عامر بو عزة: الراكِبونَ رُؤوسَهُم

الراكِبونَ رُؤوسَهُم

أعادت وفاة الرئيس المعزول محمد مرسي -رحمه الله- إلى الواجهة مجددا تجربة حكم الإسلاميين في تونس ومصر بعد ثورات «الربيع العربي»، لا سيما أن هذه الوفاة المثيرة للأسف يجري استثمارها إعلاميا وسياسيا في بعض البلدان منها تونس، حيث دعا رئيس كتلة حركة النهضة زملاءه من مختلف الأطياف السياسية في البرلمان إلى تلاوة الفاتحة ترحّما على روح الفقيد مثيرا جدلا واسع النطاق تجاوز حدود مجلس نواب الشعب إلى وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، كما أثار بكاءُ الدكتور محمد المنصف المرزوقي الرئيس السابق للجمهورية التونسية في برنامج مباشر بقناة الجزيرة ردود فعل مختلفة.

تثير هذه المواقف الانتباه لعدة أسباب، أولها أنها تمثل رغم كل المتغيرات التي حصلت في العالم امتدادا للموقف الرسمي المحلي إبان الإطاحة بالإخوان في مصر يونيو 2013، فبمجرد إزاحة مرسي من الحكم تلقى الرئيس المؤقت «عدلي منصور» سيلا من برقيات التهنئة من مختلف دول العالم وحتى من الدول التي تحتفظ بعلاقات جيدة مع الإخوان، وهو ما اعتبر قبولا صريحا بالتغيير السياسي الحاصل (أيا كان توصيفه)، ولم تمتنع عن ذلك إلا تونس التي اصطفت وراء تركيا في معارضة ما حدث ووصفه بالانقلاب العسكري ورفض تدخل الجيش والتأكيد على أن الشرعية في مصر واحدة ويمثلها الرئيس محمد مرسي دون سواه، ومثّل الموقف التونسي الذي كان صدى شديد الوضوح لموقف الإخوان في مصر انتصارا لعقلية الجماعة على منطق الدولة.

تصرّ النهضة ومعها المنصف المرزوقي على البقاء في نفس النقطة،لكنهما لا يمتلكان اليوم سلطة تطويع الدولة وجرّها إلى تبني موقف الجماعة باسم الأغلبية، ولئن كان المرزوقي وهو يبكي لا يمثل إلا شخصه الكريم، فإن نور الدين البحيري وهو يدعو إلى تلاوة الفاتحة ترحّما على مرسي يخلط خلطا فظيعا بين الحزب والدولة وبين السياسة والدين، وقد كان يمكن حتى أداء صلاة الجنازة في «مونبليزير»، لكن تلاوة الفاتحة في باردو موقف سيادي، ورئيس الجمهورية دستوريا هو الذي يمثل الدولة ويختصّ بضبط السياسات العامة في مجال العلاقات الخارجية.

ويتعارض موقف النهضة هذا شكلا ومضمونا مع التغيرات التي تبنتها من قضية الإسلام السياسي، ولا شك أن نهاية تجربة الإخوان السريعة في مصر كانت أحد أبرز دوافعهافي الإسراع إلى إعلان الفصل بين الديني والدعوي والتحوّل إلى حزب ذي مرجعية دينية وتقديم تنازلات كبيرة منها الخروج من الحكم قبل موعد الانتخابات في 2014، وهذه التغيرات التي يشكّك فيها كثير من معارضيها ويعتبرون أنها لم تصدر عن مراجعات عميقة وموثقة وإنما تمثل مناورة سياسية للبقاء في الحكم  يعتبرها الملاحظون الدوليون خصوصا تفوقا يحسب للإسلاميين في تونس على نظرائهم المصريين لقدرتهم على التكيف مع الظروف وعدم التردد في تقديم التنازلات الموجعة وإبرام التحالفات في الوقت المناسب، لكن التخلي عن البراغماتية والعودة بمناسبة وفاة مرسي  إلى مسألة الشرعية ولو بمواقف انفعالية وعاطفية يطرح أكثر من سؤال محيّر حول طبيعة مراجعات النهضة خصوصا وهي تبدو على أعتاب الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة الطرف السياسي الأكثر تماسكا واستعدادا.

تمثل شخصية الرئيس المعزول محمد مرسي نقطة التقاطع بين أضداد شتى: الدولة الدينية والحكم العسكري، العلمانيةوالإسلام السياسي، العقل والخرافة...الخ، فضلا عن التناقضات التي تمثلها من حوله مصالح القوى الإقليمية والدولية ومواقفها المتضاربة من الربيع العربي ومآلاته، وأن يكون مرسي أول رئيس مصري منتخب ديمقراطيا فهذا لا يعني بالضرورة أنه رئيس ديمقراطي، كما أن الشرعية التي يمثلها لا يمكن أن تكون غطاء للإخفاق في إدارة شؤون الدولة، ففي الوقت الذي كانت فيه أرقام مؤسسة الرئاسة المصرية في 2013 تتحدث عن ارتفاع معدل نمو الناتج المحلي وقع تخفيض التصنيف الائتماني لمصر أربع مرات، وارتفع الدولار الأمريكي ارتفاعا قياسيا أمام الجنيه المصري، ورغم انخفاض واردات مصر من القمح وارتفاع عدد السياح أعلن جهاز الإحصاء أن نسبة الفقراء ارتفعت إلى أكثر مما كانت عليه قبل الثورة.

وفضلا عن هذا التناقض الذي اتسم به الوضع الاقتصادي تؤكد وقائع الأيام الأخيرة في حكم الرئيس مرسي عجزه عن الاستجابة لمطالب المعارضة والشارع والمجتمع الدولي بذكاء، وعجزه على القيام بمراجعات عاجلة لتعديل الخط السياسي وعناده الخرافي إزاء كل المقترحات التي تمّ عرضها عليه،وقد كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» أن مرسي رفض كل محاولات الوساطة الأمريكية مؤكدة أنه تلقى قبل عزله بساعات اتصالا من وزير خارجية دولة عربية تصرّف كمبعوث من واشنطن وتضمنت المكالمة عرضا لإنهاء المواجهة مع جنرالات الجيش، لكنه اعتبر ذلك انقلابا على الشرعية الدستورية،وأكدت الصحيفة أن أحد قادة الإخوان وصف ردّ مرسي بأنه «مزيج من العناد والمثالية» كما ذكرت أن مرسي أجاب أحد معاونيه عندما سأله: «هل هذه هي النهاية؟»قائلاً «النهاية ستكون عندما ترون دمائي تسيل في أروقة» مؤكدا أنه لن يتخلى عن منصبه إلا على جثته. وقبل يومين من سقوطه اتّصل به الرئيس أوباما وأعلمه أن واشنطن «مُلتزِمة بالعملية الديمقراطية في مصر مشدّدا على أن الديمقراطية، هي أكثر من مجرّد انتخابات، بل هي أيضاً ضمان أن تكون أصوات جميع المصريين مسموعة وممثلة من قبل حكومتهم، ومنهم المصريون الذين يتظاهرون في جميع أنحاء البلاد» لكنه لم يفهم الموقف الأمريكي على حقيقته واعتبره وقوفا إلى جانب الرئيس المُنتخَب وظلّ إلى آخر لحظة يقلّل من أهمية الجماهير التي تحتشد في الساحات احتجاجا على «أخونة الدولة» ولا يفعل شيئا لسحب مناصريه وتجنيبهم حمّام دم كانت كل المؤشرات تدلّ على حدوثه الوشيك وتفسّر مكالمة أوباما الأخيرة بوضوح الموقف الأمريكي من تدخل الجيش وامتناع واشنطن عن اعتباره انقلابا عسكريا وعدم قطع المساعدات وسائر برامج التعاون المبرمة.وفي مقابل كل هذه المساعي التي بذلتها القوى الدولية بما فيها الدول العربية الداعمة لحكم الإخوان كان وُعّاظ جماعة الإخوان المسلمين يحدثون المعتصمين عن رؤيا دخول جبريل مسجد رابعة العدوية لتثبيت المصلين! ورؤيا الرسول (صلعم) يصلي وراء الرئيس مرسي وعن وجه الشبه بينه وبين النبي يوسف في السجن والمعاناة.

لا يمكن وصف الرئيس الراحل محمد مرسي إلا بالرجل الذي ركب رأسه، ومعناها الرجل العنيد. والعناد في السياسة لا يدلّعلى البطولة، ولا يعني الالتزام والتشبث بالمبادئ بقدر ما يعني التهور وانعدام الخبرة والجهل بأصول اللعبةلا سيما عندما تزهق الأرواح بسبب هذا العناد، فالسياسة كرّ وفرّ، والقائد الماهر هو الذي يعرف كيف يتراجع في الوقت المناسب ليعيد ترتيب الصفوف ويحقن الدماء، وهذا لم يقع في أول تجربة لحكم الإخوان في مصر، والأكثر إثارة للاستغراب أن الإسلاميين في تونس وقد برهنوا في مستوى الممارسة العملية على اتّعاظهم من التجربة المصرية وتصرفوا بمرونة في مواجهة إخفاقهم في إدارة الدولة لا يتعاملون مع تجربة الحكم بأدوات النقد الذاتي والتنسيب بل يعودون اليوم إلى مرسي وإلى خطاب المظلومية والتقديس والأفكار الكهنوتية وهي مضامين تتناقض شكلا ومضمونا مع التزامهم المعلن بالانخراط في الدولة المدنية والاستجابة كليا إلى مقتضياتها.

عامر بو عزة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.