تحيّة للجامعة العربيّة: معقِل العمل العربي المشترك وأداة سياسيّة وحضاريّة
كانت الجامعة العربيّة قد بانت عن هذه الربوع، بعد ضيافةِ عَقدٍ من الأعوام: احتضنها مَنٍ انعقد الإِجماعُ على اعتباره «المجاهدَ الأكبر». والجامعة اليوم، في ضيافةٍ خاطفة، يستقبلها أحدُ أَبرزٍ أبنائِه، وصاحبُ النِّداء المسموع إلى إِحياء جواهر التراث البورڤيبي: وهو كذاك مَن كان له باعٌ في رسم سياسة تونس الخارجيّة؛ ويُؤيّده، اليوم، أملُ الكافّةِ، بأن يكُون له إسهامٌ بارعٌ – مع سائرالقادة زملائه – في تذليل العقبات التي تعترض العملَ العربي المشترك.
للأخ الصديــق، الأستاذ الباجــــي، ثالــثِ رئيسِ الجمهوريّة الثانية، في عهد «ثورة الحُرّية والكرامة »؛ وأزكى التحيّات إلى سائر قادة دُولنا؛ ولا يمكن أن لا نُعَبّر عن أسفنا إن لم تتّفق كلمة قادتنا على صيغة ما لإرجاع الشقيقة سوريا إلى أسرتها التاريخيّة الحضاريّة.
ولعلّهم يهتدون، في هذه القمّة إلى ما يفتح السبيل إلى ذلك. إنّ المجموعة العربيّة، دُولا ومجتمعات، تَشهد، اليوم، جُملة من الأوضاع السلبيّة، ناتجٌ أغلبها، عن التخلّف، الذي عانت منه، مدّةَ قرونٍ طويلة.
وفي هذا الصدد، نذكر أنّنا، منذ أوّل شبابنا، كُنّا نسمع، في الأوساط السياسيّة، مَن يقول إِنّ العرب يُواجهون صِعابا غيرَ مسبوقة، قد تَنسِف معالم انتمائهم الحضاري: فتأتي على ما بينهم من روابط الأخوّة، وأواصر التعاون.
ونذكر أنّ هذه التخوُّفات كانت تُساوِر المتحدّثين، كُلّما دخلَت دولةٌ هامّةٌ مِن المجموعة العربيّة، في مُنعَطَف، من أحوالها، مُستعصٍ عن الحُلول الكفيلة بتجاوزه: وأخُصُّ بالذِكر ما حصل، عند المواجهات التي قامت بين مصر وإسرائيل – اعتبارًا لِلدور المحوري الذي تضطلع به دولتُنا الكبرى، داخل أمّتها.
أمّا »قضيّتنا المركزيّة«، فكُلُّ قرار تتّخذه الدُول العربيّة، كانت إسرائيل تستغلّه، للتوسُّع على الأرض، مع زيادة توطيد الدعم الدُولي، الذي تستأثر به، رغم ما ترتكبه من مظالم، في شتّى الأحوال.
ذلك أنّ ما حَسِبناه من وُجوه الدفاع عن فلسطين، فغالبا ما كان يعتبره الرأي العام السائد في العالم، مُخالفا للشرعيّة الدُوليّة؛ إضافة إلى أنّه أفضى، في العديد من مجتمعاتنا، إلى ظهور قُوَى تَدمير، لِما تطلّب تشييدُه سنواتٍ وأموالا؛ وبسببه أيضا، انخرم الكثيرُ من علاقاتنا الدُوليّة، كُنّا أردناها لمساعدتنا على تطوير طاقاتنا الاقتصاديّة، وتركيز عوامل النهوض في مجتمعاتنا: فإذا نحن يُنظَر إلينا على أنّنا مستودَعٌ لقُوَى إرهابيّة، تطُول الكثيرَ من الدُول الأجنبيّة. أمّا الشعب الفلسطيني، فضحيّةٌ لِكلٍّ لما يُمْكن اعتباره اضطرابًا عربيّا في التخطيط، وأيضا – والحقّ يُقال – لِغياب الوفاق المتين الدائم، بين فصائله المناضلة : فبعضُه باقٍ تحت نِير الاحتلال الإسرائيلي، وجُموع منه في شتاتٍ، بين العديد من أقطارنا: فلا هو مُضطلعٌ بحُكمِ نَفسِه، ولا هو مُرخَّصٌ له في الاندماج في الشعوب الشقيقة.
وتمُرّ الأيّام، وتتوالى التقلُّبات، لكن «دِيار العروبة» باقيةٌ على أغلبِ أحوالها: بل إنّ أسبابَ الجَزَعِ والقلقِ تفاقمت، من أزمة إلى أخرى، إلى أَنْ انتابنا ما لا يزال قائما، من دواعي الفُرقة، منذ نكبة الكويت العزيز؛ فهذه جَمهرةٌ من مجتمعاتنا – وبعضُها مِنَ التي، منها، انطلقت عُروبتُنا والإسلام – تشهد اليومَ صِراعاتٍ داخليّة، أدّت إلى تدخّلِ قُوًى أجنبيّة، ما فتِئَ الغموضُ يلُفُّ أعمالَها، وأهدافَ استراتجيّاتِها.
وبانتشار القِوى الهدّامة، في الكثير من الفضاء العربي – ومنها ما أصبح مُتاخِما لحدودنا – فإنّ العجزَ، عن القيام بواجباتنا الإنمائيّة، أصبح سِمَةَ مجتمعاتِنا الغالبة، رغم قيامِ مُنظّمات – قوميّة وجهويّة وقِطاعيّة – من صنعِ أجيالٍ من أعلَى نُخبِنا التاريخيّة، بعضُ زعمائها لا تزال تلمع أسماؤُهم في ذاكرتنا، إلى يوم العرب هذا. والقمّة التي تجمع رؤساء دُولنا، في تونس الثورة، نَأمُل أن تتمكّن من إنقاذ العمل العربي المشترك، من السلبيات التي كثيرا ما أَقعدته عن القيام بالبعض من وظائفه القوميّة، وخاصّة منها التي تتعلّق بالنهوض بمجتمعاتنا، حضاريًّا.
ولا بُدّ لقادتنا من الاقتناعِ بِأنّ خدمةَ مصالحِ الدُول الأعضاء، من قِبَل منظّمتنا القوميّة، لا تستقيم دُون اهتمام راسخٍ بأسباب النهوض الحضاري، لِمجتمعاتِنا: فهو رباطُها الأوثق، بينَها؛ ولكن، لا يُمْكن أن يقوم في ظلّ أوضاع، تعود إلى عهودِ التخلّف والجهل والانغلاق – تلك التي أبعدت أغلبَ شعوبِنا عن أصول حضارتِهم المُشرقة، فجعلتهم في غفلةٍ عن الأخلاقيّات والاجتماعيّات، المصاحبة، وجوبا، للعبادات الدّينيّة؛ ذلك أنّ الإيمان مُقترنٌ، دوما، في القرآن، بالأعمال الصالحة: مِصداقَ قولِه تعالى: «والذين آمنوا وعمِلوا الصالحات أولئك أصحاب الجَنَّة».
ولكنّ العنايةَ بالنهوض الحضاري، لِمجتمعاتنا، تقتضي إعادة النظر في ركائز العمل العربي المشترك: فلا ينبغي أن تكُون مقصورةً على الشؤون السياسيّة؛ بل الأولويّةُ فيها يجب أن تكُونَ لإِجلاء المقاصِدِ، التي أتت بها حضارتنا العربيّة الإسلاميّة، في سبيل النهوض بالمجتمع، عامّةً، وتطويره الدائم. وإنّما بذلك يكُون العمل العربي المشترك، لا فقط أداةً سياسيّة، في خدمة دُولنا، بل، أوّلا وقبل أيّ اعتبار آخر، أداةً حضاريّة، بها تنعقِد لُحمةُ مجتمعاتِنا: أمّةً مترابطة التواريخ، ومتضامنة التطلّعات.
لكنّ إجلاء مقاصد حضارتنا العربيّة الإسلاميّة، من أجل النهوض بمجتمعاتنا، لا يكُون بالرجوع، القهقرى، إلى الماضي، بِبَعثِ تنظيماتٍ متقادمة – كما يعتقد ذلك الكثيرُ من أصحاب التيّاراتِ التي لقّبها الغرب بـ«الإسلاميّة»؛ إنّما النهوض الحضاري يكُون بتأصيلِ مجتمعاتِنا في جُملةِ الواجبات الأخلاقيّـة والمناقب الاجتماعيّة، التي قامت عليها حضارة الإسلام، وبها انفتاح سُبُل المستقبل الأفضل للبشريّة قاطبة، ونخُصّ منها بالأولويّة أن يكُون، على رأس وظائف التعليم، لدى الشباب، سلطانُ العقل، ونفوذُ القيَم الأخلاقيّة – في كنفِ أريحياتٍ مُشرقة مِنَ الغيب، لا غِنَى عنها لأيّ مجتمع. وإقامة هذه الوظائف تقتضي تنظيمَ علاقات التعاون، بين دُولنا، بما يُثبِّت دعائمَ السِلم بينها، داخليّا، وبما يٌرسِّخُ واجباتِ السلام، بينها وبين سائر الدُول، من حَولها.
وخلاصة القول، فإنّ المسؤوليات، التي ينبغي أن يضطلع بها العمل العربي المشترك، تبدأ بتضافر الجهود العربيّة، لإطفاء نار الإرهاب، التي تكاد تعمّ الفضاء العربي: مع الوعي الرشيد أنّ إطفاء نِيران الإرهاب يكون باستعمال وسائل أمنيّة، للضرب علـى الأيدي الجانية؛ لكن يكُون، وُجوبا، بإزالة ما يتأجّج في الصدور، من طموحات معقولة وحاجاتٍ مشروعة: مع اعتبار أنّ الوسائلَ الأمنيّة والطُرقَ الاجتماعيّة، بينها تكاملٌ، لا بدّ منه لبلوغ أهدافنا الشاملة.
ثمّ إنّ مسؤوليات العمل العربي المشترك تفرض الاهتداء إلى سُبُلِ توثيقِ التسايُرٍ الإنمائي، بين أقطارنا، في كامل الفضاء العربي، لِجعل مجتمعاتِنا، دوما، أكثرَ تلاحُمًا، وأقربَ إلى معاني الأمّة. كما أنّ التعامُلَ، بين دُولنا وبين الدُول الكبرى، يقتضي وفاقًا عربيًّا، على اعتناقِ صيغٍ مشتركة، كفيلة بحفظ سيادة كُلّ دولة من دُولنا، وخدمةِ مصالح مجتمعاتنا، كافّةً. لكنّ الواجب، الذي له الأولويّة المُطلقة، في كلّ الأحوال، إنّما هو السعي الجماعي، لإنهاءِ الخصومات بين دُولنا، بالتي هي أحسن؛ وذلك، لا فقط لاعتبارات أخلاقيّة، بل أيضا لسدّ الفُرص، أمام أصحاب الأغراض، الهادفة إلى التآمر، على وحدة أمّتنا العربيّة. وأخصّ بالاهتمام المِنطقةَ التي جُعلت محفوظةً في طعامها وأمنها – والنّاسُ مِن حولها، تتخطّفهم البلايا.
ولِيتمّ قِيام العمل العربي المشترك بوظائفه اللاّزمة، على الوجه الأكمل، فلا بدّ من توسيع دعائم منظّمتنا الأمّ: فتكُون اهتماماتها شاملة، معًا، لِنهوض المجتمعات، حضاريًّا، ولِصيانة مصالح الدُول، أمنيّا فيَقوَى باعُ دُولنا، بما تبلُغه مجتمعاتُنا من نهوض عِلمي وثقافي؛ ويَقوَى أمنُ مجتمعاتِنا، بما تُحقّقه دُولنا من قُوى ذاتيّة، من ابتكار عقول أبنائِها، بفضل ما كان شمِلَ تعلُّمَهم من مناقبَ حضاريّة.
وبذلك نُسفِّه رأي مَن يَدّعي أنّ الجامعة العربيّة لم تعُد قادرةً على التفاعل مع قضايا العصر: فنُقيم الدليلَ على أنّ مُنظّمتَنا القوميّة قادرةٌ على توسيعِ صلاحياتِها المركزيّة، بالنهوض الحضاري، إضافةً إلى الاهتمام بالقضايا السياسيّة. فتحيّة عالية لِجامعتنا العربيّة، مشفوعةً بخالص التقدير لأمانتها العامّة : تعبيرا عن ثقتنا بمصير العمل العربي المشترك، وإيمانا بأَهليّتِه الدائمة للتفاعل الإيجابي، مع مختلف القضايا، السياسيّة منهـــا والحضـــاريّة.
الشاذلي القليبي
الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية
- اكتب تعليق
- تعليق