منجي الزيدي: الأسرة والتربية على الحوار
يشهد المجتمع التونسي في هذه المرحلة من تاريخه انتشار ظواهر اجتماعية سلبية متفاوتة الخطورة، بدءًا من التجاوزات والانحرافات وصولا إلى الإجرام المنظّم وتهديد السلم الاجتماعي. و لعلّ من أخطرها تلك التي تستهدف الأطفال أو تلك التي يقوم بها صغار السّن أنفسهم. من ذلك مثلا قيام مجموعة من الأطفال يتزعّمهم طفل لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره منذ أيام بتخريب مدرستهم ليلا بعد تسوّرهم لسياجها كما يفعل اللصوص. والحادثة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة حتماً، ولكنّ السؤال هو لماذا الأطفال وأين أولياؤهم؟
يمكن القـــول بشكــل عام إنّ وتيرة انتشــار هذه الظواهر تعود إلى أسباب عديدة ومختلفة منها ما هــو مرتبــط بالظروف والتحوّلات ومنها ما هو مرتبط ببنية المجتمع وطبيعة أداء مؤسّساته لوظائفها. وهنا يتّجه الاهتمام إلى الأسرة بوصفها المؤسّسة الأولى التي يقوم عليها البناء الاجتماعي بأسره.
لقد بات من المعلوم أنّ الأسرة هي من أكثر المؤسّسات الاجتماعية تأثّرا بالتغيّر الاجتماعي، وهي تشهد تحوّلات كبيرة في بنيتها وحجمها ووظائفها. ذلك أنّها توجد في قلب إشكاليات متناقضة. فلئن لا تزال الأسرة اليوم تواصل النهوض بمسؤولية الرعاية المادية لأبنائها وبناتها فإنّها تشهد تراجعا وتقلّصا لدورها التوجيهي ودرجة تأثيرها في تشكيل المواقف والتمثّلات والسلوك والخيارات، وهي بصدد فقدان بعض مقوّمات التنشئة لفائدة مؤسّسات وتشكيلات أخرى كمجموعات الأقران ووسائل التواصل الاجتماعي المعولم؛ فضلا عن التغيّر الذي شهدته مكانة الأب الذي تحوّل من موقع المتسلّط إلى موقع الغائب، وكذلك دور الأم التي باتت تنوء تحت أعباء متعـــدّدة داخــل البيت وخارجه.
وما من شكّ في أنّ الروابط داخل الأسرة تبقى من أهم المؤشّرات الدالّة على درجة تماسك هذه المؤسّسة وقدرتها على القيام بوظائفها التقليدية، وكذلك التأقلم مع التغيّرات والتحوّلات المتسارعة. ومن هذه الوجهة تبدو العلاقات بين أعضاء الأسرة التونسية اليوم على قدر من التماسك في جانبها المادي ضعيفة في جانبها التواصلي والتوجيهي. فإذا كانت صعوبة الاندماج المهني وطول أمد تحقيق الاستقرار الاجتماعي قد أطالت بدورها من أمد قيام الأسرة بدور الإسناد المادي والاقتصادي، فإنّ درجة التفاعل بين الأولياء وأبنائهم تشهد تقلّصا مستمرّا.
كثيرون هم الذين يشعرون بالغربة والعزلة داخل الأسرة وإن اجتمع أعضاؤها تحت سقف واحد. وكثيرون هم الذين لا يعرفون عن حياة أبنائهم خارج البيت الشيء الكثير. الجميع منهمك في عالم افتراضي خاصّ. الشاشات الذكيّة أقامت حواجز سميكة وغير مرئية بين المرء وذويه. الأسرة تكافئ أبناءها بهواتف ولوحات وتجهيزات الكترونية متطوّرة، وتجد فيها أحيانا وسائل لشغلهم والاحتفاظ بهم في البيت خشية مخاطر الشوارع. وبالمقابل لا تُكلّف نفسها عناء السؤال عمّا أبناؤها وبناتها بهذه الوسائل فاعلون.كما إنّهم لا يجتهدون لتنشئتهم على ممارسات متنوّعة، ثقافية ورياضية واجتماعية...ولا يبذلون الجهد في فتح مساحات للتواصل الداخلي لمواجهة سطوة العوالم المغلقة. أبناؤنا اليوم يعيشون داخل ما يسمّيه بعض علماء الاجتماع «ثقافة الغرفة» ويعاني الكثيرون منهم من حالة «إهمال عيال» ثقافي ونفسي.
من هذه الزاوية تبدو قنوات الحوار والتواصل داخل العائلات في مجتمعنا بحاجة إلى عناية أكبر. ذلك أنّ المراهقين يواجهون واقعا معقّدا تتجاذبهم فيه الخيارات والمغريات المتنوّعة، وتتقاسمهم المضامين المتناقضة، وتثقل كاهلهم الغضّ صراعات الكبار ونزاعات المرجعيات وتهاوي الرموز وغياب القدوة الاعتبارية...وكثيرا ما يشعرون بأنّهم في هذه المواجهة عُزَّلٌ ومعزولون وبأنّهم على وجوههم هائمون...
كم من يافع راح ضحيّة شعوره بالاغتراب داخل محيطه العائلي وبعدم قدرته على فهم واقعه وعدم قدرة الآخرين على فهم معاناته! استقالة الآباء والأمّهات وتخلّيهم عن أبنائهم وبناتهم وهم يقارعون المعضلات بغير سلاح سبب في كثير من المآسي.
نحن بحاجة إلى تربية الكهول على ثقافة الحوار والتواصل مع الناشئة. وهي مهمّة شاقّة، إذ تستوجب، قبل كل شيء، تنمية القدرة الذاتية على الإنصات إلى جيل مختلف، والتعامل معه بجديّة ونديّة، والاقتناع بأنّنا نتعلّم منهم مثلما يتعلّمون منّا.
والتربية على الحوار مهمّة صعبة تحتاج إلى الأسوة الحسنة والمثال الجيّد. حوار يواجه الفكرة بالفكرة والحجّة بالحجّة. حوار يتجاوز ليبني، يزيل العراقيل ليتقدّم...حوار قائم على أخلاقيات تُخلِّص المتحاورين من عقد النرجسية، وتكافح نزعة امتلاك الحقيقة المطلقة والمعرفة التّامة والتعصّب للموقف، وتُعلي قيمة الشّجاعة على النقد الذاتي والاعتراف بالخطأ والاعتذار... وطلب النصيحة.
والتربية على الحوار تستوجب إصلاحا لغويا، حيث أنّ لغتنا الاجتماعية المتداولة أفسدتها بعض وسائل الاتصال بمفردات قبيحة وهجينة وسمجة. سجّل «الراب» أصبح المعجم الاجتماعي المهيمن، وهناك اتّجاه نحو استيعابه بدعوى قبول لغة الشباب وثقافة الشباب. إنّ مخاطبة الشباب بلغة قريبة منه ليست أمرا موضع خلاف، ولكن يجب أن لا تتحوّل لغة الشوارع و أغاني «ما تحت الأرض» Underground إلى مرجعية ثقافية ولغوية وحيدة... المسؤولية الملقاة على عاتق الجميع هي تعليم أبنائنا وبناتنا انتقاء المفردات الجميلة والمهذّبة.. إنّها التربية على الكلمة الطيبة التي يكاد زيتها يضيء وإن لم تمسسه نار.
والتربية على الحوار هي في الأصل تربية على الديمقراطية، فمجتمعنا في مرحلة بناء ديمقراطي لن يكتب له النجاح والاستمــرار ما لم تبذل المؤسّسات الاجتماعية مجهودا أكبر لترسيخ الديمقراطية سلوكا يوميا. فلا مجال اليوم للعلاقات التسلّطية والرقابية العمودية، كما لن يفلح المنع والزجر والوصاية الأبدية، ولن ينجح التشدّد والتمترس وراء الأفكار الجاهزة والثابتة. إنّ السلوك الديمقراطي سلوك شجاع لأنّه يقبل الآخر المختلف ولا يضجّ به ويحدّ من غلواء الذاتية والتفرد.
منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس
- اكتب تعليق
- تعليق