الوحدة العسكريّة التّونسيّة بمالي: حرفيّة وانضباط وأداء مشرّف
هم 75 فردا من خيرة أبناء الجيش الوطني الباسل، اختيروا وفق مقاييس صارمة منها الكفاءة العالية والجاهزية العملياتية واللياقة البدنية وحذق اللغات الأجنبية وخاصّة الانقليزية وتلقّوا تكوينا معمّقا في القانون الدولي وقانون الأمم المتحدة والقانون الإنساني، يشكّلون الوحدة العسكرية التّونسيّة للنقل الجوي التي تعمل منذ فيفري 2019 ضمن بعثة الأمم المتّحدة المتعدّدة الأبعاد المتكاملة لتحقيق الاستقرار في مالي.. تتمركز الوحدة على مقربة من مطار باماكو، عاصمة مالي، هذا البلد الأفريقي الذى أضحى منذ جانفي 2012 مسرحا للإرهاب وللاحتراب الداخلي وموطئ قدم لتجّار المخدّرات ولشبكات التهريـــب والجـريمة المنظّــمة لا سيّما في شماله ووسطه حيث انهارت سلطة الدولة ممّا جعل البلاد تعيش أزمة معقّدة تتداخل فيها الأبعاد السياسية والأمنية والإثنية والاقتصادية.. أزمة تلقي بظلال كثيفة على الوضع الجيواستراتيجي في منطقة الساحل الأفريقي وحتّى على تخوم مناطق أخرى، منها الشمال الأفريقي القريب من الفضاء الأوروبي. وتتمثّل مهامّ الوحدة العسكرية التونسية في استخدام طائرة من نـــوع C 130 لتقديم الدعم اللوجيستي للقوات الأممية في مجال نقل الأفراد والعتاد بما في ذلك الإخلاء الصحّي وهي تتألّف من طواقم وعسكريين من اختصاصات مختلفة.
ومن خلال إيفاد هذه الوحدة العسكرية عادت تونس من الباب الكبير وبعد انقطاع دام زهاء 9 سنوات إلى دائرة المشاركة في عمليات حفظ السلام تحت راية الأمم المتّحدة، لتواصل إسهاماتها في الجهود الرامية إلى نشر الأمن والسلم في عدّة أماكن من العالم وخاصّة في القارّة الافريقية والتي انطلقت منذ جويلية 1960، تاريخ انتشار فيلق للجيش الوطني الناشئ في الكونغو.
وهذه هي المرّة الأولى التي يشارك فيها جيش الطيران في عملية أممية لحفظ السلام بعد أن تطوّرت معدّاته وتعزّزت قدراته العملياتية بشكل لافت في السنوات الأخيرة.زار وزير الدفاع الوطني السيد عبد الكريم الزبيدي هذه الوحدة يومي 11 و12 جوان الجاري وعاين ظروف عمل أفرادها وأحوال معيشتهم حاملا رسالة إلى هؤلاء العسكريين التونسيين المرابطين على بعد قرابة أربعة آلاف و500 كلم خارج حدود الوطن ومستطلعا انطباعات كبار المسؤولين في البعثة الأممية عن أداء الوحدة ومدى رضاهم عن أدائها.ليدرز العربية التي رافقت الوزير في رحلته إلى باماكو والتي استُخدمت فيها في الذهاب كما في الإياب طائرة من نوع C 130 تابعة لجيش الطيران تنقل إليكم وقائع هذه الزيارة.
لم تخل هذه الزيارة في الحقيقة من بعد رمزي. فهي تأتي من حيث توقيتها غداة انتخاب تونس يوم 7 جوان الجاري عضوا غير دائم بمجلس الأمن بما يقارب الإجماع (191 صوتا من بين 193 صوتا) والذي أكّد ثقة المجموعة الدولية في ما أبدته دائما من حرص على تجسيم المبادئ الأممية في حفظ السلام ونشر الأمن والسلم في العالم، من منطلق التزامها بالمواثيق والمعاهدات الدولية التي صادقت عليها في هذا المجال وانخراطها في المجهود الدّولي في مكافحة الإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة والتصدّي للهجرة غير الشرعيّة.
كما أنّها تتزامن مع الاحتفال بالذكرى الثالثة والستين لانبعاث الجيش الوطني ولعلّ الوزير أراد من خلال ذلك آن يحفِّز همم أفراد الوحدة ويحيّي جهودهم المقدّرة من أجل القيام بمهّمتهم على الوجه الأفضل إسهاما في تعزيز إشعاع تونس على الصعيد الدولي وأن يؤكّد لهم في الآن نفسه أنّ المؤسّسة العسكرية ساعية دوما إلى الإحاطة بأبنائها ورعاية شؤونهم مهما كان موقعهم، خاصّة لمّا يتعلّق الأمر بواجب إنساني وأخلاقي تؤدّيه بلادهم نحو «بلد إفريقي صديق يعيش تحدّيات على أكثر من صعيد، باعتبار الخبرة التي اكتسبتها قواتنا المسلحة خلال المشاركات الأممية السابقة».
كما حرص السيد عبد الكريم الزبيدي على أن يرافقه في الزيارة رئيس لجنة الدفاع والأمن السيد عبد اللطيف المكّي ورئيسة لجنة تنظيم الإدارة وشؤون القوات الحاملة للسلاح بمجلس نوّاب الشعب السيدة أسماء أبو الهناء تأكيدا لأهميّة التعاون بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية في مزيد النهوض بالمؤسسة العسكرية ورفع قدراتها العملياتية قصد تمكينها من مواصلة
عملها في مكافحة الإرهاب وحماية الحدود والدفاع عن سلامة التراب الوطني ومعاضدة جهود التنمية وتوطيد أسس الاستقرار السياسي في البلاد، علما وأنّ المجلس النيابي كان قد صادق على مشاركة الجيش الوطني في البعثة الأممية في مالي.
وهي المرّة الأولى التي يتّخذ فيها هذا الإجراء التشريعي. وكان وزير الدفاع الوطني قد أكّد عند عرض أهداف انتشار وحدة عسكرية تونسية في مالي أنّ المشاركة في بعثة أمميّة متعدّدة الجنسيات لحفظ السلام التي تأتي بعد انقطاع دام قرابة 9 سنوات من شأنها أن تثري تجربة الجيش الوطني من خلال التعاون والتنسيق مع وحدات عسكرية لدول أخرى وأن تطوّر قدراته العملياتية في مقاومة الإرهاب لا سيّما على ميدان بلد يجابه تحديات أمنية شبيهة لتلك التي تعمل قواتنا المسلّحة على درء أخطارها.
وبالإضافة إلى رئيس أركان جيش الطيران أمير اللواء محمّد الحجّام وعدد من سامي الضباط اصطحب الوزير وفدا إعلاميا وُفَّرت له كلّ الإمكانيات لنقل صورة حيّة عن ظروف عمل الوحدة العسكرية التونسية في مالي وعن الدور الذي تضطلع به ضمن البعثة الأممية لتحقيق الاستقرار في هذا البلد.
حرفية وانضباط وجاهزية
«لئن كنتم خارج حدود الوطن، إلّا أنّنا نتابع يوميّا ظروف إقامتكم وسلامتكم وأمنكم وصحّتكم كما نتابع عن كثب أعمالكم وأنشطتكم ونتفاعل مع مشاغلكم وحاجياتكم ونعمل على تذليل كلّ الصعوبات ذات العلاقة بظروف العيش والعمل والجاهزيّة». بهذه الكلمات توجّه وزير الدفاع الوطني إلى أفراد الوحدة العسكرية التونسية خلال الموكب الذي انتظم بمقرّ الوحدة في القاعدة الجويّة المالية بباماكو والذي حضره سفير تونس السيد خميّس المستيري. وثمّن مجهود الجيوش الثلاثة والمصالح المشتركة في المساهمة في بعث هذه الوحدة من حيث دعمها بالعنصر البشري والمعدّات والتجهيزات للقيام بمهامها على الوجه الأفضل، معربا عن ارتياحه لأداء الوحدة المشرّف وجاهزيتها أفرادا وعتادا تحت شعار «حرفية وانضباط» ولوعيهم العميق بمهامّهم على الرغم من خصوصيّة الوضع الأمني والمناخي الصعب. وحفاظا على أمنهم وسلامتهم جدّد لهم الدعوة إلى ضرورة التقيّد بالتعليمات العسكرية في المجال والعمل في كنف التعاون والانسجام مع نظرائهم من الدول الأخرى لإبراز صورة العسكريّ التونسيّ في أحسن مظاهرها.
كما حثّهم السيد عبد الكريم الزبيدي على أن يكونوا دوما مثالا في الانضباط والالتزام بالمبادئ العسكرية والإنسانية والقيام بالواجب وفق ما يقتضيه القانون الدولي الإنساني، علاوة على توخّي الجدية في عملهم وتحمّل المسؤولية بكلّ أمانة لتحقيق الإضافة المطلوبة ولمزيد دعم قدرات البعثة الأممية داخل مالي وخارجها وإعطاء صورة صادقة ومشرّفة عمّا وصلت إليه المؤسّسة العسكرية التونسية من تطوّر في قدراتها.
ودعاهم كذلك إلى أن يكونوا خير سفراء لتونس بفضل جاهزيتهم التي اكتسبوها من خلال التدريبات والتكوين المستمر ومساهمتهم في عديد المهام التي اضطلعوا بها لحماية الحدود والإحاطة باللاجئين سنة 2011 والمساهمة في تأمين عوامل الانتقال الديمقراطي والسير العادي للحياة بمختلف مظاهرها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية، فضلا عن المشاركة في حفظ النظام العام ومكافحة الإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة والتصدّي للهجرة غير الشرعية.
لا يسع الزائر وهو يطوف في أرجاء مقرّ الوحدة التونسية إِلَّا أن يقف مبهورا أمام المجهود الاستثنائي الذي بذله العسكريون من مختلف الاختصاصات في وقت قياسي لرفع أركانه وتجهيزه بمختلف المرافق الضرورية قصد توفير أسباب العمل والإقامة المريحة لمختلف الأفراد من مكاتب وغرف نوم ومطبخ وقاعة أكل وقاعة فحص طبّي ومستوصف وصيدلية، كلّها مكيّفة، ودوريات مياه وفضاء مخصّص لممارسة التمارين الرياضية وحاويات مؤمّنة تحتوي على الأسلحة والذخيرة، فضلا عن جودة الإعاشة.
ويقول أمير اللواء محمّد الحجّام إنّ الوحدة التونسية استلمت أرضا بيضاء غطّتها الأعشاب الطفيلية في القاعدة الجوية المالية وفي ظرف شهرين فقط استطاع عسكريونا بوسائلهم الخاصّة أن يقيموا صرح المقرّ، في حين يشير الرائد طبيب طه عرفة المسؤول عن الرعاية الصحية بنبرة يغلب عليها الشعور بالاعتزاز إلى أنّ ظروف عمل وإقامة العسكريين في مالي جدّ ممتازة، مقارنة حتّى بتلك المتوفّرة في مقرّات وحدات عسكرية تابعة لدول متقدّمة، مؤكّدا أنّ أفراد الوحدة هم الذين يتولون بأنفسهم تنظيف فضاءات المقرّ وصيانتها دون مساعدة أحد.
اليقظة.. اليقظة .. اليقظة
لم تفت وزير الدفاع الوطني أيّ جزئية وهو يستفسر أفراد الوحدة عن ظروف عملهم وإقامتهم. سأل عن جودة الأكل ووسائل الرعاية الصحية وكذلك عن مدى توفّر أنواع من الأدوية وكمياتها في الصيدلية، داعيا الإطار الطبي إلى تقديم العون إلى أفراد بعثات عسكرية لبلدان شقيقة وصديقة كلما طلبوا ذلك، بتمكينهم من أجراء فحوص طبية مجانا على أن يتولوا اقتناء الأدوية عن طريق بعثاتهم حفاظا على رصيد الصيدلية.
وخلال تناوله الغداء مع أفراد الوحدة، حثّهم مجدّدا على الحرص على سلامتهم بملازمة اليقظة التامّة والتحلّي بالأخلاق العالية واحترام التقاليد المحليّة، والعمل في كنف الانسجام مع الوحدات العسكرية للدول الأخرى، ملاحظا أنّه لم يصدر أيّ تجاوز أخلاقي في تاريخ المشاركات التونسية في بعثات أمميّة لحفظ السلام في العالم. كما دعاهم إلى تنمية تجربتهم من خلال التدريب المستمرّ في مجال مكافحة الإرهاب وإلى العمل على أن يكونوا في مستوى ثقة القيادة العسكرية فيهم وثقة الشعب في جيشه الوطني.
أداء مشرّف وتطلّع إلى مشاركات تونسية أخرى
خلال جلسة العمل التي جمعته بعدد من كبار المسؤولين في بعثة الأمم المتحدة المتعدّدة الأبعاد المتكاملة لتحقيق الاستقرار
في مالي والتي حضرها سفير تونس بباماكو والوفد البرلماني والعسكري المرافق له، حرص وزير الدفاع الوطني على استجلاء انطباعات هؤلاء المسؤولين عن أداء الوحدة العسكرية التونسية وملاحظاتهم بشأنها.
لم تخـف مبارنغــا غاســــرابــوي Mbaranga Gasarabwe مساعدة ممثّل مبعوث الأمم المتحدة في مالي سعادتها باستقبال الوزير الذي سبق أن التقته خلال مأدبة عشاء أقامها السفير التونسي بمقرّ إقامته، مشيدة بتجربته الشخصية، ومعربة عن بالغ الرضا عن أداء الوحدة التونسية بفضل ما يتميّز به أفرادها من حرفية وانضباط وجاهزية عملياتية. وأكّدت أهمية تبادل المعلومات والتقييمات بشأن الأوضاع في مالي، فضلا عن الاستفادة من التجربة التونسية في مجالات تتعدى إطار الأمن والدفاع كالفلاحة والتنمية الاقتصادية والبشريّة خاصّة وأنّ مهامّ البعثة الأممية لتحقيق الأمن في مالي تكتسي أبعادا متعدّدة، وذلك لمساعدة مالي على تجاوز الأزمة الدقيقة التي يعيشها من خلال دعم المسار الإنمائي لهذا البلد الغني بالثروات الطبيعية (أوّل مصدّر للذهب وللثروة الحيوانية في أفريقيا والذي حققّ نسبة نموّ تقدّر بـ 5 بالمائة) وإصلاح قطاعات الأمن والعدل فيه في نطاق التعاون جنوب-جنوب.
وأكّدت أنّها تتطلّع إلى مشاركات تونسية أخرى في بعثات أمميّة لحفظ السلام، مفيدة أنّها ستبلغ هذه الرغبة للأمانة العامة لمنظّمة الأمم المتحدة بنيويورك.
أمّا ممثّل قائد البعثة الأممية، فقد أشاد بالحركية العملياتية للوحدة العسكرية التونسية ممّا مكّن من إسناد العديد من المهمّات من خلال النقل الجوّي لاجتناب تنقّل الأفراد وعتادهم عبر طرق غير آمنة وكذلك بما تتميّز به الوحدة مـن دقّة في إنجـاز المهمّات ومرونة في استخـدام الأفراد وحرص على الحصـــول على المزيد منها.
وأعرب ممثّل جهاز الشرطة التابع للبعثة الأممية عن تقديره لدور أفراد الشرطة والحرس الوطني التونسييْن لا سيّما في مجال الاستعلامات بفضل حذقهم للغة العربية، ممّا مكّن من استباق عمليـــات إرهابية.
وقدّم وزير الدفاع الوطني بسطة عن تحسّن القدرة العملياتية للجيش الوطني بفضل ما تلقته عناصره من تدريب وما توفّرت له من تجهيزات ومعدّات جدّ متطوّرة في إطار التعاون مع بلدان شقيقة وصديقة كالجزائر (في مجال الاستخبارات بالخصوص) والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، ممّا أهّله لتحقيق نجاحات في الحرب على الإرهاب.
ولاحــظ أنّ مشاركة تونس ضمن البعثة الأممية في مالي يعزّز تجربتها في مكافحة هذه الآفة التي أضحت ظاهرة عالمية وذلك في إطار قيادة موحّدة وبالتنسيق مع جيوش أخرى، معربا عن استعداد تونس للمشاركة في بعثات أمميّة قادمة.
وأفاد السيد عبد الكريم الزبيدي أنّه ينتظر أن يتمّ خلال السّداسي الثاني من سنة 2019 إرسال فيلق تدخل سريع وسرية شرطة عسكرية في إطار حفظ السلام وذلك عند إشعار السلطات التونسيّة من طرف الجانب الأممي بالآجال المحدّدة والبلد الذي سيقع فيه الانتشار.
لم تفــــاجــئنا في حقيقــة الأمـــر الوحــدة العسكرية التونسية بحسن أدائها الذي أشاد به مسؤولو البعثة الأممية في مالي وقيادة قوّتها ولا بحرفيتها وانضباطها وجاهزيتها العملياتية وتفانيها في إعلاء راية الوطن قاريّا ودوليّا. فالمؤسّسة العسكرية بما بلغته من تطوّر في السنوات الأخيرة وبما يتحلّى به أفرادها من إيمان عميق بالقيم الجمهورية هي بحقّ مفخرة التونسيين جميعا ومحلّ ثقتهم إذ هي حامية حمى الوطن والضامن للانتقال الديمقراطي في البلاد.
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق