الــدبلـومـاسية الثقـافيــة، الدبـلومـاسيــة النـاعــمـة
الدبلوماسية الثقافية، مصطلح حديث راج في العقود الأخيرة ولاسيّما منذ تسعينات القرن الماضي..، وهي في بعض أبعادها صنو الدبلوماسية الناعمة ...دبلوماسية اللطف والكياسة وإقناع العقل والوجدان وإغراء العين و سائر الحواسّ من خلال التركيز على الجمال و مختلف المؤثّرات الحسية...وهي نقيض الدبلوماسية الخشنة ...دبلوماسية القوّة أو التهديد بها لفرض فكرة أو الترويج لبضاعة أو خدمة مصلحة أو توسيع نفوذ.
دعاني لكتابة هذه الورقة ما استقرّ عندي بعد ثلاثة عقود ونصف من العمل الدبلوماسي أنّه ما من محمل أقدر من الثقافة جسرا للتواصل والتعارف والتفاهم، فالتعاون والتضامن بين الشعوب مهما شطت المسافة ونأت الديار.
دعاني إلى ذلك أيضا، ماذكره لي وزير خارجية بلد أفريقي صديق، كنت أقدّم له نسخة من أوراق اعتمادي، من أنّ الثقافة التونسية، ممثّلة في أواني الخزف وجرار الزيت والقمح قد وصلت إلى بلاده منذ 2500 سنة، في إشارة منه إلى إشعاع حضارة قرطاج العظيمة التي سادت المتوسّط وتجاوزته إلى أعماق أفريقيا التي وصلتها الإبداعات والبضائع التونسية، وفي تأكيد على الأهميّة التي تكتسيها الثقافة وقدرتها على الصمود أمام عوادي الزمان والمكان.
«أليست الثقافة ما يبقى قائما من المنجز الإنساني عندما ننسى كلّ شيء؟»
سنسعى في هذه العجالة إلى مقاربة مسالة الدبلوماسية الثقافية من خلال الإجابة عن سؤال: ما هي الدبلوماسية الثقافية؟
وما هي علاقتها بالدبلوماسية العامة والدبلوماسية الاقتصادية؟ وقبل ذلك ماهي الأرضية الأخلاقية والفكرية التي تؤطّرها؟
لقد كانت الثقافة حاضرة عبر التاريخ في العلاقات الدولية.غير أنّ منسوبها وقوّة إشعاعها قد يزيد وقد ينقص حسب الظروف والسياقات.وكلّما زاد هذا المنسوب، أفادت الإنسانية من ذلك.ومتى تراجع هذا المنسوب، زادت إمكانيات التصادم والنزاعات واحتمالات ظهور المخاطر التي تهدّد الانسان في كيانه وكرامته وحرّيته. إنّ الخلفية الأخلاقية والنظرية لمصطلح الدبلوماسية الثقافية تتمثّل في الرغبة الأكيدة للقطع مع ما أورثته تلك النزعات العنصرية التي روّجت-حتّى عهود قريبة- لوجود أجناس راقية وأخرى متخلفة ولثقافات مبدعة وأخرى قاصرة ولمعتقدات تدعو الى المحبّة وأخرى تحرّض على العنف، وما خلّفه ذلك من شروخ عميقة في الذاكرة الجمعية للإنسانية. وانّه لمن نافلة القول التذكير بأنّ أحلك المراحل التاريخية التى عرفتها الإنسانية وأبشع الجرائم التي ارتكبت في حقّها كانت تتغذّى من تلك السلوكيات المقيتة التي تقوم على نزعات التفوق العرقي ومركّبات الغرور الحضارى والثقافي.تلك السلوكيات التي أنكرت على الإنسان إنسانيته، وتجاهلت أنّ الحضارة في جوهرها مشتركات إنسانية متنوّعة المصادر متعدّدة الروافد وأنّ الثقافة بما هي ثقافة تقوم على تعدّد الأصول وتنوّع الإسهامات شرقا وغربا. إنّ ما استقرّ في أدبيّات الأمم المتحدة ولا سيّما في منظمة اليونسكو من أنّ تنوّع الثقافات لم يعد مبرّرا للتمييز الثقافي والعدائية والتصادم بل أصبح أساسا للاعتراف المتبادل والتعارف والتفاهم والثراء الثقافي،سواء صلب الثقافة الواحدة أو ضمن الطيف الثقافي الكوني العريض، أصبح يشكّل القاعدة الصلبة للدبلوماسية الثقافية.
ذلك أنّ المحاضرة التي القاها، أواسط القرن الماضي، عالم الانتروبولوجيا الفرنسي لفي ستروس «عن العرق والتاريخ» أسّست لمنعطف جديد في التعامل مع الثقافات وتنوّعها. فقد دلّل هذا الأستاذ الجليل بالاستناد إلى علم الانتروبولوجيا على أنّ الثقافات وإن اختلفت، فإنّها لا تتفاضل بل تتنوّع. على معنى أنّه لا يمكن لأيّ زعم بتفوّق هذه الثقافة أو تلك على بقية الثقافات أن يصمد أمام العلم. وأنّه من الضروري إدراك ما بين الثقافات من تمايز وما تنطوي عليه من تعدّد واختلاف. ويترتّب عن هذا أنّ الإقرار بوجود خلفيات وعناصر مشتركة بين الثقافات حقيقة لا تتعارض مع حقيقة الخصب متعدّد الأشكال والمظاهر والموجود في الثقافات الإنسانية قاطبة سواء منها القائمة أو المندثرة. كما أنّ الأساس الثاني الذي يتعيّن أن تقوم عليه العلاقات بين الشعوب هو الاعتراف بالاختلاف، بعيدا عن الأحكام المعيارية والمسبّقة المتمركزة حول الذات والقبول، من حيث المبدإ، بالنظر إلى هذا التنوّع على أنّه فرصة كبيرة لأمرين هامّين: التعارف ، من ناحية، والتفاهم والاحترام المتبادل، من ناحية أخرى باعتبار أنّ الثقافات صورة لما تنطوي عليه ذوات أصحابها من رؤى وقيم ومفاهيم ومواقف، وإنّ التعرّف على هذه الثقافة أو تلك هو من أنسب المداخل إلى فهم خصوصيات الشعوب. وعلى قدر ما يمكّن التعارف والتفاهم من إدراك الذات والوعي بالهويّة، فإنّهما يعزّزان، أيضا، الإحساس بالانتماء إلى النوع الإنساني ويجعلان الثقافات المختلفة تحضر في الذهن على أنّها روافد متنوّعة تصبّ في مجرى الثقافة الانسانية الثرّ ورصيد خيراتها وإبداعاتها.
الدبلوماسية الثقافية والقوّة الناعمة
لئن فنّدت العلوم الإنسانية ولا سيّما الانتروبولوجيا نظرية المفاضلة بين الأعراق وقوّضت مشروعيتها، فإنّها لم تنكر وجود تفاوت بين الثقافات من حيث القوّة، مميّزة بذلك بين الثقافة نفسها وما للثقافة من قوّة وتأثير. والدبلوماسية الثقافية هي، في بعض التعريفات المعاصرة، ضرب من ضروب تفعيل هذه القوّة الناعمة في مجال العلاقات الدولية بهدف تعزيز جاذبية النموذج الثقافي في المجتمع الذي تخدمه تلك الدبلوماسية . وإذا كان استخدام هذه القوّة قديما قدم العلاقات الدولية فإنّ تمثّله والوعي به والتنظير له لم يعرف بداياته الحقيقية إلاّ مع الحرب الباردة، حيث حرص كلّ من النموذجين الرأسمالي والاشتراكي على تسويق نفسه على أنّه النموذج الأمثل للاحتذاء به. فقد ركّز الأوّل على قيم الحرية و الرّفاه، في حين ركّز الثاني على القيم الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
إنّ تفكّك النموذج الاشتراكي وما شهدته بداية تسعينات القرن الماضي من تحوّلات جوهرية في مفهوم التنمية وما باتت توليه للثقافة من مركزية، وما شهده العالم من ثورة تكنولوجية واتصالية، وتحوّل الثقافة من الأنماط الاقتصادية الصاعدة إلى مجال استثماري متسارع التوسّع فضلا عمّا وفّرته الاتفاقية الدولية للتجارة الحرّة من فرص في الخدمات والمنتجات الثقافية، كلّها عوامل أفاد منها مفهوم القوّة الناعمة في علاقته مع إدارة العلاقات الخارجية للدول وتبلورت بذلك مفاهيم دبلوماسية جديدة كانت الدبلوماسية الثقافية من أبرزها.وهو مفهوم يشير إلى جملة الآليات والإجراءات الموظّفة لتنفيذ سياسة خارجية ثقافية تعمل على رفع كفاءة الدبلوماسية العامة وخدمة مسار السياسات الخارجية القطاعية والاستفادة منها لتحريك التنمية الثقافية. ولئن غدت الدبلوماسية الثقافية اليوم، درسا مهمّا من دروس العلاقات الدولية في بعديها النظري والتطبيقي،فإنّها مع ذلك، لم تفرز مدارس متمايزة وواضحة، بقدر ما أفرزت اتجاهات منطوية على قدر كبير من التداخل والتفاعل، بعضها متعدّد الأطراف وبعضها ثنائي والبعض الآخر انخرط فيه المجتمع المدني والمنظمات الأهلية والقطاع الخاص بشكل ملحوظ، قصد بناء الشراكات الثقافية والتعاون الفني وخلق الفرص المواتية للتنمية الثقافية من حيث هي مدخل للتنمية الشاملة.
الدبلـــومــاســـيـــة الثــقــافيــة والدبلــوماسيــة الــعـامة
أصبحت مدارس العلوم السياسية والدبلوماسية المعاصرة تولي أهميّة خاصّة للثقافة في التكوين الدبلوماسي باعتبارها تشكّل إضافة نوعية إلى آداء الفاعلين الدبلوماسيين. تزوّدهم بروافد تمكين جديدة وقوّة داعمة بما يساعد على رفع درجة كفاءتهم وفاعليتهم في اضطلاعهم بمهام الدبلوماسية التقليدية من تمثيل ورعاية مصالح وتنمية لعلاقات التعاون والصداقة مع دول الاعتماد وذلك بالخصوص من خلال :
- رفع درجة التعارف بين الشعوب مع إبراز المزايا الإبداعية والابتكارية بقصد تنمية رصيد التقدير المتبادل وتعزيز أسباب التقارب.
- وتوظيف التفاهم الثقافي لإرساء فهم عميق لما وراء سياسات كلّ طرف ومواقفه واختياراته.
هذا فضلا عن تعزيز أركان السلم والأمن والاستقرار من خلال دعم العلاقات الدولية وتوجيهها نحو البناء على القيم والمصالح المشتركة والتعامل مع التحديات المطروحة في كنف التضامن والوئام.
الدبلـومـاسيـة الثقــافــيـة والدبلــومــاســيـة الاقتـصادية
أضحت الدبلوماسية الثقافية تضطلع ،اليوم، بأدوار كبيرة في خدمة العلاقات الاقتصادية بين الدول. وهي أدوار علي أهميتها، آخذة في التعقيد بحكم المنافسة على الأسواق وتضارب المصالح والتشابك الكبير الذي أصبح عليه الاقتصاد العالمي المعولم رغم النزعة الحمائية الذي توخّاها الرئيس الأمريكي ترامب وسعيه لتقليص التعاون متعدّد الأطراف الذي انبنى عليه النظام الدولي بعد الحرب الكونية الثانية وما أورثه ذلك من إرباك وقلق على الساحة الدولية.
ويمكن،مع ذلك،الوقوف على ثلاثة وجوه لهذه الأدوار.
الدبلوماسية الثقافية في خدمة الدبلوماسية الاقتصادية
إنّ البعد الثقافي في الدبلوماسية يدعم فرص التعاون الاقتصادي من خلال الترويج الثقافي للنجاحات الاقتصادية ولمَناخات الاستثمار وفرصه ومزاياه. وهذا ما يتجلّى عادة في قطاعات مثل التعليم والبحث العلمي والدراسات والإعلام وسائر آليات التاثير الثقافي في القرارات والسياسات الاقتصادية للدول والمنظمات والهيئات .
الدبلوماسية الثقافية كمظهر من مظاهر الدبلوماسية الاقتصادية
إنّ الدبلوماسية ليست ترويجا للرؤى والأفكار والقيم وسواها من المضامين الثقافية فحسب بل هي،أيضا، ولاسيما في العقود الأخيرة، ترويج للمنتجات والخدمات الثقافية واستكشاف لفرص الاستثمار في المجال الثقافي والتعريف بالكفاءات الوطنية المبدعة وبناء الشركات لتحقيق مشاريع ثقافية مشتركة (متحف اللوفر وجامعة الصوربون في الإمارات العربية المتحدة...ديزني وورلد...).هذا فضلا عن الاستثمار في قطاعات جديدة كاقتصاد المعرفة والسياحة الثقافية وهو ضرب من السياحة لا غنى فيه عن الثقافة وعن الدبلوماسية الثقافية.
الدبلوماسية الاقتصادية في خدمة الدبلوماسية الثقافية
إنّ ما رافق العولمة وتحرير التجارة العالمية من انتشار واسع لشبكات تبادل البضائع والسلع والخدمات قد أدّى إلى نشر محمولات ثقافية مصاحبة لم يعد أثرها خافيا في ثقافات الدول المستقبلية، من قبيل استيراد الدول العربية للعطور الفرنسية والموضة الإيطالية واستهلاك وجبات الهمبرغر الأمريكية والمسلسلات التركية. وهي أمثلة لإدراك حجم الأثر الثقافي الملاحظ على سلوكيات الناس وعاداتهم وأنماط حياتهم ولتفهّم المحاذير والتخوّفات من فرض أنماط ثقافية وافدة تعمل على ربط شعوب الأسواق المستضيفة بمرجعيات ثقافية وأنماط حضارية قصدت عن وعي أن تجعل للواجهة الاقتصادية ظلالا ثقافية تحجب وراءها ظلالا سياسية وحضارية. وخلاصة القول إنّ الدبلومسية الثقافية، بما هي نهج جديد في العلاقات الدولية، فإنّ أهميتها تكمن في مدى احترامها لهويّات الشعوب وخصوصياتها الثقافية بما يوفّر الفرصة لقيام حوار مثمر وبنّاء بين مختلف الحضارات والثقافات والأديان بعيدا عن الثقافة النمطية التي تشوّه الواقع وتتعسّف على التاريخ وتحرم الانسانية من عبقرية أبنائها وتعدّد إبداعاتهم.
خالد الزّيتوني
سفير سابق
- اكتب تعليق
- تعليق