التباين في مفهوم الأمن بين الوطني والقومي
لا شك أنّ أزمة "الثقافة الأمنية" هي أزمة مفاهيم تتعدى مسألة وجهات النظر إلى الاختلاف في المضامين الجوهرية. ويتنزّل التباين الحاصل في مفهوم "الوطني" و"القومي" في هذا السياق، حيث تعتمد بعض الدول تعبير " الأمن القومي" للدلالة على أمن الدولة أو أمن عدة دول، فيما تفضّل أخرى الفصل بين " الأمن الوطني" في مفهوم أمن الدولة الواحدة، و بين الأمن القومي كمصطلح خاص بأمن عدة دول تشترك في صفة أو مصلحة معيّنة.
لم يعد ممكنا تواصل التداخل بين حدود الأمن الوطني والأمن القومي. و من غير المقبول استمرار التعامل مع هذا الواقع دون مراجعات نقدية.
مفهوم الأمن الوطني وحدوده
يقف مفهوم "الأمن الوطني" عند الحدود السياسية لكل قطر باعتباره الصورة المثالية للتطور السياسي، والتي وفقا لها يمكن التحرّك، سواء في نطاق الدائرة العربية أو الدائرة الدولية.
وعلى هذا المعنى تعدّدت الاصطلاحات و التعاريف الخاصة به لتطرح ثلاث ثوابت:
- تحديد مصالح الأمن الحيوية للدولة
- تعريف التهديدات لهذه المصالح
- تجميع الموارد العسكرية والاقتصادية والسياسية لحماية هذه المصالح.
وتعود جذور اشكالية استعمال لفظ " الأمن القومي" كمرادف "للأمن الوطني"، إلى الفقه الغربي الذي يقف بالمفهوم عند حدود الكيان السياسي والقانوني المُحدَّد المعالم، ويفيد بدرجة أولى أمن الدولة. والحال أن الدولة بوصفها صورة حديثة للمجتمع السياسي قد ارتكزت في نشأتها على مفهوم "الأمة"، وما يرتبط ذلك بمفاهيم السيادة ووحدة الانتماء والمخاطر و المصير.
لا زلت مع الرأي الداعي لأن يكون: "لكل دولة عربية أمنها الوطني شاملا لمختلف خصوصياته الوطنية، وحساباتها الداخلية وأيضا الخارجية في علاقاتها الدولية والثنائية". إنّ أرقى تطور لمفهوم الأمن الوطني يتمثل في بناء الدولة ذات السيادة و بناء الأمة، والارتقاء بالعلاقات من الموالاة الشخصية إلى المواطنة والولاء للوطن. وعلى مكتسبات الأمن الوطني يتم الارتقاء إلى مرحلة الأمن المشترك.
ليس هناك تماثل بين الأمن القومي وأمن الدولة (الأمن الوطني) وليس هناك تطابق بين القومية والدولة، ومن الصعب أن نفسّر مصطلح الأمن القومي كتعبير عن الدولة –الأمة، وأن نضفي صفة "القومية" على الأمن بدعوى تعدّد مجالاته وأبعاده ومؤثراته.
إنّ التحديد الدقيق لمفهوم الأمن يستند أساسا إلى المستوى الذي يتعامل معه.
الأمن القومي كمطلب عربي
يعود اعتماد مصطلح الأمن القومي دوليا إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، وإلى صدور قانون الأمن القومي الأمريكي سنة 1947 ويتعلق بالدراسات الاستراتيجية و التخطيط السياسي وبناء رؤى مستقبلية. وتوسّع نطاق اعتماد هذا المفهوم في بعض البلدان العربية تزامنا مع القومية العربية التي ظهرت في أوائل القرن العشرين وأخذت شكل الثورة على الحكم العثماني، ثم النضال ضد الهيمنة الاستعمارية.
لقد تغير مفهوم الأمن القومي التقليدي، وأدخلت عليه تعديلات في السنوات العشرين الأخيرة لتتماشى والتحولات الدولية. لا أناقش فكرة " أن العرب يفتقدون للمبادرة"، ولكن ما المانع من إفساح المجال لذوي الاختصاص، لإعادة تقييم الأمن القومي العربي في ظل التحولات الدولية والإقليمية. لقد كانت نهاية الحرب الباردة سنة 1989، و تفشي ظاهرة الارهاب العابر للحدود الممثلة في تنظيمي " القاعدة" و" داعش"، منطلقا جديدا على المستوى الدولي لمراجعة هذا المفهوم وملائمته مع مفهوم الأمن الوطني.
ليس ثمّة شك في أن تطوير جامعة الدول العربية وإصلاحها، ودعم التكتّل الإقليمي العربي في كلّ من إتحاد المغرب العربي، ومجلس التعاون الخليجي، وبعث تكتّل شرق أوسطي يضمّ مصر و دول الهلال الخصيب، وتفعيل التكامل الاقتصادي العربي، بات أمرا لازما لاغنى عنه.
وإذا كانت التحديات الراهنة موضوعها تفتيت العالم العربي وإثارة الفتن وإشاعة الفوضى داخله فانّ الأمن القومي العربي يصبح تعبيرا عن ثلاثة مطالب:
- فكرة الضرورة التي تعني حق الدفاع عن النفس، وما يرتبط به من قدرة عسكرية.
- فكرة وحدة الارادة في مواجهة الخطر، بما يعني التعاون والتقارب بين البلاد العربية.
- حق التنمية والبناء انطلاقا من حقيقة التكامل بين مختلف أجزاء المنطقة العربية.
الحقيقة الساطعة والمُغيّبة هي حدود قدرات الدولة العربية في المطلق للتصدي للمخاطر التي تهدّد أمنها الوطني. والمؤسف أننا لم نستفد من تقريب المسافات الجغرافية لصناعة التاريخ، ولم نستخلص الدروس من التجارب الدولية و من تجاربنا المؤلمة، فالأمن القومي لازال مجرد تطلّع عربي وغيابه خلق فراغا مغريا لأطراف إقليمية وقُوى دولية.
لم نصل بعدُ إلى حالة الوحدة التي يتماهى فيها الأمن القومي مع الأمن الوطني للدول العربية.
محسن بن عيسى
متقاعد من سلك الحرس الوطني
- اكتب تعليق
- تعليق