كيف يتحوّل الزعماء من مناضلين إلى ضحايا ومن أبطال إلى مجرمين؟
أعتقد أنّه لم يسبق لمفهوم أن لقي رواجا واهتماما وبحثا مثل ما لقيه مفهوم "العدالة". فقدتعدّدت حوله الدراسات، وأبدى العديد من المفكرين اهتماما به، حيث أوضح "ابن خلدون" أن "العمران لا يتحقق إلا في ظل العدل"، ونظر إليه "السفسطائيون" على " أنه مصلحة الأقوى".
ليس من شك في أنّ قيم العدالة متأصّلة في العقيدة والقانون والسياسة، ونظرا لاختلاف تلك العناصر من ثقافة لأُخرى وزمن لآخر، تختلف رؤيتها ودرجات تطبيقها وتنفيذ سياساتها الحاكمة. ولكن بالرغم من هذا الاختلاف هناك ضوابط وأساسيات تشكّل مجمل فلسفتها.
فكرة الانتقام السياسي
تمثّل قضايا الانتقام السياسي أخطر أنماط العنف في أنظمة الحكم، حيث يسود مناخ الكراهية ليعكس دينامية مَرضيّة تشتغل بطريقة التشفّي. وتنتقل خطورة هذه الظاهرة من مرحلة الاختلاف بين عدد من الأشخاص إلى مرحلة يذهب ضحيتها العشرات تبعا لمستوى الانقسام. بدأت ملامح هذا الانتقام تظهر من جديد لدينا، ويمثل القناع السياسي أبرز أدواتها.
لاشك في أن الواقع كشف وجود فئة من الباحثين عن الانتقام، والحال أنّ الممارسة السياسية تطوّرت لتعتبر "الانتقام السياسي" أو "سياسة الانتقام" أعمالا ضارة بالمجتمع وأنّ دعم القضاء حوّل رحلة الانتقام إلى مسؤولية لتحقيق العدالة. ومن المعلوم أنّ "الثورة" تشير عموما إلى الأهداف الكبرى التي تتحقق من خلالها التغيرات العميقة والممتدة في المجتمع على مستوى بنيته السياسية والاجتماعية، وليس في تكريس واستبطان "فكرة الانتقام والتشويه".
وإذا أردنا استدعاء الماضي للحقيقة والانصاف، فالماضي كلّ لا يتجزّأ، ولا يقبل الاختيار بين أحداثه أو المفاضلة بينها وإهمال ما يبدو للأطراف المؤثرة مُخالفا لأهدافها. فالعودة إلى حادثة اغتيال المرحوم صالح بن يوسف في هذه الحقبة من تاريخ تونس، يثير تساؤلات ويوجه التفكير لفكرة تصفية الحساب مع " الحقبة البورقيبية" أكثر من شيء آخر. أليس غريبا أن يتم تحويل رجال الحركة الوطنية من مناضلين إلى ضحايا ومن أبطال إلى مجرمين؟ يبدو أن الانتقام السياسي أجهض الحلم الإصلاحي ولم تعد المسألة في خانة الحقيقة وإصلاح الذاكرة.
لا يمكن الحكم على هذه القيادات التاريخية التي كانت تعمل في ظروف استثنائية وعلى صفيح ساخن على هذا النحو. فالممارسة السياسية تتأثر بالسياق إلى حدّ بعيد، وما هو ملائم أو ممكن في موقف ما، قد يكون غير ملائم أو بعيد المنال في موقف آخر. وأساليب السياسة وإن نرفض "التصفية"، تختلف في الحرب والسلم، وفي الأزمات والأوقات الأشد هدوءا. وليس القرارات السياسية سمة مجرّدة وإنّما استجابة مناسبة لموقف معيّن وفي مكان وزمان محددين.
كان من الأجدر لو حسنت النوايا أن تُترك هذه الحادثة المرتبطة بالحركة الوطنية للمؤرخين والمؤسسات المختصّة لتصحيح الوقائع باسم "علميّة التاريخ" وتدارك الغموض والثغرات المسجلة. سينصف التاريخ حتما فرسان هذه الحركة كلّ حسب دوره وجهده وعطائه، وسيكشف أيضا تفاصيل الغدر والتآمر والخيانة الصريحة في تلك المرحلة.
علينا أن نتّفق، وأن الإيديولوجيات المغذّية للحقد "سقطت وإن استمرّت"، وأن السعي لإنهاء دور "الدولة الوطنية" والمساس برموزها موجة عابرة.
مصالحة الشعب مع تاريخه
يبدو وأنّ الكيفية التي تعالج بها قضايا الأنظمة السابقة، وإعادة طرحها جعلت البلاد محكومة بنوع من التوتّر السياسي الذي قد يأخذ الأوضاع إلى ما هو أبعد من دائرة العدالة، إلى إحياء الخلافات السياسية القديمة داخل العائلات والجهات والمجتمع، بما في ذلك النزاعات العنيفة.
هناك اختلاف في سياقات ومفاهيم المصالحة ولكن الأغلبية تتفق وأنّ البلاد في حاجة إلى التفكير في المستقبل الذي لن يستطيع أحد فيه أن يُلغي أحدا، وفي توحيد المجتمع حول برامج وقضايا مشتركة، وليس ببثّ التفرقة عبر تصوير الزعماء والمناضلين تصويرا سلبيا وكليا.فهذا لا يمكن إلا أن يؤدي إلا إلى تغذية مشاعر انعدام الثقة، وهذا هو الوجه الأكثر بشاعة في السياسة.
إنّ مسائل الحياة لا تجري على المنطق دائما، وخاصة في هذه السنوات الأخيرة، لذلك هناك حاجة إلى أن تتّجه المؤسسات الدستورية إلى تنمية الشعور بالمصير المشترك الذي لا يتحقّق إلا بالسمو عن الأحقاد والضغائن والمظالم والإذلال. من أجل هذا السبب وحده يجب أن يكون هناك إقرار عام بوضع حدّ لحالة الانقسام داخل المجتمع والاتجاه نحو إعادة صياغة مجمل العلاقات ونظم المؤسسات والوعي العام.
لقد عالجت جنوب افريقيا جراحها من حقبة التمييز العنصري انطلاقا من سنة 1995، ببيان الأسباب التي كانت وراء ما حدث، وطبيعة المعاناة، وتضمين وجهات نظر الضحايا ودوافع الذين تسببوا في الانتهاكات. ومن عوامل نجاحها عدم اتساعها لتكون "عملية علاجية"، وتنزيلها في سياقها التاريخي والاجتماعي والثقافي. لقد اتجهت أكثر إلى المستقبل وإلى توليد الشعور بالانتماء أكثر من النبش في الماضي والدعوة إلى الانتقام.
البلاد لن تنجح إلا بمصالحة وطنية شاملة تُبنى على إرادة الدولة قبل الأحزاب والهيئات،مصالحة تقوم على بناء جيش الدولة وأمنها وقضائها، وتعزّز الحقوق لإعادة بناء المجتمع. البلاد في حاجة إلى ثقافة مصالحة وليس إلى ثقافة إدانة وإلى تأطير رسمي لتضييق نطاق الإدانات وتوسيع نطاق بناء الثقة ومفهوم البراءة.
لم تعرف تونس ويلات الحروب الأهلية وآمل أن لا تجد طريقها إلينا، ولكن هناك مؤاخذات في مراحل معينة من تاريخنا تحتاج إلى جبر رمزي لجميع المتضرّرين فيها. من اللياقة أن لا نخلط بين المُآخذة والإساءة، لقد ترك الزعيم بورقيبة ومناضلي الحركة الوطنية إرثا وطنيا هاما من شأنه أن ينير درب الأجيال القادمة ويأخذ بيدها في مواجهتم للقوى الهدامة ومواصلة الطريق نحو الرفعة والعزة.
لا شك في أنّ الانتقال الديمقراطي يقبل التكيّف مع الواقع الذي تتنزّل فيه، لذلك آمل أن تتطور الممارسة السياسية لدينا دون المساس بالجوهر.
محسن بن عيسى
- اكتب تعليق
- تعليق