الإســلام »المــبــكّـر« الاستشــراق الأنجلوسكسونيّ الجديد باتريسيا كرون ومايكل كوك أنموذجا
ذلك هو عنوان كتاب صدر عن « منشورات الجمل» للباحثة والأستاذة الجامعية الحاصلة على شهادة الدكتورا آمنة الجبلاوي. وكان التساؤل الأوّل الذي قادها إلى اختيار هذا الموضوع هو كيف لنا أن نثري معرفتنا بتاريخ القرن الأوّل للهجرة؟ وكيف لنا أن نستفيد من قراءة مختلفة للتاريخ الإسلامي «المبكر»؟
ولمّا كان مايكل كوك وباتريسيا كرون يقدّمان قراءة تعتمد على مصادر غير إسلاميّة تساءلت آمنة الجبلاوي إن كانت هذه المقاربة تتمتّع بطرح علمي متماسك من شأنه أن يعدّل تصوّراتنا حول نشأة التاريخ الإسلاميّ؟
وقد اخترنا من مقدّمة الكتاب هذه المقتطفات:
...لاحظنا عندما شرعنا في تفحّص أعمال الباحثين اللَّذَيْن اخترناهما أنموذجا لفهم المقاربة الأنجلوسكسونيّة للإسلام، أنّ خطابهما وإن كان علميا فهو خاضع لقوانين الخطاب. وربّما وجدنا في تقديم تزيفيتان تودوروف( ) Todorov، كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد أفضل تعبير عن خصائص هذا الخطاب.
يقول تودوروف: «إنّ الخطاب يحدّد وجهته من خلال موضوعه. والخطاب مجموعة من المواقف والأفكار الّتي تشترك فيها مجموعة ما في فترة معيّنة من تاريخها. ومجموعة المواقف والأفكار المشتركة هـــي ما نسمّيها إيديولوجيا. ودراسة إنتاج الخطاب عبر الآليات الإيديولوجيّة تسمح لنا بأن نربط بين نصوص مختلفة في الظاهر وبذلك نجد نفس الإيديولوجيا حاضرة في كتابات أدبية ودراسات علمية، وخطب سياسيّة.»
وحديث تودوروف هنا عن الدراسات العلميّة يهمّنا بالدرجة الأولى إذا ما اعتبرنا أنّ الخطاب العلمي حول الإسلام يحمل مواقف وأفكارا قد تتخطّى حدود السؤال المعرفي العفوي في بعض الأحيان، إلى الإيديولوجيا الكامنة أو اللاّواعية. والمعرفة في رأي تودوروف «تمكّن الّذي يمتلكها من توجيه الآخر والتلاعب به كيفما شاء، إنّ سيد الخطاب هو السيد(2)».
وقد أحسسنا خلال بحثنا هذا بالحدّ الرّفيع الّذي يفصل بين الخطاب العلمي والخطاب الإيديولوجي عندما يتعلّق موضوع البحث بالتأريخ للمقدّس أو بالكتابة حول الأصول والبدايات. إنّ «المفهوم هو أوّل سلاح لإخضاع الآخر لأنّه يحوّله إلى موضوع»، ومفهوم الإسلام الأوّل أو الإسلام «المبكّر»، هو محاولة لتطويق معرفتنا بهذا الإسلام السابق. ولكنّه فعل يمارس في كثير من الأحيان عنفا على ثراء المعاني وتنوّع التفسيرات الممكنة.
وكنّا في كلّ لحظة من عملنا نشعر بوجاهة ملاحظات تودوروف، وإصابتها لصميم مشكلة الكتابة في التاريخ الإسلامي. ويذكّرنا تودوروف وهو محقّ في ذلك أنّه علينا أن نتحلّى بكثير من التواضع عندما نطرق مجال الدراسات الإسلامية. وما يجب ألاّ نغفل عنه هو أنّ العلماء ليسوا دائما فوق كلّ خيار إيديولوجي. ولذلك لابدّ لنا من الحذر من المزالق الإيديولوجية سواء كنّا داخل المجتمع الإسلامي أو خارجه. ولعلّ رهان معرفتنا النزيهة بتاريخ الإسلام يقوم على سلامة الأسئلة المطروحة لا على بداهة الأجوبة المقدّمة. إنّنــا نلمس لدى بعض الباحثين من خارج المجتمعات الإسلاميّة غيابا للشعور بالتعاطف مع الثّقافة الإسلامية. وهو أمر نشعر به عند اطّلاعنا على أعمال الباحثين اللّذين نتناولهما بالدّرس. و ينعت أركون بعض المستشرقين بالجهل لأنّهم يجترّون أخطاء المسلم البسيط بدعوى الموضوعية الّتي تنأى بنا عن طرح الأسئلة المناسبة( ). فالقول بأنّ الإسلام دين ودولة كما ردّد ذلك مارتين هيندس وباتريسيا كرون هو في رأي أركون عملية نسخيّة لصياغات الإسلاميات الكلاسيكية وهي فوق كلّ ذلك عملية توقّف ابستمولوجي( ).
كما يدعو في حواره، في مجلة الفكر العربيّ المعاصر( )، إلى الحذر عند التعامل مع التّراث الإسلامي، ومن الوقوع في الخلط التاريخي (anachronisme)، والإسقاط. كما يحذّر من الوقوع في إسقاط معاني زمن ما على نصّ ينتمي إلى زمن آخر، ويثمّن ضرورة التمسّك بالقراءة التزامنيّة للنصوص الإسلاميّة وذلك باعتماد المعاني السائدة لزمن النصّ. إنّ مقاربة كوك وكرون للتاريخ الإسلامي انطلاقا من التجربة التأسيسيّة للقرن الأوّل، تختلف تماما عن المقاربة «الفرنكوفونيّة» ففي كتاباتهما نجد طغيانا للبراهين والأجوبة والاستدلالات، بينما نجد في مقاربة أركون اهتماما بالإشكاليات وبتمشّي التحليل أكثر من الأجوبة بحيث تكون النتائج النهائية طرحا لإشكاليات جديدة. إنّ إصرار الباحثين على اعتبار التجربة الدينية الأولى للإسلام تجربة سياسية واقتصادية وعرقيّة قبل أن تكون تجربة روحية، يجعلنا نلمس تقاطعا والتقاء بينهما وبين الفكر الأصولي في مواقفه من إسلام القرن الأوّل، فكلاهما يكرّس مقاربات وتأويلات تستعمل نفس المعجم المفهومي وترى في الإسلام منظومة جامدة. إنّ القراءة الأصيلة في رأي أركون هي القراءة المستقلة الّتي تتعدّد فيها المناهج والمفاهيم لتجنّب ضيق الأفق وتجاوز النظرة الاختزاليّة( ). إنّ كوك وكرون تشبّثا بمنهج واحد في كلّ أعمالهما منهج مادّي أركيولوجي تفطّن إلى أشياء وغفل عن أخرى ويمكن أن نقسّم توجّهات الدراسات الإسلاميّة إلى ثلاث مدارس:
- المدرسة الألمانية اتّبعت خطّا فيلولوجيا تاريخانيا.
- المدرسة الفرنكوفونية اتّبعت خطّا تفكيكيا مع أركون.
- المدرسة الأنجلوسكسونيّة اتّبعت خطّا أركيولوجيا، ماديا.
لقد خضعت الكتابات الاستشراقية الأولى لاعتبارين انفصلا أحيانا وامتزجا أحيانا أخرى. وهما الضرورة السياسية «الاستعمارية» والضرورة المعرفية؛ رغم إيجابيّات هذه الكتابات الّتي علينا أن نقرّ بها، من حفظ للتراث وكشف عن مصادر ومخطوطات وقع التعريف بها بفضل عمليات الترجمة. وإن كانت الرهانات السياسية بارزة في بعض الأعمال الاستشراقية التي اقترنت بالحركات الاستعمارية وخاصّة في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد وأوائل القرن العشرين، فقد أصبحت كامنة في الكتابات اللاّحقة...ورغم اعتماد الباحثيْن أسلوبـــا تاريخيا لا يخلو من سعي إلى توخّي الموضوعية، فإنّهما يتوخّيان نهجا تجريبيا براغماتيا، يغيّب معطى نعتبره أساسيا في كلّ عمليّة «تأريخ» لديانة معيّنة، وهو المعطى القيمي - الأخلاقي والباحثان يغيّبان تماما المسألة القيميّة في حديثهما عن تاريخ القرن الأوّل للهجرة. لقد ساهم الاستشراق «الكلاسيكي» في رأي إدوارد سعيد في بناء هويّة غربية تمثّلت الشرق عبر صورة تكرّس رغبة في السيطرة عليه. فهل تواصلت هذه التمثّلات في الدراسات الإسلاميّة المعاصرة؟
إن تَمثُّل مرحلة حسّاسة مثل تلك الّتي تشكّل خلالها الإسلام دينا وثقافة، ليس بالأمر الهيّن. وعلينا أن نعترف بأنّه بقدر ما كانت للاستشراق الكلاسيكي تمثّلاته حول فترة النبوّة والخلافة الراشدة، كان لعلماء الإسلام تمثّلاتهم وخيالاتهم حول نفس الفترة. إنّ للقرن الأوّل للهجرة شحنة رمزية لا تزال مؤثّرة في الضمير الجماعي للمسلمين. وإن كنّا في عملنا هذا سنؤاخذ أحيانا كلاّ من مايكل كوك وباتريسيا كرون على انسياقهما وراء بعض المصادرات والتصوّرات الّتي من شأنها أن تضعف قيمة أعمالهما العلميّة، فإنّنا نؤكّد على أنّ هذه المؤاخذات ليست هدفنا في هذا العمل، بقدر ما هي محاولة متواضعة للفت الانتباه إلى تقصير المهتمّين بالدراسات الإسلاميّة والتاريخ الإسلامي من داخل المجتمعات الإسلاميّة في محاولة التعامل مع التاريخ المقدّس بشيء من الجرأة الموضوعية والتجرّد من تمثّلات المخيال الإسلامي «لفترة النشأة»... واشتغالنا في هذا البحث على المقاربة الأنجلوسكسونية، هو في الواقع اشتغال على نموذج شديد الخصوصية. فالباحثان يمثّلان تيّارا داخل المدرسة الأنجلوسكسونيّة. وهو التيّار الأشدّ »ضراوة« في نقد المصادر العربيّة الإسلاميّة. فما هي نتائج هذه العملية النّقديّة؟ وما هي مزاياها وحدودها؟
وهل تمثّل أعمال الباحثين طرحا جديدا له آفاق علمية واعدة، أم هي مجرّد اجترار رديء لاستشراق «كلاسيكي» ارتبط بمشروع إمبريالي فتعامل مع الثّقافة الإسلاميّة بنوع من الاعتداد المشين و«النّفوذ» والتّعميم البغيضين فهناك من ساهم وما زال يساهم في تعميق المصادرات حول الإسلام؟ والمفارقة الغريبة هي أنّ روّاد هذا «الاستشراق الجديد» ومصادراتهم «الاستشراقية الجديدة» تلتقي مع التيّارات السلفيّة في كثير من الأحكام المسبقة حول نشأة الإسلام. وأحد هذه الأحكام يكمن في اعتبار الإسلام جوهرا ثابتا لا يحتمل التنوّع ولا يخضع لصيرورة التبدّل. فهل يمكن أن نعدّ أعمال كوك وكرون نموذجا لخطاب استشراقي جديد، يزدهر في غياب حضور فكري وثقافي إسلامي فاعل وهامّ في البيئة الأكاديمية الأمريكية؟
أم أنّ هذه الأعمال هي نموذج للحياد العلمي المطلوب في الدراسات الإسلاميّة الحديثة؟...»
- اكتب تعليق
- تعليق