لوحــات من سحر إندونيسيا
أسبوع أو أسبوعان لا يكفيان لاستكشاف كلّ مميزات جمهورية إندونيسيا هذا الأرخبيل الممتدّ جنوب شرق آسيا ويضمّ أكثر من 17 ألف جزيرة 922 منها فقط مأهولة بالسكان الذين ينحدرون من إثنيات مختلفة (حوالي 300 إثنية و742 لغة ولهجة) ويدينون بمعتقدات كثيرة ومتنوعة. يزخر هذا البلد البالغ عدد سكانه زهاء 270 مليون نسمة، بثراء طبيعي وتنوّع في بيئته البرية والبحرية ممّا يجعله يحتلّ المرتبة الثانية عالميا في هذا المضمار، ويتميّز سكانه ببساطة وتلقائية في التعامل مع الآخروبروح طيبة كريمة تقاوم غضب الطبيعة التي كثيرا ما تثور براكينها وتضرب زلازلها.
زهراء الأسبوعين قضاها فريق تونسي يضمّ صحفيين ووكالات أسفار خلال النصف الثاني من شهر أفريل، في عدد من المقاطعات الاندونيسية، وجّهت له الدعوة من وزارة الخارجية الاندونيسية بهدف تعريف التونسيين بما يزخر به هذا البلد الآسيوي ذي الغالبية المسلمة من إمكانات ومخزون طبيعي وبيئي يستدعي الاستكشاف والزيارة.
بــالي...واجهـــة السياحة الإندونيسية
تعدّ جزيرة بالي الممتدّة على أكثر من 5 ألاف كلم مربع جنوب الأرخبيل الإندونيسي، ويقطنها أكثر من 5 ملايين نسمة، واجهة السياحة الإندونيسية بامتياز فهي تستقبل سنويا حوالي 8 ملايين زائر سواء من خارج البلاد أو داخلها.
هذه الجزيرة دمّرها زلزالان عنيفان سنتي 1963 و1964، كما تتعرّض بشكل مستمر لثورات البراكين إضافة إلى التفجير الإرهابي العنيف سنة 2002 الذي خلّف مئات القتلى والجرحى، إلا أنها تعود للحياة في كل مرّة مقدمة لزوّارها أجمل ما لديها من ثروات برية وبحرية، غابات استوائية غنيّة بالأحياء والشلالات والبحيرات حيث يمكن للزائر ممارسة التجديف في البحيرات أو زيارة حديقة القردة التي يقطنها الملايين، إلى جانب مناظر طبيعية خلابة تعكسها حقول الأرز التي تمتد في شكل أشكال هندسية يصعب على أي فنان تشكيلي إبداعها. في هذه المناظر البديعة يمكن للزائر أن يتذوق أجود أنواع القهوة وأغلاها ثمنا في العالم ويطّلع على طريقة صنعها التقليدية كما يتعرف على حيوان النمس (حيوان «لواك» بلغة أهل البلاد) الذي يعود له الفضل في جودة هذه القهوة وشهرتها.
بالي هي أيضا بلد المعابد أو القرابين إذ تقطنها غالبية هندوسية، وبها أشهر هذه المعابد معبد «بيساكي» الذي بني منذ أكثر من ألف عام على سفح أعلى قمة جبلية. كما يوجد بها أكثر من 200 ألف معبد، 10 آلاف منها عمومية يمكن لعامة الناس دخولها، أما البقية فهي مقسّمة بين معابد عائلية ومعابد مهنية (فلاحون، بحارة، تجارة، حدادة) وهناك أيضا معابد القرى، والبحيرات والبراكين.
يحرص سكان الجزيرة على تقديم القرابين للأسلاف والأجداد،هي قرابين بسيطة تكون في شكل أزهار وأبخرة توضع أمام مداخل البيوت أو المحلات التجارية والمباني أو أطعمة تحمل إلى المعابد لنيل البركة. كما تنتشر بكثافة وبمختلف مفترقات الطرق أو مداخل المباني التماثيل العملاقة التي تتّخذ رؤوسها أشكالا قبيحة ومخيفة، وعندما طرحنا السؤال على الدليلة التي كان ترافقنا أوضحت أنّ هذه التماثيل المخيفة هي لطرد الأرواح الشريرة. سكان القرى في بالي ينامون باكرا لأنّهم يعتقدون أنّ الليل هو للأرواح، أما قلب المدينة فيتحوّل إلى مهرجان من الموسيقى الصاخبة والمرح والألوان والأنوار حيث تفتح المطاعم والكازينوهات والملاهي أبوابها لزوارها.
لابوان باجو ... الانطلاق نحو متعة الاستكشاف
من مدينة لابوان باجو، في الطرف الغربي من إقليم نوسا تنقارا الشرقية في إندونيسيا، تنطلق الرحلات نحو الجزر والأماكن الأكثر سحرًا وجمالًا داخل إندونيسيا، فمن هذه المدينة التي يعيش سكانها من مداخيل الرحلات البحرية وصيد الأسماك تنطلق الرحلات إلى جزيرة كومودو الشهيرة نسبة إلى حيوان السحلية العملاقة أو التنين بحسب وصف سكان البلاد فالجزيرة تحتوي على حديثة الكومودو التي تضمّ المئات من هذا الحيوان الخطير والسامّ الذي قد يصل طوله إلى ثلاثة أمتار ويقبل الزوار على مشاهدته. وبالرغم من أنّ هذه الحديقة تعدّ إرثا عالميا محميّا من اليونسكو فإنّ ظاهرة سرقة التنانين الصغيرة في وقت مضى قد دفعت بالحكومة الاندونيسية إلى التفكير جديا في غلق هذه الحديقة أمام الزوار.
ويمنع القانون الإندونيسي الصارم منعا باتّا إخراج أي قطعة بحرية أو برية مهما كان صغر حجمها حتى وإن كانت قوقعة فارغة فالمطارات ومختلف المعابر الدولية مجهّزة بآلات كشف وعقوبة المخالفين هي السجن.
من مدينة لابوان باجو أيضا تنطلق الرحلات البحرية لاستكشاف أحد أجمل الشواطىء الوردية بفعل انعكاس أشعة الشمس على المرجان الذي يعد أحد أهمّ الثروات البحرية التي يحرص كل فرد في هذه المناطق على حمايتها، أو الصعود إلى قمة جزيرة «بادار» للاستمتاع بأجمل شروق شمس وكذلك ممارسة أنشطة الغوض والغطس في مياه المئات من الجزر المتناثرة والاستمتاع بمشاهدة أجمل الحيوانات والأحياء البحرية لعلّ أشهرها حمامة البحر العملاقة (منتا) والسلحفاة البحرية.
خلال الرحلات البحرية على متن مراكب وسفن متوسّطة الحجم يستمتع الزائر بتذوّق المطبخ المتميز لسكان مختلف هذه الجزر، مطبخ قوامه السمك ومنتوجات البحر وكذلك الخضر والغلال والفواكه المحلية. وفي هذه المناطق الكثيفة الأشجار تكون كميّة الأكسيجين كافية للجسم الذي لا يحتاج إلى أكثر من 4 ساعات نوم للشعور بالنشاط.
الفندق البيئي ..تجربة فريدة في جزيرة بيليتونغ
تقع جزيرة بيليتونغ قبالة الساحل الشرقي لجزيرة سومطرة، وتطلّ الجزيرة الساحرة على الشواطئ الجميلة والمنـــاظر الرائعة، أبرز ما يميزها نقاء المياه البحرية والتشكيلات الرائعة لحجر الغرانيت على شواطئها، فيقبل عليها الفنانون والمتزوجون حديثا لالتقاط الصور التذكارية. في هذه الجزيرة التي انطلقت فيها السياحة رسميا سنة 2008 وتضم حاليا زهاء 80 وحدة فندقية، انطلقت منذ ستّة أشهر تجربة فندق بيئي فريدة من نوعها، فقبالة إحدى شواطئها وفي قلب غابة كثيفة الأشجار تنتصب مجموعة من الخيام المصنوعة من الخشب والقصب وكل ما يحتويه هذا الفندق من أبواب أو لوحات وقطع نادرة أحيانا تمّ تجميعه بعد أن تخلّى عنه السكان. في هذا المكان الذي تنتشر فيه أنواع من البعوض والحشرات الأخرى يمنع منعا باتا استعمال المبيدات ولسعات البعوض تقاوم بزيت الزيتون.
ورغم انتشار بعض الفنادق ذات الطوابق فإنّ سكّان الجزيرة ما زالوا يحافظون على الطابع التقليدي في بناء المساكن البسيطة ولعلّ أهمّ ما يلفت نظر الزائر الغريب عدم وجود أسوار تفصل بين المساكن التي تترك أبوابها مفتوحة. ولمّا طرح السؤال على الدليل السياحي لماذا لا توجد أسوار، أو لا يخشى السرقة؟، كانت الإجابة أنّ السكان عبارة عن عائلة واحدة والجار لا يخشى جاره.
جاكرتا ...المدينة التي لا تنام
يتغير النسق كليًّا عند التحوّل إلى العاصمة جاكرتا، فمقابل البيوت والمباني البسيطة في باقي الجزر، ترتفع بالعاصمة المباني والأبراج الشاهقة والجسور، وبدل الطرقات الضيقة تمتدّ الطرقات الواسعة والسيارات والدراجات النارية . ويبلغ عدد هذه الدرّجات بالعاصمة جاكرتا حوالي 3 ملايين دراجة نارية. وبالرغم من جهود الحكومة لحلّ مشكلة الزحام من خلال مدّ مترو الأنفاق وحافلات النقل العمومي فإنّ أكثر من ثلثي سكان العاصمة البالغ عددهم أكثر من 11 مليون نسمة متمسّكون باستعمال الدراجات النارية في تنقلاتهم ، فهي تساعد على تلافي الزحام كما أنّها تعدّ أقلّ كلفة من السيارة فيما يتعلق باستعمال البنزين. تقدّم العاصمة جاكرتا باعتبارها أحد أهم المراكز الإدارية والاقتصادية والمالية في المنطقة، للزائر أنواعا مختلفة من الترفيه والاكتشاف تتوزّع بين التسوّق في أرقى وأفخم المراكز التجارية (المولات) وحضور الحفلات الفنية والموسيقية التي يقدمها أشهر الفنانين العالميين فضلا عن زيارة المتاحف والمدن الترفيهية. جاكرتا مدينة لا تنام ولا تتوقّف فيها الحركة، تبقى محلاتها ومطاعمها مفتوحة على مدار الأربع وعشرين ساعة.
ويعدّ النصب التذكاري «موناس» أحد أهمّ أشهر المعالم التي يمكن زيارتها نظرا لرمزيته التاريخية فقد تمّ بناؤه خلال حكم الرئيس أحمد سوكارنو في ساحة الاستقلال تأكيدا على تمسّك الشعب الإندونيسي بإتمام استقلاله في أوت 1945، عندما حاول الهولنديون العودة مجددا لاستعمار البلاد وقد كانوا استعمروا إندونيسا لمدة ثلاثة قرون و30 سنة. ينتصب «الموناس» كما يلفظه الإندونيسيون في شكل مسلّة من الرخام على ارتفاع 137 مترا، وهو مكسوّ في جزئه الأعلى الذي يتّخذ شكل شعلة بـ 35 كلغ من الذهب الخالص. مسجد الاستقلال هو أيضا أحد الرموز التي تدلّ على إسلامية إندونيسيا إذ يشكل المسلمون أكثر من 80 بالمائة من السكان ، كما يعدّ أكبر مسجد جامع من حيث طاقة الاستيعاب التي قد تصل إلى 110 ألاف مصل. انطلق تشييد المسجد الذي يقع في ساحة مارديكا قبالة كاتدرائية «سانتاماريا» بجاكرتا سنة 1964 في عهد الرئيس سوكارنو وفتح أبوابه أمام المصلين لأوّل مرةّ في 22 فيفري 1978، ويتميّز بعادة فريدة مستوحاة من الموروث القديم للشعوب الآسيوية وهي قرع الطبل قبل آذان الصلاة، خاصة صلوات الظهر والعصر والمغرب. وتقدّم جاكرتا لزوارها خاصّة المصاحبين للأطفال مجالات ترفيهية أخرى متنوعة على غرار المدينة الترفيهية «دريم لاند» بـ«انتشول» وكذلك معرض «سي وورلد» للأحياء البحرية الذي يضم 5 آلاف نوع من الكائنات البحرية. يتميّز الشعب الإدونيسي بشكل عام بهدوء الطباع وقبول الآخر وخاصة حبّ العمل كما يفضّل الحياة البسيطة خاصّة في الجزر والمدن الصغيرة. لاحظنا أيضا مظاهر الانضباط والنظافة في الشوارع والأماكن العامة كمحطات الحافلات والمترو، ورغم شدّة الزحام هناك تسامح كبير بين مستعملي الطريق فمن النادر أن نستمع إلى منبّه السيارات.
تونس – إندونيسيا: مجالات تعاون كبيرة لا بدّ من استثمارها
يعدّ الاقتصاد الإندونيسي الذي يشكّل قطاع الخدمات ثاني موارده بنسبة تفوق 37 بالمائة بعد الصناعة، أكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا. وتشير التوقعات إلى تحقيق نسبة نمو اقتصادي بـ 5,3 بالمائة خلال الثلاثي الأوّل من 2019. وتفتح العلاقات المتجذرة بين تونس وإندونيسيا والتي تعود إلى أواسط القرن الماضي وكذلك الاقتصاد الإندونيسي المتنوع والمنفتح على العالم مجالات عديدة ومتنوعة للتعاون إلا أنّ واقعها يبقى دون المأمول. فالميزان التجاري التونسي مع هذا البلد يبقى سلبيا، حيث تشير بيانات 2018، إلى أن العجز يقدر بما قيمته 117 مليون دينار.
وتوجد شركة إندونيسية كبيرة تستثمر في تونس برأس مال يتجاوز 100 مليون دولار في مجال الأنشطة البترولية منتصبة بالجنوب. وكان الطرف الإندونيسي قدّم خلال اجتماع اللجنة المشتركة التي انعقدت في بداية أكتوبر 2017 مشروع اتفاقية للتبادل الحر بين البلدين هي الآن بصدد الدراسة ومن المزمع توقيعها خلال الدورة القادة للجنة المشتركة بجاكرتا.
ضحى طليق
- اكتب تعليق
- تعليق
عيد سعيد وشكر ا جزيلا على هذه الروائع التي قدمتها لنا ليدارز بالحرف والصورة.