فــيـــلم «دشـــرة»: فيلم استثنائي بسيناريو مستهلك
إذا ما توغّلنا عميقاً في تاريخ السينما التونسية، سنلاحظ غيابا تامّا لبعض الأجناس الفيلمية التي بقيت مستثناة من إنتاجاتنا السينمائية، رغم ما تحظى به من متابعة جماهيرية واسعة على الصعيد العالمي، لفائدة سينما المؤلّف التي تحمل رؤية ذاتية وتراهن على أشكال تعبيرية وجمالية جديدة ومتفرّدة، تميّزت بخروجها عن الخطّ التجاري الاستهلاكي. وجاء فيلم »دشرة« للمخرج عبد الحميد بوشناق ليضع حدّا لتواصل هذا الغياب، المحكوم بظروف هيكلية ومادية وليس مرتبطا بخيارات فكرية وجمالية، وقطع مع النمط السينمائي السائد من خلال تقديم عمل مختلف شكلا ومضمونا.
نجح فيلم «دشرة» في استقطاب الجمهور وفي تقديم تجربة مختلفة تماما عن النمط الإنتاجي السائد في قطاع السينما، والخروج من الحلقة المفرغة للأفلام التونسيــة التي ما انفكت تبحث عن مساءلة الشكل والجوانب الفنية والجمالية، على حساب الجانب الترفيهي والاستعراضي الذي يروق لأكبر عدد من المشاهدين. هذه هي المعادلة التي راهن عليها مخرج العمل ليقدّم فيلما سيظل علامة فارقة في تاريخ السنيما التونسية، بصرف النظر عن قيمته الفنية والجمالية، من خلال تقديم أول عمل سينمائي يقتحم مجال الرعب والإثارة بشكل صريح، تدور أحداث الفيلم في إطار من الترقّب والتشويق من خلال قصة ثلاثة طلبة كانوا بصدد الإعداد لمشروع تخرّجهم في شكل تحقيق استقصائي مصوّر يكشف عن خفايا قصة امرأة مجنونة يشوبها الكثير من الغموض والألغاز، وينتهي بهم المطاف إلى قرية معزولة في إحدى غابات عين دراهم، يعيش سكانها على ممارسة السحر والشعوذة.
ورغم أنّ هذه التجربة السينمائية تقدّم فكرة جديدة ورائدة، فإنّ سيناريو الفيلم مقتبس عن تحفة سينمائية حقيقية في هذا الصنف من الأعمال، يعود إنتاجها إلى العـام 1999، وهـو فيلــم «مشـــروع الساحــرة بليــر» (The Blair Witch Project) للكاتبين والمخرجين «إدواردو سانشيز» و»دانيال ميريك»، اللّذين أسّسا فعلاً لفكرة الإيهام بالواقع والحقيقة في أفلام الرعب. قام فريق «دشرة» بمجازفة فنية كادت تكلّفه غاليا، إذا ما اعتبرنا الفيلم مجرّد «نسخة ثانية» (remake) بـ «مشروع الساحرة بلير»، حيث لا مجال هنا للمقارنة بين الفيلمين لما يوجد بينهما من فوارق فنية وإبداعية وتقنية، وربّما كنّا نتحدّث حينها عن مجرّد استنساخ فاشل لعمل سينمائي ناجح.
ولكن ما شفع للفيلم. هو إعادة قراءة الأحداث بأسلوب مختلف وبرؤية فنية مستوحاة من الواقع الخاصّ بالذاكرة الشعبية التونسية والعادات المقيتة التي لازال البعض يؤمن بها ويمارسها، ليجعل منها مخرج العمل مصدر إلهام فني ويقدمها في تجربة سينمائية غير مألوفة. الفيلم كشف عن البعض من الطقوس الغريبة والشاذّة في علاقة بالسحر والشعوذة كاختطاف الأطفال وقتلهم ومن ثمّ تقديمهم «قربانا للجان» لاستخراج الكنوز والآثار، بالإضافة إلى انتهاك حرمة الموتى من خلال نبش القبور واستغلال الجثث في خدمة السحر الأسود بخياطة الفم أو بواسطة تمرير يد الميت على أكلة الكسكسي... من ناحية أخرى ساهم المشهد الأخير بشكل أساسي في إنقاذ سيناريو الفيلم من تكرار واجترار بعض المشاهد التي كانت مملّة وثقيلة أحيانا على مستوى البناء السردي، حيث كان عنصر المفاجأة حاضرا بقوّة مع نهاية الفيلم الصادمة وغير المتوقّعة.
الحلقة المفقودة؟
يعتبر فيلم «دشرة» عملا سينمائيا فريدا من نوعه وتحدّيا غير مسبوق في تاريخ السينما التونسية، وربّما لهذا السبب حقّق الفيلم نجاحا جماهيريا كبيرا، إلاّ أنّه لا يرتقي إلى مستوى أفلام الرعب النفسي العالمية،حيث أطنب مخرج العمل في محاكاة مختلف كلاسيكيّات هذا النّوع من الأفلام (Stalker, Psycho,The Omen, The Texas Chain Saw Massacre...) وفي التلميح والإشارة إلى بعض المشاهد الاستثنائية التي ميّزت هذه الأعمال السينمائية الخالدة. كما قام بمراكمة مجموعة من الشخصيات التقليدية المخيفة والمستهلكة بكثرة في عالم أفلام الرعب كالمرأة الساحرة والطفلة الزاحفة (creepy girl) والمرأة الشبح ذات الرداء الأسود والسفاح المضطرب نفسيا (Slasher) وآكلي لحوم البشر( cannibale)... زد على ذلك الإفراط في استعمال أساليب التخويف وتقنياته في مشاهد الرعب كالتركيـــز على قفـــزة التخويف (Jump scare) وملكة الصراخ (scream queen)، بالإضافة إلى خيارات التوليف والموسيقى التصويرية التي ساهمت بدورها في خلق جوّ مبالغ فيه من الشحن والتوتّر والقلق الدائم لدى المشاهد.
وطول مدّة عرض الفيلم البالغة 108 دقائق، أوقع هذا العمل في فخّ الملل والتكرار في بعض المشاهد ممّا أدّى إلى عدم تماسك البناء الدرامي للأحداث. ورغم اعتماد المخرج على فريق شابّ من الممثلين على غرار ياسمين الديماسي وعزيز الجبالي وبلال سلاطنية ونجاحهم النسبي في تقديم أداء مقنع ومرضي، إلا أنّ غياب الإيقاع والانفعال المطلوب عن الجمل الحوارية التي كانت متقطّعة ومستهلكة بدورها، جاء بشخصيات باهتة ومسطّحة، لا تحمل صفات وروحا خاصّة بها.مأزق فيلم دشرة ليس في كونه فيلم رعب، وإنّما في الرؤية السينمائية لمخرج العمل الذي أفرط في تطويع العناصر الفنية والجمالية والتقنية الخاصّة بهذه النوعية من الأفلام، وفي محاكاة كلاسيكيات سينما الرعب، وهو ما لم يتداركه المخرج نتيجة قلّة التجربة التي عادة ما تكون حاسمة في العمل السينمائي الأوّل.
ورغم بعض الهنّات والنقائص التي شابت هذا العمل، إلاّ أنّ هذه التجربة السينمائية تعتبر نموذجا يحتذى به ومصدر استلهام للمخرجين الشبان في تونس، حتّى يؤسّسوا لسينما بديلة وجديدة، كفيلة بأن تقطع مع السائد شكلا ومضمونا وتنهض بالسينما التجارية في بلادنا. فهل يؤسّس «دشرة» لصناعة سينمائية جديدة؟.
ناظم الوسلاتي
- اكتب تعليق
- تعليق