احميده النيفر: مدرسة الرڤـاب و»مَـكْـرُ التاريخ«
1 - في مشهد سياسي قاتم دَوَّتْ مسألة « المدرسة القرآنية بالرڨاب» كالصيحة المفزعة للسياق الاجتماعي/الثقافي المتعثّر والصعب مضيفة مزيدا من الاضطراب ومُفاقِمة من منسوب التوتر فيه.
2 - في سياق لا يبدو متّصلا لكونه لم يعالج ظاهر المسألة ألقى الوزير الفرنسي الأسبق للتعليم والدفاع والداخلية «جان بيير شوفنمان» (J.P. Chevènement) محاضرة يوم الجمعة 22 فيفري 2019 بتونس على منبر مؤسسة جامعية خاصّة بعنوان «الحداثة والأصالة: تحديّات العالم الإسلامي من قرن إلى آخر». أهمّ ما تناوله السياسي الفرنسي هو قراءته لثورة 17-14 في تونس باعتبارها التحاقا بالمجال الأوروبي في قيم الحرية والديمقراطية. جاء ذلك تقديرا منه لمساهمة تونس في انطلاق رياح الحرية والأصغر سنا في ديمقراطية العالم العربي والتي كانت دائما تصنع التاريخ مشيرا في ذلك إلى الحضارة القرطاجنية. خلاصة قراءة «شوفنمان» تتحدد في أنّ تونس عاشت دائمًا تحدّيات واجتازتها بنجاح ممّا يجعل الغربيين الذين يخشون من عدم انخراط العالم العربي الإسلامي في الحداثة والديمقراطية يتابعون التجربة التونسية بكثير من التفاؤل.
3 - ما لا يمكن أن يذهل عنه المتابع لمسار السياسي الفرنسي بتاريخه الزاخر بالحركة هو أنّ صِلاته بالعالم العربي الإسلامي وطيدة ومثيرة للجدل. لقد بدأها مع الجزائر زمن الهيمنة الاستعمارية ثم مع مصر ليواصلها مع مسلمي فرنسا عندما كان وزيرا للداخلية (1997 - 2000) انتهاءً برئاسته لمؤسّسة «من أجل إسلام فرنسي» (Fondation pour l’islam de France). لذلك لا يمكن توقّع صدور لغو الكلام منه حين يعالج موضوع الحداثة والأصالة في تونس 2019.
ما يهمّنا اليوم من هذه المقاربة ونحن بصدد معالجة موضوع «المدرسة القرآنية» هو هذا الفهم الأحادي للحداثة المُتَمَرْكز على الذات مع ما يستتبعه من تهميش للمختلف ولخصوصياته.
بالعودة إلى السياق الوطني وما أثاره موضوع مدرسة الرڨاب من جدل تجاوز مجال مراقبة المؤسّسات التربوية الخاصّة بالأطفال ومحاسبتها على مدى انتظامها القانوني والإداري والأخلاقي ليعود إلى جوّ المشاحنات المتعلّقة بالهوية والحداثة والخطاب المسجدي وتحفيظ القرآن الكريم وعقلية الاجترار...إلخ. ذلك ما سعى إليه البعض حين طالب بهدم «المدرسة القرآنية» بالرڨاب وهدم كلّ مدرسة خارجة عن السيطرة. هو رجع الصدى لأكثر من موقف مُنَدِّدٍ كالذي صدر من أحد نواب المجلس التأسيسي عندما اعتبر أنّ المدارس القرآنية «أصبحت متواجدة في تونس كالفِطْر ولا أحد يتحكّم بها وأنّها خطر على أبنائنا».
4 - لإضاءة موضوع مدرسة الرڨاب من المفيد الاعتناء بدلالتها المجتمعية والرمزية وفي صلتها بتاريخ الكُتّاب في تونس وفي الحضارة العربية الإسلامية. في هذا ينبغي التذكير بأنّ لنا في تونس مفصلين حديثين هامّين وقبلهما مفصــــل ثالث أقــــدم تتعلّق كلّها بالكُتّاب وما أثير حوله من جـــدل مُستعاد وخلاف مكـــرر عسى أن يستفاد منه في التوصل إلى رؤية وسياسات ومبادرات مستقبلية.
عن المفصل الأول تُسْعِفُنا الذاكرة الشفوية بظاهرة الإملاءات القرآنية التي برزت في ثلاثينات القرن الماضي، أدقّ مرحلة في التاريخ الحديث لتونس. فيها أسّس الشيخ عبد العزيز الباوندي حركته وعمل على رعايتها في مدن وجهات عديدة من «الإيالة التونسية». عن هذه الحركة المُعتنية بتحفيظ القرآن ومقاومة الأميّة أفادنا آخر مريدي الشيخ الباوندي، السيد عبد المجيد البراري، منوّها بأهميّتها ومدى انخراط التونسيين فيها خاصّة الشباب منهم. تتقاطع هذه الشهادة مع ما عبّر عنه شيوخ كانوا يسألون بعض مؤسّسي الحركة الإسلامية في سبعينات القرن الماضي عمّا طبيعة نشاطهم قائلين: هل تواصلون جهود الشيخ الباوندي؟
أهمّ ما ينبغي تسجيله في حركة الإملاءات القرآنية أنّها أثارت جدلا واسعا لكونها صارت تُعتَبر منافِسَةً مناوِئَة للحزب الدستوري الجديد خاصة بعد الاستقلال.
عند هذا المفصل الأوّل يقف جانب من دراسة جامعية نوقشت مؤخّرا في تونس للباحث «ماهر الزغلامي» عن «تدبير الحقل الديني بين الواقع الاجتماعي والبناء الاستراتيجي». اعتبر الباحث في قراءته أنّ هذه الحركة مَثَّلت خط الدفاع عن الحدّ الأدنى لإثبات وجود شرعية التديّن في فترة انتقالية محافظةً على النص القرآني المؤسّس وترسيخا لذاتية المجتمع.
5 - قبل ذلك برز مفصل آخر اهتمّ بالكُتّاب وحفظ القرآن مع حركة «الشباب التونسي» (Les Jeunes Tunisiens). تولّى هذه المسألة أحد رموز الحركة الوطنية في مطلع القرن العشرين وهو الصادقي «خير الله بن مصطفى» الذي تميّز بانخراطه مع مؤسّسي الجمعية الخلدونية لإصلاح التعليم الزيتوني. دعّم «ابن مصطفى» خطّا وطنيا تأصيليا لحركة الشباب التونسي باعتنائه بالكتّاب وضرورة إصلاحه. ظهر ذلك عند مشاركته في مؤتمر شمال إفريقيا في باريس عام 1908 ونقده للسياسة التعليمية الاستعمارية المهملة للتعليم التقليدي في الكتاتيب بمحاضرته عن «التعليم الابتدائي للأهالي في البلاد التونسية». واصل «ابن مصطفى» في مسيرته المثيرة للجدل والامتعاض حتّى من رفاقه في الحركة بتأسيسه لأوّل مدرسة قرآنية عصرية بالعاصمة نسج على منوالها غيره في بعض المدن التونسية الأخرى. أهميّة هذه التجربة التربوية الجامعة بين حفظ القرآن وتعليم العربية والفرنسية للصغار بنظام بيداغوجي عصري في عملها على إثبات الذات في وجه المساعي الاستعمارية لطمسها. من أبرز ما أورده «ابن مصطفى» في محاضرته الباريسية أن المطلوب تخطّي السياسة الفرنسية العاملة على ترك الكُتّاب يتخبط في الهامشية والفوضى حتى يندثر. البديل هو إصلاح مؤسسة الكتّاب بتأهيل عصري للمؤدّبين يتيح للصبي الجمع بين التربية البدنية والفكرية والخلقية بتمثّل المنهج الخلدوني في التعليم المستفاد من التجربة الأندلسية المختلفة عمّا درج عليه عموم المغاربة. خصوصية هذه التجربة تنطلق من تعلّم الخطّ والحساب والعربية ثمّ يكون الحفظ قبل الدخول فيما يلي من التعليم سعيا إلى أمثل انتفاع من نضج المتعلّم وقدراته.
6 - مع المفصل الثالث المتعلّق بمرحلة التأسيس يظهر «الكتّاب» متجاوزا لما سيندرج فيه بعد ذلك تعليم الصبيان في الجزيرة العربية والأمصار المسلمة. كان انطلاق الكُتّاب في العهد النبوي بغاية دينية رسالية واجتماعية تعمل على تنشئة جيل جديد بنسق غير معهود. هذا التوجّه دأب عليه عدد من الصحابة تولّوا العناية بالكتاتيب برعاية من يرتادها من ضعاف الحال والأيتام بتقديم الهدايا والفواكه والدعاء لهم بالفتوح والبركة. ذلك تثبته رسالة الخليفــــة عمر بن الخطاب للصحابي أبى عبيدة ابن الجراح فاتح الشام تحرّضه على تأسيس الكتاتيب لتركّز النصَّ القرآني في النفس الغضّة للصبيّ ينشأ عليها لسانه وجنانه مع التدريب على القراءة والكتابة وفنون الفروسية وإجادة العوم في الأنهار والبحار. كان ذلك اقتفاء لأثر نبويّ يبدأ من العناية بتأليف قلوب الناشئة ليصل إلى انتظام عدد منهم في ظاهرة « القُرّاء» التي عرفها المسلمون في فترة التأسيس وظلّت قائمة حتى خلافة عمر بن الخطاب متراجعة بعد ذلك.
كان القُرّاء شبّانا اختيروا بتوجيهات نبوية ليحملوا كتاب الله والدعوة إلى رسالة الإسلام ونشر مبادئها وحماية الجماعة الناشئة في الجزيرة فانتشروا في مجموعات خارج المدينة في نجران وصنعاء وعُمان وأصيب بعضهم في «مذبحة بئر معونة». الأهمّ هو أنّهم تحوّلوا بعد وفاة الرسول إلى فئة مرجعية متميزة في الاجتماع الإسلامي إذ صاروا أهل الرأي والفتوى ممّا قدّمهم في المجالس وأخّر شيوخ القبائل ورؤوس الأحياء. بذلك كانوا تجسيدا لتحوّل اجتماعي عمل على قلب سلّم القيم بما أتاح للموالي والفئات المتدنية اجتماعيا آفاقا لتجاوز المنظومة القبلية الموروثة بكل ما تعنيه من تراتيب وقيم ومصالح.
7 - تفتح هذه المفاصل الثلاثة المتّصلة بمؤسسة الكُتّاب على مجالات تأسيس الذات واجتماعِيَتِها وإثباتها بما يتيح بحث إشكالية الحداثة والأصالة وصلتها بقيمة التاريخ والتطوّر. تبرز أهمية هذه الإشكالية، اليوم، عند النظر في وعي المثقّف والسياسي وهو يعالج مستقبل المؤسّسات الكبرى كالأسرة والمسجد والمدرسة والدولة. ما يجعل عددا من هذه المعالجات غير مَعْنِيٍّ بتاريخ تلك المؤسّسات وخصائصها وما رسّخته من قيم وأفكار وسلوكيات في الواقع والذاكرة الجمعية عدمُ التوقّف عند أسئلة العصر من قبيل: هل التاريخ البشري يسير بشكل منتظم نحو التقدم والسعادة؟ هل صيرورة التاريخ خاضعة للفعل الإنساني وحده أم أنّ هناك عقلا مطلقا يتجاوز الأفراد ويتعالى عنهم رغم علاقته بهم؟
وُثوقيةُ المثقّف والسياسي تُعرِض عن هذه الأسئلة وتُقبِل على مواقف ومبادرات وقرارات مُنْهِكة للأفراد والمجتمعات ومُفضية إلى الهزائم المُنكَرة. إنّه حصاد الاستهتار الذي سمّاه الفيلسوف الألماني هيڨل «مكر التاريخ».
ليس في هذا دعوة للاستقالةَ والرضا بالتفلّت من القانون والاستهانة بالدولة. إنما هي الاستجابة لمطالب العصر ببناء سلطة جديدة متّسقة تحلُّ محلّ السلطة السابقة وتتجاوزها في المقدرة والكفاءة من خلال القدرات الكامنة في الفكر والشخصية الذاتيين والمتمثّلة لخبرات الماضي ومؤسّساته. ذلك يتطلّب تحرّرا من الإطلاقات الإيديولوجية الرافضة للتعدّد والتعايش في اعتقادها أنّ التقدم خَطِيٌّ وواحــدٌ لا بديل له.
احميده النيفر
أستاذ جـامعي وعضو بيت الحكمة
- اكتب تعليق
- تعليق