احميده النيفر: »قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي...«
1 - صاغ الفكر الإصلاحي الذي ظهرت مقولاته في تونس والولايات التابعة للسلطنة العثمانية معضلة العالم الإسلامي منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين في صيغة سؤال محوري: «لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟»
سعيا للإجابة عن السؤال الذي اعتبر عندئذ محوريا ومصيريا حدّد الإصلاحيون ثلاثة أهداف كبرى هي: محاولة استيعاب جانب من المتغيّرات الحضارية العالمية أوّلا ومواجهة فقهاء التقليد ومؤسّساتهم التعليمية والقضائية ثانيا، هذا إضافة إلى مقاومة معلنة للتصوّف وما ارتبط به من معتقدات تقديسية للأولياء.
2 - إذا أمعنا النظر في هذا السؤال تبيّن لنا أنّ المسكوت عنه في هذه الصياغة بالغ الأهميّة إذ أنّه يكشف عن طبيعة العالَم التصوّري الذي ركن إليه دعاة الإصلاح.
سؤال الإصلاحيين كأكثر الأسئلة حامل لبذرة جوابه لا يكاد يخفيها. حين يسألون عن سبب تأخّر المسلمين اليوم وعجزهم عن التقدّم فكأنّهم يقولون إنّ تقدّمهم في الماضي كان لأنّهم مسلمون حقيقةً أي لخصوصيتهم الدينية التعبّدية أساسا. ما يُخفيه ملفوظ السؤال وتوحي به الصياغة هو ذلك الإنكار المُثَنَّى: إنكارٌ للحراك التّاريخي وإنكار للمعرفة الإنسانّية. التركيز على الخصوصية الدينية دون سواها لفهم ازدهار الماضي يعني إعراضا عن العوامل الحضارية التي سبقت ظهور الإسلام ثمّ واكبته في الجزيرة العربية وما حولها في القرن السابع والثامن الميلاديين. هو في الآن ذاته إهمال لسيرورة المعرفة والفعل الإنسانيين فيما وقع تحقيقه في عصور الازدهار والإبداع حيث شُــيِدتْ مدنيّة واسعة وممتّدة أَرْسَتْها مجتمعات عالم المسلمين. على هذا يكون المسكوت عنه في سؤال الإصلاح دالّا على أن تأخّر مسلمي اليوم وتقدّم غيرهم هو نتيجة لانتفاء ما يُظَنّ أنّها أهمّ أسباب تقدّمهم في الماضي.
3 - يؤكّد هذا الإنكار المثنّى ما عبّر عنه الشيخ محمد عبده في تعريفه للإصلاح بقوله: «هو تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف هذه الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معـــارفه إلى ينابيعهـــا الأولى واعتبـاره ضمن موازين العقل البشري التي وضعـها الله لتَرُدَّ من شططه وتقلّل من خلطه».
المُربك في الفكر الإصلاحي قديما هو المُنهك للحركات الإحيائية اليوم، إنه القول بنقاوة الأصول المُنجَزَة تاريخيا أي بالعصر الذهبي الذي ينبغي الرجوع إليه تحقيقا للإصلاح وتصحيحا للانحراف. لا نعني بهذا النزوع الأسسَ العقدية المؤسّسة بل المقصود هو ما يعتمده المنهج الإحيائي في تحويله حقبةً من الحقب التاريخية بمستواها الذهني إلى سقف معرفي ومنظومة فكرية- اجتماعية مرجعية لا ينبغي تجاوزهما. مثل هذا القول يؤدّي إلى توسيع دلالة المرجعية لتشمل، إضافةً إلى النصّ الأوّل (القرآن الكريم) والعقائد المؤسِّسة، الثقافةَ المتداوَلَة بين مُنتجي النصوص الثانية (المفسّرون والفقهاء والمتكلّمون) في العصور السابقة. ثمّ إنّ القول بفهم « الدين على طريقة سلف هذه الأمة قبل ظهور الخلاف» ينطلق من الاعتقاد بإمكان إعادة استحضار نفس مواصفات وعي حقب سابقة وإنتاجها بصورة فاعلة عن طريق إحداث اختزالات زمنية.
4 - مثل هذا المطلب متعذّر التصوّر والتحقيق وهو حتّى إن تحقّق جزئيا فلا يمكن أن يؤدّي إلى فاعلية تاريخية. الأخطر هو ما يمكن أن يُحدثه هذا الاستحضار المتعسّف واللاتاريخي من تعثّرات وإعاقات بالغة الخطورة ممّا هو مشاهد اليوم في الفضاء العربي خاصّة. ذلك أنّ مرور الزمن لا يمثّل تراكما شكليا لمستجدّات معاصرة تضاف إلى مُقتطعات مجتمعٍ قديمٍ لاعتقاد إمكان استحضار مواصفاته الاجتماعية والفكرية والقيمية. مرورُ الزمن يعني تحوّلا نوعيا في بنية المجتمع ونمط تفكيره بما تتعذّر معه مماهاة نمط الوعي السابق وتمثّلاته وآثاره.
لذلك فقد عمل الخطاب الإصلاحي، وبدرجة أعلى، الخطاب الإحيائي اليوم على إضعاف كلّ حسّ تاريخي لكون الخطابين يتصّوران المجتمع والإنسان قائمين على علائق دينية أساسا. من ثم فهمــا لا يعترفان بالمجال الاجتماعي- السياسي وبحراكه وضوابطه الخاصّة لأنّ تصوّرهما للمجتمع سلبي وثبوتي مما يجعلهما يختزلان مجالاته وحركيته في بُعد أحادي انفعالي فحسب. ذلك هو الإعراض عن الاعتبارات الاجتماعية-الاقتصادية والفكرية-الثقافية وما يتولّد عنها من حراك وما يفضي إليه هذا الأخير من تحوّلات نوعية متغيّرة ومعقّدة.
على هذا فإن معضلة العالم الإسلامي في الفترة الحديثة ثمّ المعاصرة وثيقة الارتباط بعالَمه التصوّري وما تتحكّم فيه من رموز ومناهج تفكير وفعل.
5 - قراءة ما يقع إنتاجه اليوم من أدبيات إسلامية من زاوية دلالتها التصوّرية يمكن أن يوصلنا إلى أبرز أسباب ضعف فاعلية غالبها وعجزها عن إحداث تغييرات حاسمة في الفكر والواقع. ما نعنيه بالدلالة التصوّرية هو الوجهة التي يرسمها كلّ نصّ والحدود التي يفتحها في ذهن القارئ أو المستمع.
ما أثبته «علم النصّ» حديثا هو أن النصوص وخاصّة الكبرى منها (الدينية والأدبية والفلسفية) ليست مجرّد إنتاج لواقع إنّما تعود أهميتها إلى الذات التي تريد أن تنسجها والآليات الذهنية والتصوّرية التي تريد تفعيلها في الواقع الذي تعمل على بنائه. خلودُها راجع لما تحقّقه من جدلية متواصلة مع الواقع: الواقع يرسم حدود فضاء النصّ لكنّ النصّ بدوره يعيد تركيب سردية جديدة في معالمها وبنيتها متجاوزا بذلك الواقع. جوهرُ عمل النصوص الكبرى في تاريخ الإنسانية متمثِّلٌ في ديناميتها الدائمة أي في قدرتها على الهدم والبناء الذهنيين المستمرين وفي مــدى ما تُحدثه من توسيع للرؤية وفتح للآفاق وخلخلة للبُنى.
أمّا خطورة ما يقع إنتاجه من نصوص ثانية، تلك التي تأتي تاليةً مفسّرةً للنصوص المؤسّسة أو الكبرى فهي راجعة إلى درجة وعيها بخصوصية الدلالة السردية للنصوص الأولى. قد تكشف عن ديناميتها الكامنة فتتمثّل طاقتها الإبداعية التجاوزية وقد تكتفي بكتابة تسجيلية لتعيد إنتاج ما هو معروف محاولة تثبيت بنية التصوّر والواقع القديمين.
6 - لعلّ سورة الكهف بما احتوت عليه من قصص تعدّ أفضل تطبيق عمليّ للعلاقة الجدلية بين النصّ والواقع. جماع قصص تلك السورة يلتقي في إظهار تهافت مقولة الشرك العربيّ القديم وإبراز لدعـــوة التوحيـــد مُصـــاغة بطريقة تخلخل البنيـــة التصوّريّة القارّة وتعمل على نســـج قــوالب عالم تصــوّري جــديد.
لو اقتصرنا على أواخر السورة وعلى الآية 109 بخاصّة لوجدنا فيها عيّنة لعالَم نَـصِيٍّ يتولّد ويَتَـفَـتَّقُ من خلالها مُزيحًا معالم عالَم آخر قديمٍ مهترئ ومتهافتٍ.
قول تعالى: «قل لو كان البحر مِدادا لكلمات ربي لنَفَد البحرُ قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثلِه مَدَدًا».
لا يتجاوز عموم المفسّرين شرح ملفوظ الآية وقد يزيدون عليه سبب النزول. أمّا ما يفيده «علم النصّ» في خصوص هذه الآية- العيّـنة فيتعلّق بطبيعة الذات الإنسانية التي يعمل على بنائها ونوعِ النظام المفهوميّ الذي يريد إرساءه. هي ذات مُستخلَفَة أي شُهودية مُدركة أنّ علم الله غير محدود بما يدفع بها إلى سياق سعيٍ لا يتــــوقف لمزيد مـــن معرفة كلمـــات الله وحكمته غير المتناهية.
الآيةُ، مـــن زاوية ثانية، حين تستعــير البحــر ومن ورائه بحــور أخـرى لتحوّل مياهـــها حبرا تُكتــب به كلمات الله التي لا تنفذ، إنّما تزحزح البنية التصوّرية القارّة والتي تعتبر البحر مصدرَ خوف وحُزن لا صلة له بالمعرفة والحكمة والرقي. في هذا لو قارنّا بين السياق الدلالي القرآني الذي تُستعمل فيه عبارة البحر بالسياق الدلالي لذات العبــــارة في الأدب العربي القديم كلّه لأدركنا نوع النظام المفهومي الذي يفصل ويميّز بين السياقين. البحـــر رديفُ الرّعب والثّبات في أدب التداول العربي القديم وهو قــرين الخير والعلــم والتقــدّم في عمـــوم السياق القرآني.
7 - ليـــس فيمـا تقــدّم سعيٌ لمعالجة نظرية تاريخية مجرّدة لا صلة لها بالواقع وتساؤلاته الحضارية وتعثّراته الفكرية والسياسية. مقصدنا منه هو المساهمة في رفع بعض الحجب عن بناء فكر ديني يكون متمثّلا للخطاب القرآني من جهة ويكون مقبولا من أجيال من المتعلمين الذين تمثّلوا بدرجة من الدرجات التطورات الفكرية والحضارية الحديثة. بتعبير آخر هو تجاوز السؤال الإشكالي القديم بطرح سؤال بديل عنه هو: كيف يمكن للباحث أن يُعيد اكتشــاف مــعاني نصوصه المؤسّسة وفق شروط الوعي التاريخي ومقتضياتها المعرفية والحضــارية المعـاصرة؟.
احميده النيفر
جـامعي وعضو بيت الحكمة
- اكتب تعليق
- تعليق
تحليل موضوعي وشامل. كما عهدناك أستاذنا الفاضل