الباجي قايد السبسي في خطاب المكاشفة والمغازلة هل هو شعار "الإنتخاب المفيد" بدأ يُطبخ من جديد

الباجي قايد السبسي في خطاب المكاشفة والمغازلة هل هو شعار "الإنتخاب المفيد" بدأ يُطبخ من جديد

نادرا ما يصادفك أن تسمع خطابا لرئيس دولة عربية بالذات والتحديد، وتجده مبنيا على تخطيط وتماسك لايخفيهما طابع الإرتجال الظاهري المتوخَّى لعرض ما يتضمنه من أفكار. وهذا ما وجدته في خطاب الباجي قايد السبسي رئيس الدولة التونسية، المطول والهام والخطير، الذي ألقاه  بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثالثة والستين لإعلان استقلال البلاد، وإن غابت عن البلاد مظاهر الاحتفال الشعبي الشارعي، تماما مثل السنوات السابقة الأخيرة!

أوّلا في باب الأرقام:  لقد عرض رئيس الدولة على متابعي خطابه أرقاما مفزعة، اتفق على صحتها محافظ البنك المركزي ووزير المالية،عن تدهور الوضع الإقتصادي والمالي للدولة التونسية باستمرار إلى أدنى الدرجات الكارثية، منذ 2011 وإلى اليوم.

فالتضخم المالي الذي كانت نسبته في 2010 تقدر بـ 4 فاصل 4% أصبحت في 2018 تقدر بـ 7 فاصل 3%. ونسبة التداين العمومي التي كانت 40% في 2010 قد وصلت إلى 71 فاصل 7% في 2018. وهو ما يفوق الرقم الذي حدده الخبراء سقفاً، كما ذكر رئيس الجمهورية، لاتقبل عنده أية دولة أو جهة إقراضنا، وهو 70 فاصل 7%.

أما عن مواردنا الطاقية، وهي الفوسفاط والبترول والغاز، فإن إنتاجنا ومداخيلنا منها قد شهدت هي الأخرى تدهورا فظيعا منذ 2011 وإلى الآن. ففي ميدان الفوسفاط وحده كانت الكميات المنتجة في 2010 تقدر بـ 8 ملايين طن، وأصبحت الآن 3 ملايين فقط سنويا. كما كانت مداخيل الدولة منها مليارا و474 مليون دينار فأصبحت الآن 3 ملايين دينار فقط! وفي 2010  كان عدد العمال في هذا القطاع 9 آلاف ونيف، وإذا به يقفز الآن إلى أكثر من 23 ألفا.

وفي ميدان البترول، كان الإنتاج يغطّي 93% من حاجيات البلاد، فأصبحت التغطية الآن تقدر بـ 43% فقط من الاحتياجات الوطنية!

وضع البلاد إذن كارثي بأتم معنى الكلمة. وقد بدأ في التدهور منذ 2011 واستمر فيه تفاقما عاما بعد عام، بناء على توصيف رئيس الدولة ذاته استنادا إلى أهل الأختصاص والخبراء أهل الذكر في الميدانين الأقتصادي والمالي!

أكثر الأسئلة إلحاحا بعد استقراء هذه الأرقام، هي التالية:

  • أهذه أول مرة يعلَم فيها رئيس الدولة بهذا الوضع الكارثي للدولة وللبلد؟ المفروض أن تكون الإجابة لا!
  • إذن ماذا كان قصده بطرح هذه الأرقام المفزعة والمعروفة سلفا وسبق تكرارها على ألسنة الخبراء في مناسبات عديدة مرفوقة بتحذيرات حمراء من مغبة تجاهل المخاطر المحدقة بالبلد جراء الأستمرار في سياسة الهروب إلى الأمام التي تسلكها منظومة الحكم القائمة، مثلما سلكتها المنظومات السابقة المتعاقبة؟. وقد اشتركت جميعها، ومازالت، في مسؤولية إيصال البلاد إلى ما وصلت إليه؟.. من الواضح أنّ رئيس الجمهورية أراد أولا تأكيد صفة الفشل على حكومة يوسف الشاهد المدعومة من حركة النهضة، وعلى الحكومات التي سبقتها وكانت حركة النهضة العمود الفقري فيها، باستثناء حكومة الحبيب الصّيد التي سلمت عهدتها في 2016 بنسبة تضخم قدرت لأول مرة في بحر السنوات الثماني الماضية، بـ 3% فقط، مثلما جاء في عرض رئيس الدولة!. فقط؟ ليس بعد!
  • اللوم إذن يطال الجميع، وربما يتعداه إلى المحاسبة أيضا؟، وإن كان هو، أي الرئيس، ينفيها عن مقصده! الإجابة تكون ، هو كذلك! ولكن باستثناء الرئيس الباجي قائد السبسي نفسه، مثلما يُستخلص من منهج العرض الذي اختاره بمهارة سياسيٍ ومناورٍ محنك. فهو من يرى في نفسه القدرة على ابتكار الحل المنقذ للبلد مما أطلق عليه "المأزق" الذي تردت فيه. وهو رجل الدولة الباقي من العصر الذهبي في وقت عزّ فيه رجال الدولة وكثر فيه السياسيون المتسابقون على الترشح للانتخابات، مثلما جاء على لسانه، حيث قال "إنّ رجل الدولة يفكر في مصلحة الأجيال القادمة، فيما السياسي مشغول بالانتخابات"!
  • فما هو هذا الحل السحري الذي يملكه رئيس الجمهورية لإنقاذ البلاد؟ إنه العود إلى الوحدة الوطنية التي قال إنّه حققها مع حركة النهضة، وقال إنهما قطعا شوطا مهما في ظلالها ثم ذهب ريحها، وتفرق شملها، بسبب ومن غير سبب..
  • ولكن هل يمكن لمكونات هذه الوحدة الوطنية مثلما يراها رئيس الجمهورية، باعتباره مهندسَها، وبعد التشخيص الذي قدمه في خطابه للسقطات التي ارتكبتها والتي أوصلت البلاد إلى الهاوية وليس إلى حافتها فحسب، يمكن أن يصح منها العزم وتنخرط في مشروع إصلاحي جدي، رآه رئيس الدولة سهلا وممكنا لتحقيق الإنقاذ المنشود؟
  • ثم هل إن مغازلته ليوسف الشاهد رئيس الحكومة، الذي دعاه إلى العودة إلى حضنه الأول ووضع اليد في اليد ولراشد الغنوشي رئيس حركة النهضة، الذي أعطى حركتَه الحقَ في اعتماد المرجعية الدينية ولكن بالإرتقاء إلى تغليب مصلحة الوطن. ولكل شتات وفصائل الدساترة، وقد كرر بتباهٍ أنه دستوري وأنه يقوم باستشارتهم ولبقايا اليوسفيين، وقد عظّم قدر الزعيم صالح بن يوسف ومن تضحياته الجسيمة، سجنا ومنفىً، ومن خصاله العالية كزعيم دستوري كبير.. هل إن كل تلك الورود والمغازلات التي توج بها خطابه للتسويق لمشروع الوحدة الوطنية القديم الجديد، كفيلة بحل مشاكل البلد.. أم هي حيلة سياسية جديدة لخطة انتخابية يرفع فيها من جديد شعار "الانتخاب المفيد"؟؟
  • ثم هل تلبي تلك الخطة طموحات الشاهد؟ وهل هي تدفع حركة النهضة إلى تعديل خطتها القائمة على مواصلة التمدد من أجل التمكين النهائي؟
  • وهل إنّ تنقيح الدستور الذي قال إنّه أعده وسيعرضه للنظر والمصادقة من أجل تدعيم وترسيخ الدولة المدنية وعلوية القانون، سيوحد الصفوف ويزيل مخاطر الانشقاق والفرقة حول مفهوم الدولة ونمط المجتمع ويطلق مسيرة الإصلاح على أرض صلبة وعلى طريق آمنة؟
  • وأخيرا، هل يصدق الشعب التونسي بمواطنيه ومواطناته الذين ذاقوا الأمرين في ظل منظومات الحكم المتعاقبة طيلة هذه السنوات العجاف الثمانين، هذه الوعود القديمة المتجددة وقد خبروها وتجرعوا علقمها؟
  • وخاتمة الكلام والسؤال، إذا تم للباجي قايد السبسي ما يريد، وقد بدأت بالأمس بعيد الخطاب أولى تصاريح التأييد لدعوته، مع تحديد بعض الشروط، وتنشأ كتلة انتخابية من "حزب تحيا تونس" وحزب "نداء تونس" وبقية الروافد الدائرة في فلكيهما، من دساترة وغيرهم، هل ستضع القوى التقدمية "الملح في عينيها" وتلم شتاتها وتقدم التنازلات الضامنة لتكوين كتلة تنافسية عتيدة، أم ستواصل عنجهيتها وتطاوسها تحت تعلات واهية؟ الغالب ذلك ماسيقع!
  • إذن، يبقى على تلك المبادرات المواطنية ذات التوجه الديمقراطي الاجتماعي، أن تلم شتاتها من ناحية وأن تبحث عن أقوم المسالك لتجسير العلاقة مع الكيانات السياسية القريبة منها في الرؤية لإنشاء كتلة انتخابية ذات مشروع سياسي وطني إصلاحي للمدايين، القريب والبعيد!
  • أما الحل الحقيقي فلن يأتي إلا بأيدي المواطنات والمواطنين، والشباب منهم بالذات، عندما يقومون بالتسجيل في سجل الناخبين ويُقبلون بكثافة على الإدلاء بأصواتهم يوم الانتخاب.
  • وبكلمة، لا صفة تصح على كل حزب أو كيان سياسي يرفع شعار التقدمية والديمقراطية الاجتماعية من خارج منظومة الحكم، ولا يقدم التنازلات من أجل إنشاء كتلة عريضة تتبنى مشروعا سياسيا تقدميا لإنقاذ البلاد، سوى صفة خيانة الأمانة وخيانة الوطن!

مختار اللّواتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.