عبد العزيز الجلاصي: يحلمون في زمن الاستبداد
في أثناء قراءتي كتاب "إعلاميون في زمن الاستبداد" لعامر بوعزّة، رافقتني صورة من كتاب قرأته قديما لـ(ماركيز)؛ يدخل فيه أحد المعارضين للنظام إلى القصرِ الرئاسيَّ متنكّرا في زيّ سائح أجنبيّ، ويصوّر شريطا طويلا، سيظلّ الدكتاتور يجرّه خلفه كأنّه ذيل في مؤخّرته، وستصاب أجهزة أمنه بخيبةٍ مخزية، كضباع عادت جائعة من مأدبة باذخة لدم شعبٍ مسفوك.
لماذا ضغطت عليّ هذه الصورة؟ لماذا ألحّت على الظهور رغم السياقات المختلفة؟ لماذا كنت أرى شريطا طويلا من الحلم معلّقا في ظهر نظام مزهوّ باستبداده كلّما سافرت مع الكاتب في ذكريات تسعينات القرن الماضي؟
من غباء أجهزة أمن الاستبداد أنّها لا تفتّش في الأحلام بإخلاص، ولا تدرك- بحكم غبائها المستحكم- أنّ مَنْ يتقاسمون "قمرا" مع المستمعين في "الليالي"، أو يحاورون شاعرا منشقّا، ومفكّرا رصينا، وملحّنا حالما، ومغنّية أصيلة، وأديبا شابّا... إنّما هم يتسلّلون، في غفلة منهم، إلى وعي النّاس القصيّ؛ يهذّبون أذواقهم، ويعلّمونهم- بإتقان- كيف يحلمون بيوم له لون آخر، يكون "القمر" فيه لكلّ الليالي، وكيف يرفضون حياة تنغّصها الرداءة؛ بدءا بإطلالة السيدة الأولى تترأس اجتماعا وتتهجّى الكلمات، إلى وصايا الدكتاتور عن حقوق الإنسان وحرّيّة الإعلام والإعلاميين في حفل تدشين سجن جديد ينضاف إلى "إنجازات"ـه الكثيرة.
كتاب "إعلاميون في زمن الاستبداد" هو، في قراءتي، شهادة من داخل الحلم؛ حلمٌ كيّف حياة صاحبه، وسطّر له في السرّ قدرًا غير الذي رسمه لنفسه، فاستبدل بأصبع الطبشور مصدحا، وبالحقيبة مسجّلا، وبالتلاميذ جمهورا...لكنّ الأحلام يجب أن تظلّ أحلاما حتى تستمرّ في المراودة، فقد رأيتُ في الكتاب كاتبًا يستدعي حلمَه بإعلام "طفيليّ" ينمو على هوامش جهاز الدعاية وينغّص عليه سطوته، ويزعجه على موجاته القصيرة والمتوسّطة.
عندما نقرأ كتابا استثنائيّا، كثيرا ما نستحضر صورا وتجارب مرّت في حياتنا تتقاطع مع تجربة الكاتب، أو تشترك معها في مشهد مّا أو موقف معيّن، ولعلّ ذلك ما يتسامى بالقراءة والكتابة معًا، من حدود التجربة الشخصيّة الضيّقة، إلى رحاب واسعة تشمل الناس في أماكن وأزمنة مختلفة. لذلك فقد تقاطعت تجربة عواطف حميدة- صادق بوعبان- عامر بوعزّة، مع قصّة شريط سينمائي فرنسيّ قديم يحمل عنوان "ثلاث رجال وسلّة" (trois homes et un couffin)؛ حيث ينهض ثلاثة شبّان في الصباح، فيجدون أمام باب بيتهم سلّة بها رضيع لا يعرفون شيئا عن كيفية العناية به. سيربكهم هذا المخلوق الصغير، وسيغيّر حياتهم عندما قرّروا الاحتفاظ به، وخوض التجربة حتّى نهايتها. هنا أيضا، نحن أمام "ثلاثة إعلاميين ومصدح"؛ جاءوا إلى الإعلام من أبواب أخرى، ووُضِع مصدح بينهم، فأقدموا على ترويضه، وأسّسوا له في الهامش، وبعيدا عن عين المركز الساهرة على الدعاية، قدرا جديدا سيُلهم إعلاميين آخرين في هوامش أخرى، وسيمتدّ حتّى يطال المركز ذاته... على هذا النحو سيتعلّم ثلاثتهم الإعلامَ بصيغة جديدة، وبلغة مرنة، وطازجة، وخطاب خير مخبوز في مطابخ السلطة. سيتعلّمون ذلك من أمام المصدح ومعه، يتحايلون على الرقابة ويوقعونها في حبائلهم، يعملون تحت الاستبداد وفي هوامشه، يستثمرون رصيدهم الجامعي، ويغتذون من تجارب الجيل المؤسّس، يراكمون الإخفاقات والنجاحات؛ ليصنعوا لهم تحت الشمس مشهدا بديلا، سيستمرّ في التشكّل حتّى إذلال الاستبداد، وإرغامه على الاعتراف بلغتهم الجديدة؛ فللغة في الإعلام سلطان السحر، منها وبواسطتها، يتسلّل الإعلاميّ إلى وعي الناس وضمائرهم، ويصنع معهم جبهة رفض للغة جهاز الدعاية الفجّة. حينها، سيُضطرّ الاستبداد إلى تغيير خطابه، وسيشرع في التخلّي عن أعوانه القدامى، طمعا في تجديد سلطانه، وبسط نفوذه على الجمهور. سيحاول الاستبداد أيضا، تدجين هذا الجيل الجديد من الإعلاميين بشتى الوسائل، فلا يجب أن يخرج عن السيطرة من ناحية، ولا يجب أن "ينام على خطّ السلطة" من ناحية أخرى؛ جيل من الإعلاميين يكون معنا من دون أن يظهر للناس أنّه في صفّنا، وستتواصل هذا اللعبة إلى حدّ الإنهاك من دون أن تأتي أكلها لأحدهما؛ سينوّع الاستبداد من ألاعيبه، وسيماطل الإعلاميّ ويراوغ الاستبداد حتّى موجته الأخيرة. لقد اهترأت لغة إعلام السلطة، ولم تعد تقنع أحدا، ولا بدّ من لغة جديدة تظهر سلطة الاستبداد وِجْهَةً ديمقراطيةً جديرةً بالاحترام، وسيُراكم جيلٌ من الإعلاميين تجربته من داخل الاستبداد، ويطوّرها حذِرًا وخائفا ومتردّدا؛ يضع الاستبدادَ أمام قدَرِه الرديء الذي فاحت رائحته في الداخل والخارج، فيما هو يراقص لغتَه الجديدةَ، وخطابَه القريبَ من القلوب في لعبة إغواء أو لعبة وجودٍ. هنا سيصبح الأمر في غاية الدقّة، وستُلقي صراعاتُ أجنحة القصر بكوابيسها على المشهد الإعلامي، وستصبح غاية النصر في "تدبّر خروج آمن من شارع الحرّيّة".
وحده الشاعر حينما يكتب تفيض لغته على الأجناس، فتصبغها بلونها. وحده الشاعر، أيضا، بمقدوره أن يستدعي التاريخ والذكريات والوقائع والأحداث اليومية... على هيأة قصائد، وإن تخلّت عن أشكالها، وأوهمت أنها ليست من الشعر. فبلغة آسرة، تهيم حبّا بالأمكنة التي تُنسج فيها الأحلام؛ كالمقاهي والمطاعم وبيوت الأصدقاء، استعاد عامر بوعزّة حقبة من حياته الشخصيّة طالبا فمدرّسا فإعلاميّا لفت الأنظار إليه من الوهلة الأولى؛ تلك الأنظار التي ستقوده إلى إدارة أخطر الملفات الإعلاميّة؛ وهو الملفّ السياسي. وسيخرج منه آمنا، ولا أحد يطلب مزيدا في ذلك التاريخ الحرج؛ تاريخ المؤامرات والدسائس تحاك بالليل في بؤرة الأضواء الكاشفة فلا تخفى على أحد. بتلك اللغة تقرأ تاريخا، وتقرأ سيرة ذاتية وشهادة في لحظة صفاء مع النفس. إنّها كتابة لا تشبه سوى نفسها؛ إنّها حفلة سرد بوجوه مكشوفة، وبأسماء معروفة في عالم السياسة والإعلام، تلامس التاريخ وترتدّ عنه، تقف على تخوم الرواية وتعدل عنها، تقترب من حدود السيرة الذاتية لكنّها تعدّل البوصلة، يأخذها الحنين إلى الأصدقاء والأمكنة فتهيم بلغة الشعر وسرعان ما تستفيق منه... يوهمك العنوان وصورة الغلاف أنك إزاء تحقيق صحفيّ لمرحلة دقيقة من تاريخ الإعلام تحت وطأة الاستبداد في تونس، فتجد قناديل تنوس ضياءً في ذاكرة مشتركة ذات عشرية سوداء من تاريخ تونس المعاصر.
عبد العزيز الجلاصي
- اكتب تعليق
- تعليق