الصحبي الوهايبي: المــفـتاح

 الصحبي الوهايبي: المــفـتاح

في أوائل السّبعينات من القرن الماضي، كنت، وأنا طالب، أمرّ في غدوّي ورواحي، بين مدرسة الفنون الجميلة والهندسة المعماريّة وقلب العاصمة بسوق سيدي عبد السّلام؛ وهي سوق عجيبة، يعرض فيها الباعة بضاعة عجيبة، بدءا بفوانيس تالفة «محروقة» أو فردة حذاء شمال دون يمين، أو يمين دون شمال، أو أقفال دون مفاتيح، أو مفاتيح دون أقفال؛ فإذا عنّ لك أن تسأل عن الحكمة أو الفائدة من تلك البضاعة، أجابك البائع بلهجة الواثق: «لا شيء يضيع، كلّ شيء يصلح لزمان ما، أو مكان ما... خاطرتُ مرّة، فاشتريتُ، بعد طول تردّد، مفتاحا بثمن بخس، وقال لي البائع، وقد قبض الثّمن وخشي أن أتراجع: «لن تندم؛ هذه صفقة رابحة!»، ثمّ انحنى يهمس في أذني: «بيني وبينك، هذا مفتاح مدينة القيروان... ويبدو أنّي بلعت الطّعم، ولم أتفطّن إلاّ بعد فوات أوان، فقلت له:»وماذا أنا فاعل بمفتاح دون قفل؟»؛ فابتسم البائع:»لا تيأس! ستجد القفل المناسب حتما»؛ وحملت ذلك المفتاح أربعين سنة أو أكثر قليلا؛ وحتّى يومنا هذا، مازلت لا أدري أيّ الأبواب يَفتح، باب القبليّة، أم الجبليّة، أم باب الجلاّدين، أم باب تونس؟... بعضهم يحوز القفل، ولا يجد له مفتاحا؛ والبعض يحوز المفتاح، ولا يجد له قفلا؛ تماما كما نرى على أيّامنا هذه في ميادين السّاسة والسّياسة... بعضهم يبرع في صناعة الأغلاق، ويغفل عن المفتاح، ثمّ يصفق الباب وراءه، فإذا هو حبيس أقفاله؛ وبعضهم يصنع المفاتيح لأقفال يتوهّمها... وصناعة الأقفال مكروهة شرعا، ذلك أنّ الحرّيّة هي الأصل في الأشياء؛ ويقال إنّ الجنّة لا أبواب لها ولا أقفال؛ بئس الجنّة التي توصد أبوابها على ساكنيها... وقد ظهرت على أيّامنا هذه مفاتيح تفتح كلّ الأغلاق، مهما اختلفت وتنوّعت، أيْ، مفتاحٌ واحد يعالج كلّ الأقفال... تقول الرّواية إنّ الفرنجة لمّا أتمّوا بناء كاتدرائيّة نوتردام بباريس، وقد قضّوا في ذلك قرنين من الزّمن، أوكلوا إلى أحد الفتية المهرة أن يصنع أقفال المبنى... أخيرا تحقّق حلمك يا فتى؛ أَرِنا براعتك! وبات الفتى يرسم أشكالا عجيبة لأقفال جميلة، كأنّها أجنحة الملائكة، أو بدايات السّحب وهي ترتسم في الأفق البعيد. غير أنّ الحديد لم يطاوعه واستعصى وأبى؛ ومرّت الأيّام واللّيالي، دون جدوى، فلمّا أعيته الحيلة، رمى، يائسا، بما في يده: «اذهب إلى الشّيطان!»؛ فإذا النّار في الموقد تلتهب، كأنّ ريحا سحريّة نفخت فيها، وبرز الشّيطان: «أهلا أيّها الفتى! تريد أن أساعدك؟ أنا جاهز، ولكن لابدّ لذلك من ثمن! روحك هي الثّمن!»؛ وانتفض الفتى: «أبدا، مستحيل! أنا لم أطلب العون منك!»... «بل كنت تناديني بملء الفم»... ومضى الفتى يصرخ، والشّيطان يعاند؛ حتّى استبدّ بهما الغضب، فأمسكا بتلابيب بعضهما، يتدافعان ويتعاوران؛ وبالطّبع، كانت الغلبة للشّيطان، ففقد الفتى وعيه وسقط مغمًى عليه. فلمّا أفاق، نظر حوله، فإذا على السّندان أقفال رائعة، لم ير أجمل منها ولا أبهى؛ وأقبل النّبلاء والصنّاع يهنّئون الفتى ويباركون، وهو مذهول، مشــدوه، لا يدري ما يقول؛ هل تلك الأقفال صنعة يديه، أم صنعة الشّيطان؟ الشّيطان؟ ولكنّه لم يستنجد بالشّيطان، ولم يطلب منه عونا، ولم يفرّط في روحه لأحد. إذًا، فتلك صنعة يديه، تشكّلت في اللّيل، دون أن ينتبه أو يعي... ولكن، كم كانت المرارة شديدةً والخيبة كبيرةً على الفتى، حين أُوصدت الأبواب، ثمّ أبَتْ أن تُفتح ثانية، فقد استعصت المفاتيح وحرنت أن تدور في الأقفال. هل كان الشّيطان يبغي أن يصدّ النّاس عن دينهم؟ أم أنّ المفاتيح مصنوعة لأقفال غير أقفالها؟ ألم أقل من قبل إنّ الأصل في الأشياء الحرّيّةُ؛ بئس الجنّة التي توصد أبوابها على ساكنيها!... تقول الرّواية إنّ الفتى عاش بقيّة عمره مهموما؛ فلمّا مات، فُتّحتْ أمامه أبواب الجنّة وأبواب الجحيم، يدخل أيّها شاء.

الصحبي الوهايبي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.