياب صناعات المواد نصف المصنّعة وصناعة التجهيزات خصوصا. إلا أنّ هذه الحقيقة الدامغة لم تجابه لحـــدّ الآن بالحكمــة المنتظــرة لا من طرف السلطة المعنية ولا من طرف الرأي العام اللذين اكتفيا بالتنديد بتراجع إنتاج قطاع المناجم ومشتقّاته وبعجز ميزان الطاقة في حين أنّ الصناعات تتسبّب وحدها في ما يقرب عن ثلاثة أربـــاع العجز الجملي للميزان التجاري التونسي.
وحرّي بنا أن نتوقف عنــد مسألة أخيرة في ختام هذا المقال وهي أنّ عجز الميزان التجاري للسلع على المستوى الجملي للمبادلات سجّل في الأربعة أشهر الأولى لستة 2019 ما يقارب 6337 مليون دينار وهو ناتج عن العجز المسجل مع بعض البلدان كالصين (2012 مليون دينار) والجزائر(1162 مليون دينار) وايطاليا (1090 مليون دينــار) وتركيا (904 مليون دينار) وروسيا (553 مليون دينار) وبخلاف ذلك سجل ميزاننا التجاري فائضا مع عدّة بلدان أهمّها فرنسا (1685 مليون دينار) وليبيا (454 مليون دينار) والمغرب (219 مليون دينار). ومعنى ذلك أنّ التغيّر الحاصل على صعيد منحى العلاقات التجارية مع فرنسا منذ سنوات أصبح في سنة 2019 واقعا ملموسا لا يمكن إنكاره لأنّه يتمتّع بالاستمرارية وغير متقطّع بخلاف ما يحدث مع بلدان أخرى.أمّا الحقيقة المرّة التي يجب مجابهتها الآن بكثير من الحكمة والمسؤولية فإنّها تكمن في تدهور الصناعة التونسية بشكل رهيب منذ سنة 2011 دون أن تضع الدولة التونسية برنامجا للحدّ منها في مرحلة أولى وقلب الاتجاه في مرحلة ثانية لأنّ معالجة عجز الميزان التجاري وعجز الميزانية العامة للدولة وعجز الصناديق الاجتماعية تتوقف في النهاية على إنقاذ الصناعة التونسية من الهلاك وتوجيهها الوجهة الصحيحة حسب استراتيجية واضحة بعيدة المدى. فلا نخلط إذا بين الأسباب والنتائج ولا نقدم هذه الأولوية على تلك لمجرد أن تكلفتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية أقلّ كما حدث ويحدث في ميدان التشغيل والحدّ من البطالة مثلا حيث قلبنا العلاقة التي تربط هذا الميدان بالإنتاج والاستثمار دون أن يتحسّن وضع التشغيل والبطالة، بل إنّ العكس هو الذي حصل.
الحبيب التّهامي
- اكتب تعليق
- تعليق