الحراك الشعبي الجزائري: التطلّعات والمآل الحميد المأمول

الحراك الشعبي الجزائري: التطلّعات والمآل الحميد المأمول

في مقال نَشَرْتُه في العدد الثاني من مجلة »ليدرز العربية« (المؤرّخ من 15 فيفري إلى 15 مارس 2016)، تحت عنوان (ارتسامات جزائرية أو: «وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر»)... كتبت، على إثر زيارة قمت بها الى الجزائر، أن »الجزائريين، خاصّةً وعامّةً، يجمعون على أنّ بلادهم تقف اليوم في مفترق طرق متشعّب ومزدحم ومضطرب الحركة ينبغي أن تعجّل بالخروج منه باختيار الطريق القويم السليم الذي يمكن أن يفضي بها إلى أبواب المستقبل المأمول...»

مثلما هو الشأن في كلّ مجتمع حيّ، فإنّ رؤية الجزائريين لأوضاع بلادهم تتنوَّعُ بِتَنَوُّعِ أطيافهم، غير أنّ القاسم المشترك الذي يظلّ يؤلّف بينهم جميعا هو الحرص على سلامة الجزائر وأمنها ووحدة ترابها وشعبها، وهم لذلك يقابلون التحديات الماثلة على الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية بالشعار الذي كان رفعه أباؤهم وأجدادهم إبّان معركة التحرير: «وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر»...

وهم يتّفقون على أنّ رفع هذه التحديات يتطلّب شنّ «معركة إصلاحية» قادرة على تحرير البلاد من كوابح نهوضها المنشود، بفضل إصلاحات حقيقية شاملة لا يقرّرها النظام بطريقة فردية فَوْقِيَّة، ولا يفرضها الشارع بالعنف والفوضى، وإنّما تكون ثمرة استراتيجية يتمّ رسمها بصورة جماعية ثمّ تنفيذها بمشاركة كافّة القوى الحيّة في البلاد»... وقد جاء الحراك الشعبي الذي انطلق «افتراضيا» في مرحلة أولى، ثمّ صار «ميدانيا» في مرحلة ثانية، على إثر إعلان ترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة للعهدة الرئاسية الخامسة في 10 فيفري 2019 ليؤكّد ما كنت كتبته، حيث أنّه تميّز، من حيث خصائصه، بطابعه السلميّ الهادئ والبعيد عن أيّ شكل من أشكال العنف والفوضى، كما إنه، من حيث مطالبه، قوبل من النظام حتّى الآن بتفاعل متدرّج لكنّه إيجابيّ إجمالا، ممّا  يبشّر بأنّه يمكن أن يفضي، في نهاية المطاف، إلى أرضية تفاهم مشتـــركة بين الأطـــراف المتقابلة تساعد على وضـــع الجزائر على طريق الانتقال المنشود في كنف الحفاظ على أمنها واستقرارها، وبالاعتماد على الحوار الجدي والبناء...

ولعـــل هذا هو الذي جعل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة يؤكّد في الرسالة  الوداعية المؤثّرة التي حرص على توجيهها إلى الشعب الجزائري بعد إعلان استقالته من الرئاسة يوم الثلاثاء 2 أفريل 2019 أنّه مع  «التماس الصّفــــح ممّن قَصَّر في حقّهــم من أبناء وطنه وبناته، من حيث لا يدري، رغم بالغ حرصه على أن يكون خادما لكلّ الجزائريين والجــــزائريات بلا تمييز أو استثناء» «يغادر الساحة السياسية وهو غير حزين ولا خــــائف على مستقبل الجزائر» لأنّه «رغم الظروف المحتقنة، منــذ 22 فيفري 2019» ما يزال كله أمل في «أنّ المسيرة الوطنية لن تتوقّف، وسيأتي من سيواصل قيادتها نحو آفاق التقدّم والازدهار مولِيًا، وهذا رجاؤه، رعاية خاصّة لتمكين فئتي الشباب والنساء من الوصول إلى الوظائف السيــــاسية والبرلـمانية والإدارية، ذلك أنّ ثقته كبيـــرة في قدرتهمــــا على المســـاهمة في مـــغــالبة ما يـــواجـــه الوطن مــــن تحدّيــــات في بنـــاء مستقبلـــه».

وعلى هذا الأساس، فقد توقّع أن يكون للجزائر «عمّا قريب، رئيس جديد يرجو أن يعينه الله على مواصلة تحقيق آمال وطموحات بناتها وأبنائها الأباة اعتمادا على صدق إخلاصهم وأكيد عزمهم على المشاركة الجادّة الحسيّة الملموسة».

ومع أنّ الوضع في الجزائر متحرّك باستمرار وقد يصعب التكهّن بما سيؤول إليه، لأنّ كلّ يوم جديد يأتي بنصيب من التطورات الجديدة التي تغيّر المشهد على الصعيدين الميداني والسياسي، فإنّنا نؤمّل أن يصل الشعب الجزائري إلى هذه المرحلة، في أقرب وقت ممكن وبأيسر السبل، ونحن على قناعة بأنّه قادر على بلوغها وحلّ الإشكاليات التي تعترض طريق الوصول إليها...

وممّا يبرّر هذه القناعة، في نظري، المؤشّرات الداخلية والخارجية الخمسة الكبرى التالية:

1 - أنّ الشارع الجزائري تحوّل، مع تواصل وتصاعد حراكه غير المسبوق في تاريخ الجزائر المعاصر، إلى فاعل أساسي في المشهد السياسي، ويبدو أنّه سينتهي إلى تحقيق مطالبه، لأنّه أثبت خلال الأسابيع الماضية أنّه يتمتّع بدرجة عالية من الوعي والنضج هي التي جعلته يخوض غمار حراكه بشكل منظّم، وإن كان عفويا، وهي التي ستجعله، مستقبلا، يهتدي إلى الكيفية المثلى لإدارة المرحلة الانتقالية بالاعتماد على فاعلين سياسيين جديرين بالثقة، وباستخدام آليات العمل الديمقراطي.

2 - أنّ سلسلة التنازلات والتراجعات المسجّلة  حتّى الآن على أصعدة متعدّدة، سواء في مواقف الرئاسة ومحيطها، أو الجيش الذي يعتبر صانع الرؤساء في الجزائر، أو الأحزاب وخاصّة منها حزبي جبهة التحرير الوطني وحزب التجمّع الوطني الديمقراطي الحاكمين، والنقابات... تدلّ على أنّ الممسكين بمقاليد الحكم مستعدّون لملاقاة الحراك الشعبي في منطقة وسطى تستجيب لمجمل مطالبه لكنّها لا تحدث فراغا في السلطة،  ذلك أنّه كما قال الأخضر الإبراهيمي في بعض تصريحاته: «إنّ الدعوة إلى رحيل الجميع أمر سهل لكنّ تطبيق ذلك صعب نظرا لحاجة الجزائر إلى رجال ومؤسّسات لتأمين استقرارها».

3 - أنّ القناعة ما فتئت تتوسّع وتترسّخ بأنّ الجزائر التي يبلغ عدد سكّانها أكثر من أربعين مليون نسمة، خمسون بالمائة منهم من الشباب، والتي يقرّ الجميع بأنّها تعاني من أزمة متعدّدة الأبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية باتت أهلا لحياة ديمقراطية حقيقية يتمّ إرساء قواعدها، جماعيا، من خلال مرحلة انتقالية هادئة وسلميّة تقوم على تنظيم حوار بين كافّة الأطراف المعنية، أي بين النخب الفكرية والسياسية التي يمكن أن تنبثق عن الحراك الشعبي، وأحزاب المعارضة واضحة الخيارات، وبعض وجوه السلطة المستعدة لقبول إجراء إصلاح حقيقي يلبّي انتظارات الشعب الجزائري.
وعلى هذا الأساس، فإنّه من المطلوب ومن الممكن، حتّى لا يخرج الوضع عن السيطرة، التوصّل إلى توافق على تمشّ يوفّق بين التمشّي الذي اقترحه الرئيس عبد العزيز بو تفليقة لحلّ الأزمة، وبين التمشّي الدستوري الذي دعا الجيش إلى الأخذ به، والتمشّي الذي اقترحته قوّى من المعارضة والذي يدعو إلى تشكيل هيئة رئاسية تتألّف من شخصيات وطنية تمتنع عن الترشّح في الانتخابات المقبلة، وتتمتّع بصلاحيات الرئيس لكي تتولّى الإشراف على المرحلة الانتقالية التي ستقوم خلالها بتعيين حكومة كفاءات وإنشاء هيئة مستقلّة للانتخابات وتعديل القانون الانتخابي على أن تنتهي هذه الإجراءات خلال ستّة أشهر.

4 - أنّ الوضع الأمنيّ المضطرب في المنطقة، واستفحال مخاطر الإرهاب التي تهدّد مختلف بلدانها، يفرض على الجزائر التي تمتدّ حدودها البريّة مع أجوارها الستّة على أكثر من ستّة آلاف كيلومتر، التحـــلّي باليقظة الدائمة، وعلى الجزائريين الذين ما تزال تأثيرات العشريّة السوداء حاضرة في أذهانهم، والذين يشهدون تداعيات الانحرافات التي تعــــرفها ثورات ما يســـمّى بـ«الربيع العربي» أن يتمسّكوا بسلمية حراكهم وأن يتجنّبوا الوقوع في منزلقات التغيير العنيف الذي قد يفضي الى نقيض ما يراد منه، أي إلى تجميد الانفتاح السياسي وتفريخ تيّارات العنـــف السياسي على اختلاف منابعها الأيديولوجية وارتباطاتها الخــارجـية، ومنهــا التيّارات الجــهـــاديـــة والانفصالية، بدلا من أن يؤدّي إلى إقـــامة النظام الديمقراطي المنشود.

5 - أنّ التغيير في بلاد في حجم الجزائر التي تتمتّع بثروات كبيرة وتحتلّ موقعًا جيو-سياسيا مهمًا في خارطة المنطقة المغاربية والعربية والإفريقية والمتوسطية، ليس شأنا داخليا فحسب، وإنّما هو أيضا شأن إقليمي ودوّلي أيضا، وبالفعل، فإنّ الجزائر باتت منذ بدء الحراك الشعبي محطّ أنظار دوّل المنطقة خاصّة والعالم عامّة.

ويمكن القول إنّ مواقف أغلب هذه الدول يغلب عليها التحفّظ والحذر، وهي في معظمها تلتقي في تخوّفها من احتمال انزلاق الجزائر نحو حالة فراغ قد تؤدّي بها إلى السقوط في العنف والاضطراب والفوضى...

وسيكون من عين العقل أن يضع الحــــراك الشعبي الجزائري هذه المواقف في حسابه وأن يحكم استثمـــارها في مواجهة الأطراف الدولية المتربّصة به والتي لا شكّ أنّها تعمل، في الخفاء وبمكرها المعهود، على حرفه عن مساره السلمي مثلما عملت على ذلك في دول عربية أخـــرى وليست ليبيا المجاورة إلاّ مثالا حيّا على ذلك، على امتداد السنوات الثماني الماضية وهذه الأيام بالذات....

محمّد إبراهيم الحصايري

قراءة المزيد:

ارتسامات جزائرية: "وعـقـدنا العزم أن تحيا الجزائر"...

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.