فيلم «عالسّكة» وثائقي عن قطارات تحتضر
اختارت المخرجة أريج السحيري في فيلمها الوثائقي الطويل »عالسّكة« أن تسلط الضوء على الإخلالات والنقائص المسجّلة داخل القطارات التونسية من خلال رصد الواقع اليومي لعمّال السكك الحديدية، وسبر أغوار مرفق عمومي على وشك الانهيار بعد أن كان أحد مفاخر التونسيين في مرحلة مهمة من تاريخ تونس الحديث.
يستهل الفيلم الوثائقي «عالسكة» زمنه بمشهد لقاطرة عملاقة وهي تتأرجح في الفراغ مُوثقة بسلاسل حديدية غليظة، يتحكّم بها ويوجّهها من على الأرض عمّال مستودع الشركة الوطنية لسكك الحديدية، في محاولة منهم لترويض هذا الهيكل الضخم على منصّة الصيانة. مشهد يضعنا في صلب الموضوع منذ البداية، ليكشف لنا عن الحالة الكارثية التي أصبحت عليها قطاراتنا ويرسم لنا صورة قاتمة عن واقع النقل الحديدي في تونس من خلال صور لعربات فقدت بريقها عبر الزمن بعدما أكلها الصّدأ وانتهى عمرها الافتراضي ولم تعد صالحة للاستعمال.
اختارت مخرجة العمل أن تترك القطارات تروي بنفسها ما تعانيه، وذلك عبر تصوير مسارات طويلة من الخط رقم 1 الرابط بين ولايتي بنزرت وجندوبة أو بما يعــرف بـ «السكة القياسيّة» (la voie normale) أحد أقدم خطوط الشبكة الحديدية التي صنعت وفقا للمعايير الدولية، وهي في الوقت نفسه الأقلّ صيانة في كامل الشبكة.
عدسة الكاميرا لم تكن ثابتة على الإطلاق ولم تفارق القطار الذي كان يتردّد على هذا الخطّ، لكنها كانت تطلّ بين الفينة والأخرى عبر نوافذ المقطورات وأبوابها إلى الخارج، لتلتقط صورا لمناظر طبيعية خلابة وإلى قرى مهجورة وأحيانا أخرى لتنقل ما يدور على المحطّات التي يتوقّف بها القطار. غير أنّ نفس الكاميرا كانت ترصد واقعا صادما لا يُطاق بعيدا عن الصورة النمطية المتداولة رسميا، بعد أن أصبح القطار اليوم مصدر خطر يهدّد حياة المسافرين وسلامتهم، ويثير استياءهم نتيجة تدنّي مستوى الخدمات وتردّي حالة الأسطول، كما أضحى مصدر تذمّر وتوتّر في أوساط عمال الشركة الوطنية للسكك الحديدية نتيجة حوادث العمل المتكررة والأمراض النفسية المهنية الناجمة عن ظروف العمل غير الآمنة.
«فيلم طريق» بخلفية إنسانية واجتماعية
لابّد من الإشارة إلى أنّ هذا الفيلم ينتمي إلى ما يسمّى بـ «سينما الطريق» أو «فيلم الطريق»(road movie)، يعني الأفلام التي تدور أحداثها الرئيسية في الطريق وفي فضاء مغلق (وسيلة نقل)، حيث يتّخذ مخرج العمل من الطريق محورا وفضاءا لبناء الأحداث السردية. في فيلم «عالسّكة» شكّل القطار مصدر تطوّر السرد الفيلمي، حيث منحت الرحلة الممتدّة على طول القضبان الحديدية للسكّة القياسية فرصة لاستكشاف طيف واسع من الأفكار والرؤى والمشاعر لبعض من عمال الشركة الوطنية لسكك الحديدية، حيث رافقت الكاميرا مسار أربع شخصيات غير تقليدية استطاعت أن تنقل لنا إحساسا عميقا باليأس والإحباط وفي نفس الوقت قدرة على الصمود والمواجهة والتعامل مع لحظات السعادة المسروقة من الروتين اليومي.
يتناول الفيلم عبر زمنه الطويل (72 دقيقة) قصّة أربعة عمّال في السّكة الحديدية تم تعيينهم بعد الثورة للعمل في «الشيمينو» وذلك عبر تصوير مسارات طويلة من رحلاتهم وتجاربهم على الخطّ رقم 1 أو بما يعرف بالسكّة القياسيّة. أحمد (34 سنة) أحد أبناء المتقاعدين من الشركة الوطنية للسكك الحديدية يعمل سائق قطار ويروي ظروف عمله الصعبة والخطرة، ومدى تأثير ذلك في نفسيته نتيجة عمليات الانتحار على سكك القطارات وغياب الإحاطة النفسية للسائقين المتأثرين بها، ورغم كل ذلك فقد كان يلجأ إلى العزف على القيثارة لضبط النفس وتجاوز شعوره بانعدام الأمان. أمّا عصام (38 سنة) فقد اختار طريق المواجهة المباشرة، حيث اتخذ من الكاميرا وسيلة لتوثيق كل الإخلالات التقنية للسكة الحديدية والتنديد بالحالة الكارثية للقطارات، الشيء الذي تسبّب في تجميده عن العمل خاصة بعد ظهوره في وسائل الإعلام ليتحدّث فيها عن الفساد والأخطاء، ويفضح أكاذيب بعض المسؤولين بالشركة.
بينما اختار عبد الرحيم (27 سنة)، مغنّي الراب المبتدئ، الاعتماد على عمله في الشركة لتمويل ألبومه الأول الذي تعكس كلمات أغانيه إحباطاً شديداً وتفصح عن رغبة دفينة في الهروب من الواقع المؤلم. من ناحية أخرى لم تتجاهل عدسة الكاميرا «عفاف»، سائقة القطار التي تمكّنت من أن تنتزع لنفسها مكانة في مجال يعتبر حكرا على الرجال، رغم اعترافها بأنّ هذه المهنة لا تخلو من السلبيات والنقائص العديدة.
وعبر وقفات كثيرة تحضرها الكاميرا وتثبّتها، نتلمّس حالة من الإحباط والخيبة التي تسيطر على جميع الشخصيات في الفيلم نتيجة ظروف عملهم المتدهورة التي أنهكت أجسادهم وأرهقت نفوسهم وبخّرت أحلامهم البسيطة بعد أن تحولت القاطرات التي يقودونها إلى وسيلة قهر ضدهم. فيلم «عالسّكة» يطلق صرخة استغاثة في وجه الواقع المرّ الذي تعيشه الشركة الوطنية لسكك الحديدية، وهو نتيجة لتفاقم الفساد وغياب إجراءات جديّة لإصلاح هذا المرفق العمومي، وفي نفس الوقت تلميح ذكي لراهن سياسي متأزّم وتشخيص لوضع اجتماعي واقتصادي متدهور ساهم في تخريب الجيّد وترسيخ نقيضه.فهل ستصحو الضمائر لوقف هذا النزيف وتجاوز هذه الوضعية الصعبة، حتى نتمكّن من وضع البلاد على «السّكة الصحيحة»؟
ناظم الوسلاتي
- اكتب تعليق
- تعليق