خليل العميري: من معركة التأسيس الى معركة الحوكمة: مفهومان للحرية وثورة في منتصف الطريق

خليل العميري: من معركة التأسيس الى معركة الحوكمة: مفهومان للحرية وثورة في منتصف الطريق

 بقلم د. خليل العميري (*) حقّقنا بفضل الثورة قدرا كبيرا من الحرّية وهذا مكسب جلل لا ريب، فلا معنى للوجود الانساني بدون حرّية.وإذاما اعتمدنا المفهوم المزدوج للحرية عند الفيلسوف الروسي-البريطاني ازايه برلين، يمكن ان تصبح الحرية عنوانا للثورة التونسية اذ تحمل بين معانيها مقومات الكرامة أيضا. ففي مفهومها السلبي حسب برلين، تتمثل الحرية في ازالة المعوقات والحواجز وتعادل عدم تدخل الآخرين اعتباطياً في ممارستنا لحقوقنا الطبيعية من حرية ضمير وفكر وتعبير وفي هذا البعد يمكن أن نعبّر عنها بـ«الحرية من». أما في معناها الإيجابي، فيتلخص مفهومها في تمكيننا من تحقيق ما نطمح اليه من مشاريع واهداف بقدر ما يتطلبه ذلك من تدخل ومساندةالاخرين، ويمكن ان نعبّر عنها حينئذ بـ«الحرية في». فحرية الابداع مثلا لا تتحقق بمجرد إزالة الموانع امام ممارستها فحسب، وانما كذلك بتوفير المستلزمات من تأطير وموارد وفضاءات، كما ان تفعيل حرية المبادرة الاقتصادية تحتاج الى ضمان النفاذ الى التمويل والمساواة امام الفرص.وبهذا المعنى، نكون قد حققنا في السنوات الاخيرة البعد الاول للحرية من خلال ازالة القيود على حرية الفكر والتعبير والاعلام ولم نحقق بعد الثاني بما يعنيه منتمكين للأفراد وتحرير للطاقات.

ويعتمدالبعد الثاني للحرية على تحقيق هدفين أساسيين، يتعلّق الاول بتطوير قدرتنا على صياغة برامج وسياسات مجدّدة ويتمثّل الثّاني فيتنفيذها بنجاعة.ويتطلب الهدفُ الأولالنهوض بقدرة الاحزاب علىتطوير المضامين لترتقي منمستوى الشعارات والاهداف الىالسياسات العمومية القابلة للتنفيذ والمعتمدة على المعطيات الموضوعية والدراسات العلمية. ولا يتحقق هذا الا بانفتاحها على دور الفكر ومؤسّسات انتاج المعرفة واستقطابها لأفضل الكفاءات، علاوة على النهوض بجاذبيتها من خلال تطوير حوكمتها الداخلية بما يخلّصها من الزّبونية ويكرّس الديمقراطية الفعلية داخلها.كما يتطلب تحقيق هذا الهدف النّهوض بوعي الفرد وقدرته على تقييم مضامين البرامج من خلال توفير المعلومة الدقيقة وتأطير منابر الحوار في وسائل الاعلام حول الرّؤى والبرامج ويمكن تلخيص أهم رهانات هذا الهدف في النهوض بحوكمة الاحزاب ومؤسسات الاعلام العمومي.

وأمّا الهدف الثّاني والمتعلّق بالنّجاعة في تنفيذ السّياسات والبرامج فيتطلّب النّهوض بحوكمة مؤسّسات الدولة. ويتعلق مصطلح "الحوكمة" باليات اتخاذ القرار ومتابعة تنفيذه. وترتبط بذلك الحوكمة ارتباطا عضويا بنجاعة النّظم الديمقراطية. فاذا كانت المسائلة جوهر الممارسة الديمقراطية فلا يمكن أن تقف عند مسائلة الأحزاب ابّان المواعيد الانتخابية حول الخيارات العامة فحسب بل يجب أن تمتد الى الجوانب التنفيذية كذلك. فبذلك فقط تُغلَقُ"دائرة المسائلة"والمتكونة من ثلاثة عناصر أساسية ألا وهي المواطن والقيادة السياسية والإدارة. وتهدف المسائلة الى "تقييد السلطة" استنادا لقاعدة أساسية جوهرها أن أي تفويض للسلطة دون تقييم ومحاسبة يؤدي الى الانحراف بها عن خدمة الصالح العام تجسيدا لمقولة اللورد أكتون "السلطة المطلقة مفسدة مطلقة".وتنطلق دائرة المسائلة من المواطن الذي يُفَوّضُ القيادة السياسية الحكم على أساس برنامج انتخابي والتي تُكلّفُ بدورها الادارة بتنفيذ ما تعهدت به من برامج بعد أن توفّر لها الموارد المستلزمة وتخضعها لاليات المسائلة الداخلية.وتنتهي الدائرة مجدّدا عند المواطن بصفته "الحريف" الذي تستهدفه الخدمات العمومية والمعني بتقييم ما أنجز على أرض الواقع. ولضمان نجاعة هذه الدائرة يجب أن تكون حلقات التعاقد والمسائلة متماسكة ومتصلة انطلاقا من تعاقد احزاب الائتلاف مع الحكومة مرورا بتعاقد الحكومة مع الهياكل الخاضعة لها وانتهاء عندتكريس ذلك صلب هياكل التنفيذ على امتداد التسلسل الاداري.

ومن أهم النقائص التي تقف عقبة امام النهوض بعديد القطاعات في بلادنا هو ضعف هذه الاليات والتي نحتاج الى تطويرها عبر تحديث منظومة التصرف بحيث تُحدّد أهداف كل ادارة ضمن مخطط استراتيجي مُحكم على أن يُعتمد التقدُّم في انجاز هذه الاهداف أساسا للتقييم والتحفيز. ويرجع تأخرنا في هذا المجال الى ضعف تقاليد وقدرات التخطيط الاستراتيجي وبالتالي غياب أسس التكليف الواضح للاعوان العموميين من جهةوأطرالتقييم الموضوعي للمردود منجهة أخرى،هذا علاوة على افتقارنا الى منظومة تأجير حسب الاداء تحفز على العطاء والتميز. ورغم تعطل عدد من الإصلاحات ذات العلاقة لاعتبارات متعددة، الا ان بناء القدرات في هذا المجال يتقدم بنسق حثيث في عدد من المؤسسات. كما تستوجب الحوكمةان تلتزم النقابات بدورها في الدفاع عن مطالب الشغالين الاجتماعية دون ان يتداخل هذا الدور مع مهام سلطة الاشراف في حسم الخيارات ومضامين السياسات او مع مهام الادارة في تسيير المرافق. وذلك باعتبارها لا تمثل سوى فئة من جملة المعنيين بهذه السياسات، ولا يمكن ان تكون الطرف المهيمن على صياغتها، كما انها غير مسائلة من طرف الناخب بخصوص نجاح أو فشل الخيارات. ويؤدي انحرافها عن دورها الى اختلال دائرة المسائلة من خلال ممارستها لصلاحيات دون أن تخضع للمحاسبة من عامة المواطنين.

ويزداد تكريس المسائلة تعقيدا بسبب "اشكالية التفويض" (agency problem)، والتي تتمثل في تباعد مصالح المسؤول (من فُوّضَ له تمثيل المصلحة العامة) ومصالح من فَوّضهُ لذلك المنصب (المواطن) مما قد يدفع المسؤول لتغليب منفعته الذاتية على المصلحة العامة عند اتخاذه للقرارات الهامة، ومما يفتح الباب لاصحاب النّفوذ للسيطرة على دواليب الدولة وارتهانها. وللحد من انعكاسات هذه الاشكالية، خلصت التجارب الى ضرورة وضع اليات لضمان الرّقابة المستمرة على المسؤولين طوال عهدتهم، وذلك من خلال اليات تضمن الشفافية والرقابة وتوسيع المشاركة في أخذ القرار. وتعكس هذه الاليات الاضافية اقرارا بمحدودية المسائلة الدورية ابان الانتخابات في ضمان التصرف الرشيد في الشأن العام، وذلك لأنها تتعلق بحصيلة متنوعة وكثيفة من التعيينات والتشاريع والقرارات والبرامج على امتداد العهدة الانتخابية مما لايسمحعمليا بتقييمها ومراقبتها بدقة.

وتعتبر الحوكمة تجسيدا لمبادىء التفويض والمسائلة التي تمثل جوهر الديمقراطية التمثيلية. ولقد تطورت نتيجةالتحديات التي نشأت عنالتفاصيل التنفيذية لتجسيد "حكم الشعب عبر ممثليه". وهيمكمّلة لأسس الديمقراطية، كالانتخابات النزيهة وفصل السلط وحرية الاعلام، اذ بهاتكتمل نجاعة هذه المنظومة في تحقيق أهدافها. ومن الطبيعي إذا أن يكون نجاحنا في تركيز حوكمة رشيدة، سواء داخل الاحزاب أو الدولة، شرطا ومقدمة لجني ثمار الانتقال الديمقراطي، وذلك على غرار التجارب المماثلة. ولاغرابة في أن تمثل معركة تكريسها تحدّيا ورهانا كبيرا، فأعرق الديمقراطيات لا تزال الى اليوم تطوّر في تفاصيل تجسيد الحكم الرشيد، باعتبار أن الديمقراطية رغم استنادها الى مبادئ ثابتة، تبقى مسار"حيا" وتحتاج في تفاصيلها الاجرائية دوما الى التنقيح والتطوير تفاعلا مع ما يطرأ من مظاهر وانحرافات تتعلق بطبيعة الانسان وصراعاته الأبدية بين خدمة ما هو ذاتي وما هو مشترك.

ولا يجب ان نقلل من اهمية ما تحققفي السّنوات الاخيرة من منجزات في هذا المجال على غرار تكريس حق النفاذ الى المعلومة ومراقبة الاثراء غير المشروع وتضارب المصالح وآلياتالديمقراطية التشاركية. الّا أنّ سنن الحياة تفرض ااّف نحصد ايّاما معدودة بعد أن نزرع، كما ان الادوات وحدها لا تصنع المنتوج بل تحتاج الى حسن التوظيف والمثابرة. وفعلا، لم يتجسّد حق النّفاذ الى المعلومة بمجرّد صدور التشريع له وانّما بعد استثمار الهيئات المعنية ومنظمات المجتمع المدني والخبراء لهذه الاليات لتسليط الضّوء على عدد من القضايا الهامة ومنها قطاع الطاقة ومتابعة أعمال المجالس المنتخبة. كما مكّن الواقع الجديد دائرة المحاسبات من تفعيل رقابتها على التصرف في المال العام من خلال مناقشة تقاريرها عبر منابر الاعلام، فيما سمح المناخ الجديد بتعدد البحوث والدراسات حول تطوير الحوكمة ومقاومة الفساد في القطاع العام.

ومع ما تحقق من مكاسب، تقف بلادنا اليوم في منتصف مسار انتقالي تاريخي متطلعة الى تجسيد ثمار الانتقال الديمقراطي عبر خوض معركة جديدة بهدف ارساء حوكمة رشيدة في مختلف مؤسسات المشهد الديمقراطي باعتبارها المدخل الرئيسي لتجويد مضامين البرامج والسياسات ولضمان حسن تنفيذها. واذ اعتمدتمعركةاسقاط الاستبداد وافتكاك الحريات على النضال والتضحية عبر التعبئة والاحتجاج في الشوارع والمنابر، فان المعركة القادمة تتطلب مقاربة متماهية مع ما يتطلبه البناء من استناد الىالارادةالهادئةوالفكر المجدد وما يقتضيه ذلك من مناخات ملائمة ومن ضرورة الاستفادة من مختلف الكفاءات والتجارب ومد الجسور مع كل القوى الحيةالمؤمنةبضرورة تحديث المؤسسات والمستعدة للعمل وللتضحية في سبيل ذلك.
ولا يمكن ان نتغافل اليوم ونحن نحتفي بالذكرى الثامنة للثورة عن تواصل الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية وتفشي بعض مظاهر التسيب والرداءة مما أدى الى اهتزاز الثقة في المسار الانتقالي وافاقه، الا ان التجارب الإنسانية والتحليل العقلاني يدفعاننا على عكس ذلك الى مزيد الحرص على استكمال ما تبقى من اليات تنفيذية وتفاصيل إجرائية هامة باعتبارها شرطا أساسيا لتكريس الحكم الرشيد واستثمار ما تقدم من عمل تأسيسي هام.

وفي الختام، فان النجاح في المعركة القادمة يستوجب منمختلف النخب إعادة ترتيب الأولويات وتجديد الخطاب حتى نتجاوز السجالات الهامشية التي تستنفذ طاقاتنا دون أن تستوعب رهانات المرحلة القادمة. فالمطلوب اليوم هو الانتقال الى مربّع البِناء للتنافس حول الرّؤى والبرامج والأفكار بما يتقدم بنا نحو إرساء حوكمة ناجعة وبما يفتح الافاق امام تنمية شاملة تستكملت جسيد الحرية بمختلف أبعادها. انها معركة جيل بأسره وبكل مكوناته دون اقصاء أو تمييز، جيل يمكن أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه شريطة تغلّبه على الرّؤى الضيّقة ونبذه للمعارك الهامشية التي تُقسِّم ولا تجمّع وشريطة ايمانه بثراء المشترك وبأهمية فتح الافاق امام الطاقات الشابة والكفاءات الوطنية للمساهمة في غد أفضل لكل التونسيين بما يساهم في استرجاع بلادنا لدورها التاريخي في الاسهام الفاعل في الحضارة الانسانية.

د. خليل العميري
كاتب دولة لدى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي مكلف بالبحث العلمي
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.