تونــس الــرّقمــيّة بين الـواقع والـوعـود

تونــس الــرّقمــيّة بين الـواقع والـوعـود

تتصدّر دول شمال أوروبا قائمةَ البلدان الأكثر سعادة في العالم في التقرير الذي تنشره شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة سنويا منذ 2012 وفي التقرير السنوي للاتحاد الدولي للمواصلات ترِدُ هذه البلدان أيضا في طليعة الدول الأكثر نفاذا إلى تقنيات الاتصال الحديثة. لكن هذا لا يكفي وحده لتفسير سعادة شعوبها، لأنّ التقرير الأول يصنّف عوامل السعادة إلى نوعين: عوامل خارجية، منها الدخل الفردي ونوع العمل، وطبيعة المجتمع وأسلوب الحوكمة والقيم والعقيدة، وعوامل ذاتية منها الصحة النفسية والجسدية، والوضع الأسري والتربوي والنوع الاجتماعي والمرحلة العمرية. وكلّ هذه العوامل تتدخّل فيها تقنيات الاتصال الحديثة بنسب متفاوتة دون أن تكون المحدّد الأساس لجودتها، وهوما يعني أنّ امتلاك التكنولوجيا لا يفضي آليا إلى تحقيق الرفاه والسعادة ما لم يكن جزءا من تصوّر أشمل للتقدّم محوره الإنسان. هذا هو الاختبار الذي أخفقت في اجتيازه دول كثيرة منها تونس.

تاريخياً تعتبر تونس الدولة العربية الأولى التي استعملت شبكة الانترنت والرائدة في مجال التشريعات المتصلة باستخدام التكنولـوجيات الحديثة، من ذلك أنّها تأتي في مرتبة متقدمة عالميا في قائمة الدول التي جعلت من حماية المعطيات الشخصية حقا دستوريا منذ العام 2002، فضلا عن سنّ قوانين كثيرة لتطوير الاقتصاد اللامادي وتأسيس مجتمع المعرفة، وفي التقرير الشامل الذي يصدره المنتدى الاقتصادي العالمي حول التنافسية في الخدمات الرقمية انتقلت تونس من المرتبة 87 في العام 2014 إلى المرتبة 40 في العام 2018، ومن المرتبة الرابعة إفريقيا إلى المرتبة الأولى، فيما أصبحت الرابعة على المستوى العربي بعد أن كانت في المرتبة الثامنة. في مقابل ذلك أصبحت تونس في المرتبة 111 في التقرير العالمي للسعادة لسنة 2018 بعد أن كانت في العام 2012 في المرتبة 102، هذا التقهقر يتطابق والحالة المزاجية العامة التي تتأثّر بمختلف عوامل الإحباط النفسي المتّصلة بمقاييس المؤشر العالمي المادية، ومنها التضخّم المالي وارتفاع تكاليف العيش وتضاؤل المقدرة الشرائية، فضلا عن تآكل البنى التحتية في قطاعات النقل والتعليم والصحة والبيئة، وتراجع الخدمات العمومية وارتفاع منسوب العنف وانتشار الجريمة المنظّمة. وكل ذلك يفضي إلى انعدام الثقة واستفحال التوتر الاجتماعي فيما بين المواطنين أنفسهم من جهة، وفي علاقتهم بالحكومة من جهة أخرى، ويتطوّر الأمر إلى فقدان الثقة في المستقبل.

لقد وضعت ثورة المعلومات عند انطلاقتها دول العالم جميعها على خطّ واحد وأتاحت للبلدان العربية النامية فرصة من الصعب أن تتكرّر لتذليل الفجوة الحضارية، وقد استشرف تقرير نشره برنامج الأمم المتحدة للتنمية العام 2002 ملامح الفجوة الرقمية في القرن الحادي والعشرين بالإشارة إلى أنّ ما ترجمه العرب منذ عصر الخليفة المأمون بالكاد يساوي ما يترجم في إسبانيا وحدها خلال عام واحد!  وذلك عائد إلى عجز السياسات الوطنية في العالم العربي على تثمين تراثها الثقافي في العصر الرقمي بشكل فعال، لكن تعصير الخدمات العامة بتكريس الحوكمة الذكية ليس خيارا بل ضرورة حتمية لتطوير البنية الاقتصادية والحياة الاجتماعية وتحسين المزاج العام باعتبار الإنسان هو النواة الأساس لثورة المعلومات.

في البلدان التي تتصدّر المراتب الأولى في مجالي التكنولوجيا والسعادة معا، تنعكس استخدامات الشبكة بشكل آلي ومباشر على نمط الحياة اليومية، وتتعدّد النماذج الدّالة على ذلك، بل بلغ التجريب في بعض الدول حدّ الإبهار باستخدام طائرات دون طيار لإيصال الوثائق الإدارية إلى بيوت أصحابها بعد استخراجها الكترونيا عبر الهاتف! وأمام هذه المشاهد التي كانت منذ وقت قريب تنتمي إلى عالم الخيال العلمي تبدو التجربة التونسية بأرقامها وأسبقيتها التاريخية بلا قيمة حقيقية أمام الطوابير الطويلة في البنوك ومراكز البريد وساعات الانتظار أمام شبابيك الصناديق الاجتماعية، والأسابيع التي يستغرقها وصول وثيقة من المركز إلى إحدى الجهات، وغير ذلك من المشاهد المزرية التي يحفل بها يومنا والتي تدلّ على أنّ التكنولوجيا لم تجعل بعد حياتنا أفضل مثلما كان ينبغي أن تفعل.
الدراسات الاستراتيجية المنشورة حول الإدارة الذكية وتونس الرقمية على مشارف العام 2020 تمثّل خطاب نوايا أكثر من أن تكون خارطة طريق، فهي تتأسّس على جملة من المفاهيم الفضفاضة، كالحديث عن «هندسة خدمات الإدارة طبقا لحاجيات مستعمليها» و«دمج أنظمة المعلومات وتقاسم البنى التحتيّة المعلوماتيّة»، أو «تكريس انفتاح الإدارة وتعزيز الشفافيّة والتشاركيّة»، ومثل هذه الدراسات التقنية تغفل جملة من المعطيات الأساسية منها عامل الزمن، فالسرعة هي أهمّ ما يميّز العصر الرقمي، والوقت الذي تستغرقه عندنا مراحل دراسة الجدوى وتعديل التشريعات وتصميم المنصات بطيء لا يتناسب ونسق تطور التقنيات والبرمجيات عبر العالم. من هذه العوامل أيضا حاجة التجديد الرقمي إلى بيئة حاضنة ملائمة، فلا يمكن مثلا الحديث عن تجارة الكترونية وحكومة ذكية ومرفق إداري عصري دون النهوض بالقطاع البنكي بما يستجيب لمتطلبات التعامل الرقمي، وعند إغفال هذا المعطى يفقد الحديث عن التطوير قيمته، وقد يصبح أحيانا مبعثا للسخرية كما يقع عندما تتحدّث وزارة التربية بحماس عن مشروع استخدام الكمبيوترات اللوحية بينما ما تزال كثير من المؤسسات التربوية تواجه متطلبات أخرى أكثر بدائية على غرار مشاكل الصرف الصحي والصيانة والحراسة. أما المعطى الأهم فهو العامل البشري فمن الضروري أن يكون المواطن النقطة المركزية التي تتصل بها كل عناصر التجديد الرقمي، والاستثمار في تعزيز مناخ الثقة وتكريس قيم المواطنة أهم بكثير من حشد الوسائل التقنية والبرمجيات الذكية، فلا معنى لأيّ تطوير إذا كان مجرّدا من القيم الإنسانية ولم يكن هدفه النهوض بالإنسان.

والتجربة الدنماركية تؤكّد ذلك، ففي استطلاع حول الأسباب التي تجعل الدنماركيين من أسعد شعوب العالم أكّد المستجوبون أنّ الأمر يتعلّق بالثقة قبل أي شيء. فالثقة بين الناس عامل مهمّ لتحقيق الأمن والطمأنينة، والثقة بين الشعب والحكومة عامل مهمّ لتحقيق الرضى، والمواطن الذي يدفع الإتاوات العالية المحمولة عليه بلا تذمّر يفسّر ذلك بقوله: «نحن لا نشكّ في أنّ الضرائب التي ندفعها تُصرف في تطوير المرافق العامة وتعود علينا جميعا بالنفع». هكذا تعطينا التجربة الدنماركية تصوّرا للسعادة يقوم على ثلاثة عناصر أساسية لا يمكن معالجة الفجوة الرقمية في معزل عنها: التّقدم والثقة والوعي.

عامر بوعزّة

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.